إن تشخيص اﻷسباب الحقيقية الواقعية لكل مشكلة يلعب دورا رئيسيا في تمهيد الطريق الى وضع الحلول الناجعة..وهذا التشخيص الحقيقي هو القوام اﻷساسي للوعي، فالوعي لابد أن يستمد وجوده من الواقع وبخلاف ذلك فسوف تحل محله اﻷوهام..وعلى هذا اﻷساس نشأت علوم إنسانية عريقة أهتمت أهتماما كبيرا بهذه المسألة ، ويتصدر تلك العلوم اﻹنسانية الفلسفة والمنطق..فالفلسفة اﻹيجابية أهتمت بالواقع كثيرا وآمنت بأن اليقين هو الطريق الموصل إليه…أما المنطق العقلي(اﻷرسطي) فقد تكفل بيان القواعد العامة التي ينبغي مراعاتها عند التفكير واﻷستنتاج لكي يكون صحيحا وواقعيا…وهنا تكمن المشكلة ، أعني التفكير واﻷستنتاج ، ﻷنه ليس بالضرورة أن يكون التفكير معصوما عن الخطأ ، بل هو كثيرا ما يتورط في اﻷخطاء واﻷوهام!!إن التفكير البشري يشبه عملية البناء ، فإن عملية البناء تحتاج الى (شاقول) البناء لكي يكون البناء مستقيما…وكذا اﻷمر بالنسبة للتفكير فإنه يحتاج الى المنطق أي يحتاج الى القواعد العامة التي تضمن له صحة التفكير..إن الفلاسفة كان همهم اﻷكبر هو التعرف على العلل اﻷولى للكون ثم بعد ذلك صار أهتمامهم يشمل معرفة أسباب جميع اﻷشياء التي تحوطهم في الكون وهذا اﻷمر واضح فيما يصطلح عليه قديما بالحكمة التي كانت تهتم بالإلهيات والرياضيات والطبيعيات واﻷخلاق…إن فلسفة الشئ تعني معرفة سببه وغايته ، ولابد للإنسان أن يعتمد على البرهان كي يصل الى معرفة الحقيقة…ﻷن البرهان هو علة اليقين، واليقين هو الطريق الذي يكشف لنا الحقيقة والواقع ، فالبرهان هو اليقين بثبوت شئ لشئ عن طريقة معرفة العلة في ثبوته له..وبعد هذه المقدمة الموجزة نعود الى (( أسطورة الدولة المدنية )).. هذا الشعار الذي ينادي به البعض وكأنه المنقذ الحقيقي للبشرية وخصوصا الشعب العراقي المظلوم ، فالدولة المدنية بحسب زعمهم هي الحل..!! وهذا اﻷعتقاد قائم على تشخيص اﻷسباب التي أدت الى نشوء كل ألوان الظلم البشري…!!!وهم بكل كرم وسخاء يقدمون لنا هذا الحل اﻷسطوري “الدولة المدنية” ، غير أن الوجدان قبل البرهان يثبت أن هذا الزعم هو محض أوهام وخيال ، ولو تعدينا الناحية النظرية فإن الواقع المعاش ومنذ مئات السنين شهد الكثير من التجارب التي طبقت فيها الدولة المدنية على الشعوب ، والتاريخ يشهد أن الظلم البشري إزداد وخير شاهد على ذلك الحروب العالمية والحروب اﻷقليمية واﻷهلية والصراعات الدموية والكوارث اﻷنسانية…..أما من الناحية النظرية فهذا يعتمد على تشخيص اﻷسباب الحقيقية الواقعية من خلال البرهان واليقين وليس مجرد الظنون واﻷوهام التي يتشبث بها أرباب الدولة المدنية!!…والمثل العراقي يقول:(( الغرگان یچلب بگشایه ))…إن قصة الظلم البشري ليست قصة جديدة بل هي تمثل قصة كفاح الحضارة اﻷنسانية على أرضنا الحبيبة…أنه من المؤسف جدا أن تتحول الوسيلة الى صنم يعبد ، وهذا الشئ ينطبق على أسطورة الدولة المدنية التي صارت صنما يعبده الكثير من دعاة الحرية وقد غفلوا وتناسوا ما هو اﻷهم من ذلك، أعني العدل والعدالة…