لم يبتلِ عصر من عصور التاريخ بحكم نمطي متعسف مثلما أبتلي به عصر ما قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية ، فلا زال المشاع ،حتى بين الكثير من أهل الاختصاص ،انه عصر جاهلي ، على الرغم من كثرة البحوث والدراسات التي تشير إلى إن أهله لم يكونوا منقطعين عن محيطهم الحضاري ، وإن قسوة الجغرافية لم تقف حائلا دون تدفق سيل تجارب الأمم المجايلة ولعل الواقع خلاف ذلك ، فقد كانت حواضر صحراء العرب لا تعدم من أصحاب النظر والملل والحكمة وما صفة الجاهلية إلا صبغة إقصائية أشاعها ظهور الإسلام وانتشاره السريع في تلك الأصقاع .
وكانت الأسطورة في عصر ما قبل الإسلام ، كأساطير الأمم الأخرى ، تنطوي على ظاهرة ثقافية إنسانية تتناقلها الأجيال، وظلت محافظة على قدرتها الإيحائية المنبثقة عن نظام ديني موضحة معتقده ومتماهية بطقوسه ، واستطاع عرب الجزيرة توظيف سحر الكلمات بصياغة أساطيرهم الخاصة متأثرين ومؤثرين بمن جاورهم من الأقوام لبلورة ما يمنح الفرد مبررا للوجود ويعطيه ذاكرة تاريخية تغنيه عن التاريخ الدنيوي وأفضى بهم التفكير، كغيرهم ، إلى نتيجة مفادها إن الإنسان أداة لتنفيذ خطط الأرباب .
وقد تناول الدكتور عبد الله العذري ذلك في مقدمة كتابه الموسوم “إسطورة الخلق العربية ” والصادر عن دار الوراق إذ يقول في مقدمته انه قضى أكثر من ثلاثين عاما في جمع وغربلة مادة كتابه ، والبحث في بطون كتب التراث والمخيال الشعبي عن الشذرات المبعثرة في تلافيفها . بعد ان اكتشف إن رمي السن اللبني المقلوع إلى قرص الشمس هو ممارسة جاهلية ،ليصل من خلال ذلك إلى نتيجة مفادها (من الممكن ان تبقى الأساطير الجاهلية حية متداولة منذ طوفان نوح إلى إن جمعت في العصر الإسلامي ) ص16
يقول المؤلف انه اكتشف نفسه يخوض في عالم مألوف عندما شرع في كتابة هذه الدراسة ، فقد كانت القصص في أسطورة الخلق العربية تروى خلال شهر رمضان في المجالس وكانت متداولة بين أهالي قريته (في اليمن ) خلال سني طفولته وظلت عالقة في ذاكرته ،وانه (وهو شاعر ومؤرخ ادبي ) قام بصياغة تلك الشذرات في إطار ملحمي جديد ، بأسلوب بليغ افرغ فيه خبرته ومهاراته في التمكن من أدوات الشعر والفنون البلاغية فجاءت سور الملحمة محاكاة للقرآن من حيث نظام الإيقاع والوقفات بين الآيات يبدأ ب(تلبية ) لبيك اللهم لبيك ثم السورة الأولى بعنوان رؤيا تناول فيها قرار الله في أن يخلق العالم ،وخلق العرش واللوح في السورة الثانية ثم تتوالى السور الأخرى حتى يصل بها إلى أربعين سورة تشتمل على عدد من المقاطع (آيات )، و لكل سورة عنوانها الذي اختاره المؤلف بشكل دقيق .
وبقي القول إن عبد الله العذري قد تعامل مع (فكرة الدراسة) بشجاعة ولكن دراسته لم تشبع حاجة البحث في الإجابة عن الكثير من التساؤلات الكبرى ،أما من جانب الصياغة الأدبية فقد أضعف نصه الأدبي في إدخاله بعض الألفاظ العامية في الملحمة ،ومنها عندما سأل إبليس قابيل عن رغبته في قتل هابيل ، قال قابيل ((أيوه)) لا اعرف كيف ص244 ، وفي مكان آخر وان آدم يسأل حواء ((ليش صرخت )) ص252
والملاحظة الأخرى أن العذري لم يشر إلى مصادر تلك الشذرات التي بنا عليها نص الأسطورة واكتفى بالتنويه قائلا (المشكلة ليست في المصادر ،فالمصادر كثيرة ومتوفرة لكن المشكلة في تصورنا لهذه المصادر وكيفية التفاعل معها ) وكان الأجدر به أحالتها للنصوص الأصلية وذكر مصادرها لتكون الفائدة بالغة للباحثين والمهتمين ،وان السرد الأدبي ، وإن كان على مستوى فني رفيع ، إلا انه لا يغني عن التحقق شيئا .