يعج الشرق بالحضارات المتعاقبة.. وكلمة الشرق لا تعني فقط الدول العربية وإن كانت جزءاً مهماً منها لكها تشمل دولاً أخرى مثل تركيا، ايران، الهند وحتى الصين..
لذلك كانت ولا زالت الحضارات القديمة التي سكنت في أرض المشرق محل تقدير واحترام ومصدراً للسحر والغموض والأساطير، والتي وجدت أيضاً في الكثير من دول أوروبا والعالم فكان لكل بلد إسهاماته الحضارية والثقافية..
ومما لا شك فيه أن هناك أيقوناتٍ تاريخية تظل في ذاكرة البشر لأنها تحتوي على العديد من الأسرار التي لا زالت غامضة، ومنها أسطورة الثور المجنح والذي ارتبط ارتباطا وثيقاً بالحضارة الآشورية في العراق ويسمى أيضاً (شيدو لاموسو)، وكان هذا الإسم يستعمل لأنثى من الجن مهمتها حماية المدن والقصور ودور العبادة، أما الجن الذكر الحامي فكان بالسومرية يعرف باسم (آلادلامو) وبالآشورية القديمة (سمي شيدو)..
والثور المجنح هو تمثال ضخم يبلغ طوله ٤,٤٢ م ويزن أكثر من ٣٠ طناً.. وهو فردٌ من زوجٍ يحرس باباً من أبواب سور مدينة (دور شروكين) التي شيدها الملك الاشوري سرجون الثاني (٧٢١- ٧٠٥ ق.م) والتي هجرها سنحاريب بن سرجون الثاني، حيث نقل العاصمة إلى مدينة نينوى..
فكان الآشوريون يعتقدون أنهم وبرغم وفرة الجنود وقوتهم يحتاجون إلى قوة أكبر تحميهم فصنعوه، ويرمز إلى القوة والحكمة والشجاعة والسمو، وقد اشتهرت الحضارة الآشورية بالثيران المجنحة ولاسيما مملكة آشور وقصور ملوكها في مدينة نينوى وآشور في شمال بلاد ما بين النهرين، والذي غدا رمزاً من رموز هذه الحضارة التي كانت تعتمد القوة كمبدأ في سياستها وانتشارها..
وقد تضاربت الأقوال حول هذا الكائن الأسطوري بين علماء الآثار والتاريخ وكان لكل منهم رأي خاص به تاريخياً، كما أن هناك الكثير من الباحثين المختصين في مختلف الديانات السماوية يشيرون إلى أن (الثور المجنح) هو أحد الملوك أو الشخصيات التي تحظى بهالة من القداسة أو يشار إليها كطاغية في القرآن والإنجيل والتوراة..
وتزداد أسطورته تأثيراً لأنه يجمع أربع عوامل في تكوينه وهي ثور بأجنحة نسر، ورأس إنسان وأقدام أسد، فيرمز الأسد للشجاعة والثور للقوة والنسر للمجد والإنسان للحكمة، ويجتمعون في كائنٍ خارق تكريساً لفكرة العناية الخارقة والتي توجد في مختلف الأديان، وتكررت أيضاً بعد الحضارة الآشورية في العديد من الحضارات الأخرى القديمة لدى الفراعنة والرومان واليونانيين، وتواجدت ضمن الأيقونات والتماثيل المسيحية في العديد من الكنائس الأوروبية، كما وأن فكرة الثور المجنح شهدت العديد من التغيرات داخل الحضارة الآشورية نفسها فهو أحياناً ثورٌ مجنح برأس إنسان وأقدام أسد، أو برأس إنسان وأقدام ثور، وأحياناً يكون بلا أجنحة، مثل أحد التماثيل لأسد برأس انسان وله يدان، وقيل أنه مخصص للحماية أثناء الإستحمام، حيث تقول المعتقدات الآشورية القديمة أن رمي أو تحريك المياه الساخنة تجذب الروح الشريرة والتي تدعى (بازوزو)، ولا تزال النساء حتى اليوم تستعملن عبارة (كش) عفوياً (وهي عبارة تستخدم اليوم في مختلف الدول العربية لإبعاد الحيوانات سواءً كانت أليفة أو متوحشة ) وذلك لطرد الأرواح الشريرة لدى رمي أو تحريك الماء الساخن..
وتمثال (لاماسو) من دور (شركين) الموجود في الصورة موجود في عدة معاهد ومتاحف عالمية منها معهد جامعة شيكاغو الشرقية ومتحف اللوفر في باريس، والمتحف البريطاني، وهو مصنوع من الحجر الجيري في فترة العصر الآشوري الحديث، ٧٢١-٧٠٥ قبل الميلاد، والجدير بالذكر هو العثور على ثور مجنح جديد ضمن الآثار المكتشفة في العراق، وربما توجد تماثيل أخرى له سيتم اكتشافها في المستقبل، ويبقى الثور المجنح كائناً غامضاً وساحراً، وأسطورة جذابة تبعث في النفوس الرهبة والتوق إلى المزيد من المعرفة واستكشاف أسرارٍ لا زال البشر يحاولون فهمها بعد آلاف السنين..