5 نوفمبر، 2024 8:41 ص
Search
Close this search box.

أسرار أبقيتها طي الكتمان

أسرار أبقيتها طي الكتمان

عصمت صابر” قائداً للواء عراقي خاص في “حرب لبنان الأهليةحَدَث لم يعلم بحقائقه عن كثب سوى عدد يسير من العراقيين، بمن فيهم معظم ضباط الجيش العراقيّ وقواته المسلحة… ولربما لم أكن على أية دراية حتى بالبعض من تفاصيله، وليس جميعها، لو لم أشغل منذ أواخر (1975) وطيلة عام (1976) منصب “ضابط ركن الحركات/العمليات” لدى قيادة الفرقة المدرعة/3 في “معسكر صلاح الدين” شمالي مدينة “تكريت”، ويكون جاري وصديق عمري “المقدم المظلّيّ الركن عِصْمَتْ صابر عُمَر” -إبن “قلعة كركوك”- آمراً/قائداً لهذا اللواء المُكَلَّف بهذا الواجب الخاصّ، ويكون صديقي العزيز وإبن دورتي بالكلية العسكرية “الرائد المظلّي الركن خالد بَهلول” معاوناً له بمنصب “مقدم اللواء”، ولو لم تُكَلَّفْ قيادة فرقتنا بإسكان وحدات هذا اللواء الخاص بشكل مؤقّت وإستضافته في “معسكر صلاح الدين” بالذات لإستكمال معظم إحتياجاته ودعمه ومعاونته على تدريبه على خوض حرب المدن والشوارع، ثم توديعه لدى تنقـّله بالطائرات من
“قاعدة صلاح الدين الجوية” الواقعة بالقرب من “تكريت”، فضلاً عن تكليف قائد فرقتنا “العميد الركن طارق توفيق عبدالرزاق” لي بصفة “ضابط ركنه الشخصي” ويأمرني بترك جميع أعمالي اليومية الإعتياديّة لأتفرّغ لإحتياجات “عصمت” وأُصاحِبَه طيلة (24) ساعة لتسهيل إستحضاراته وسط تشكيلاتنا ووحداتنا ومعسكراتنا وساحات التدريب المتنوعة المتوفرة لدينا ومن مخزوناتنا لدى المستودعات والمخازن المتمركزة بالمنطقة، ولو لم يتّخذ “عصمت” من مكتبي الرسمي موقعاً مؤقـّتاً لمقر لوائه وإدارة شؤونه طيلة (10) أيام متتالية، وكونه -حسب رغبته- ضيفاً عزيزاً على سرير مضاف في غرفة منامي لأستمع إلى كل طلباته مع “الرائد الركن خالد بهلول” وتوجيهاته لضباط ركنه الآخرين ومُهاتَفاتِه وأحاديثه مع آمري/قادة وحداته وكذلك مع المراجع العليا لدى رئاسة أركان الجيش ووزارة الدفاع والقيادتين القوميّة والقطريّة لحزب البعث، حيث أُتيحَتْ لي فرصة تأريخية -لم تـُتـَح لسواي بشكل مطلق- كي أطلع عن كثب على أسرار هذه المهمة الخاصّة والكثير من تفاصيلها ومتعلقاتها وذيولها من دون الآخرين من جميع ضباط الجيش العراقي، بمن فيهم معظم ضباط ركن قيادة فرقتنا من غير المُكتَرِثين بقضايا خارجة عن أعمالهم اليومية.مشاركة العراق عسكرياً في الحرب الأهلية اللبنانية للمرّة الأُولى (1976) وللمرة الثانية (1978) وبواقع “لواء خاص” تم تشكيله لهذا الغرض تحديداً ولم يصطحب معه سوى أسلحته الشخصية والخفيفة ذات الفائدة في قتالات المدن والشوارع والأزقّة، لهو
كان قرار “العراق” في هذا الشأن الخطير خطوةً سياسيةً لمواجهة النفوذ السياسيّ والتمركز العسكريّ السوريّ المتعاظم في “لبنان” التي أُبْتـُلِيَت بالتدخّلات في شؤونها من كل حدب وصوب، بعد أن ذاقت -بشكل عام- أطايِب العيش ورَغَد الحياة منذ مَنَحَتْها “فرنسا” الإستقلال عام (1946).
وإذا ما تركنا الجذور والمشكلات القديمة جانباً مُحاولين إلقاء نظرة قريبة على مجريات الأمور في غضون السنوات القليلات المُنصرمات فحسب، لوجدنا أن أول الغيث سَقطَت قطراته على “لبنان” حين أُجْبِرَ المسلّحون الفلسطينيون المُسَجَّـلُة أسماؤهم بالآلاف في العديد من المنظّمات الفدائية، على ترك الأراضي الأردنية عام (1971) بُعَيْدَ أحداث (أيلول/سبتمبر1970)، ليجدوا مَلاذَهَم في جنوبيّ “لبنان” التي أُضطُرّتْ حكومتها في حينه لقبولهم مع أسلحتهم وأوضاعهم المادّيّة البائسة لأسباب إنسانية مصحوبة بضغوط سياسية عربية، ولكن جزءاً مُتَنَفِّذاً من شعبها وسُلطات دولتها ربّما تَنَدَّمَتْ على ذلك القبول بعد أن وجدت ليست في ديموغرافية البلد وقد أضحت لصالح المُسلِمين فحسب، بل أن السلاح -بمعظمه- بات في أيديهم من دون ضوابط وإلتزام بالقوانين المرعية والأعراف السائدة.
وفي حين كان اللاجِئون الفلسطينيون السابِقون منذ (1948 أو 1967) مستعدّين للعمل مقابل أية أجور يُزاحِمون بها المواطن اللبنانيّ الأصيل، فإنّ الآتِين الجُدُد بإنضمامهم إلى المنظّمات المسلّحة التي تتموّل من حيث لا يَدرون، قد غدوا قوة متعاظمة سوف لا تستطيع الدولة اللبنانيّة وجيشها المتواضع بالمستقبل القريب
الحدّ من تصرّفاتهم المُشابِهة لما كانوا عليها بالأردن، وفوق كل ذلك فقد أمسوا يُثيرون مشكلات على الحدود مع “إسرائيل” والتي عادة لا تسكت حيالها، فيحصل ما لا يُحمَد عقباه… وبين شَدِّ هذا وجَذبِ ذاك وتأييد هذه الدولة العربية وإستنكار تلك، إلى جانب تهديدات إسرائيلية وغربيّة بضرورة الحدّ من الإستحواذ الفلسطينيّ على جنوبيّ “لبنان” وإنقسام الآراء بين طوائف الفُسيفساء اللبنانيّ الذي كان رائعاً فيما مضى، والتأييد السوريّ للتواجد الفلسطينيّ بتلك البقاع، فقد حصل ما كان في الحُسبان ومُتَوَقَّعاً ظهيرة يوم (13آذار/مارس1975)، حين حاول ((البعض)) أمام كنيسة -كما ذكرناه في صفحات سابقة- إغتيال “بيار الجُمَيِّل” -الزعيم المسيحيّ اللبنانيّ الأقوى، ومؤسس “حزب الكتائب” بميليشياته المشهودة بأسلحتها الثقيلة من الدبابات ((الفرنسية)) الخفيفة والمدرعات المتنوّعة وأسلحة مقاومة الدبابات والطائرات والرشاشات، قبل أن يَقتلَ ((البعض)) في داخل حافلة ركاب (27) فلسطينياً عصر اليوم نفسه… فتحرّك هذا الطرف للسيطرة على هذا الحيّ وأغلق طرف آخر شارعاً مهمّاً ليصبح حيّاً “مسلماً”، بينما إستحوذ آخرون على سواهما ليُمسي حيّاً “مسيحياً”، فعمّت الفوضى العاصمة “بيروت” وسارت كالنار في الهشيم على معظم البلاد، وبات هذا يقتل ذاك والجار يُخْرِجُ جار عمره من داره لمجرّد هويّته أو إنتمائه أو عرقه أو دينه.
ويا لمهازل السياسة المقرفة، فبدلاً من أن يفدِي الفلسطينيّ المسلّح نفسه من أجل وطنه ومبادئه قبالة اليهود والصهاينة، فقد بات في “لبنان” إما مُدافعاً عن حياته، أو أضحى يتقاتل حيال أبناء جلدته وأولاد أرضه المُغتصَبة، وربما حتى مع أقربائه وأصدقاء عمره ومن نفس مدينته وقريته في سبيل البقاء مع عائلته على قيد الحياة.
جيش سوريّ في “لبنان”
لم يتحرّك العرب -كعادتهم عند وقوعهم بمعضلات كبرى- قبل إنقضاء ما يقارب من عام كامل على سيول الدماء التي غطّت الأرض اللبنانية، وبعد أن بلغ الطوفان العارم زُباه، تدخّلت الجامعة العربية لتقرّر أن تُقْحِم “سوريا” المُجاورة فرقة برية متكاملة من جيشها إلى “لبنان” بغية إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقّى، وما لبثت أن ضاعَفَت عددها مع تصاعد المواقف الميدانية حتى بلغ (3) فرق من الدبابات والمدرعات وعجلات القتال والمدافع والصواريخ.
ومن الطبيعيّ أن لا يروق هذا الحال لقادة حزب البعث المنشطر في “بغداد”، وهم على خلاف عميق مع الجزء المنشطر الثاني في “دمشق”، وبالأخص منذ تحقيق وزير الدفاع السوري “الفريق الطيّار حافظ الأسد” في أوائل عام (1970) إنقلاباً بعثياً داخلياً سميت بـ”الحركة التصحيحية”، ليضحى بذاته على رأس الهرم في جميع المناصب الرئاسيّة في الدولة والحزب معاً من دون منازع، ويطوّر بنفسه قيادة قومية جديدة مُناوِئة تماماً لنظيرتها القائمة في “بغداد” منذ عام (1968)، لتتفاقم المواقف السياسية والإعلامية المُخجِلة بين العاصمتين العريقتين بعمق غير مسبوق، وقبل أن يُضافَ إليها تصعيد جديد بإتهام القوات العراقية المنتشرة في الأرض السورية بالتخطيط لإنقلاب عسكري على النظام السوريّ بُعَيْدَ َوقف إطلاق النار في
“حرب تشرين/1973″… ولما شاهد قادة “بغداد” أمام أنظارهم جيشاً سورياً في وسط “لبنان” فإنهم لم يستهضموا إلاّ أن يتواجدوا هناك، لا سيّما وأنهم يمتلكون في الأرض اللبنانية منظّمة مسلّحة ومُمَوّلة جيداً، وأن السوريين بدأوا يحاولون القضاء على، أو طرد كل من ينتمي إلى “البعث العراقيّ” بِصِلَة!!!.
إستحضاراتنا
كان الرئيس “المهيب أحمد حسن البكر” ورئيس أركان الجيش “الفريق الركن عبدالجبار خليل شنشل” و”الرفيق ناصيف عَوّاد” رئيس مكتب فلسطين والكفاح المسلّح بالقيادة القومية لحزب البعث يَتَهاتَفُونَ مع قائد فرقتنا و”المقدم الركن عصمت” بمعدلات يومية للمتابعة والإستفسار عمّا آلت إليه الإستحضارات ومتى يمكن تحديد موعد تسفيرالدُفعة الأولى من اللواء… أما النائب “صدام حسين” فلم يتّصل معه إلاّ مرتين في تلك الأيام العشرة.
وفي حين كان “عصمت” -وأنا بصحبته- نزور قائد فرقتنا مرّة في الصباح الباكر قبل البدء بأعمالنا اليومية وأخرى ليلاً في نهاية الدوام المسائي لتوضيح مجريات الأمور والتطورات وما إقتدرنا على حلّها من العُقَد المُستَعصِية وفيما إذا كانت الأمور سائرة بشكل مُرضٍ نسبياً، فإنّ “عصمت” كان منزعجاً كثيراً من عدم التجانس المُحْرِج في التشكيلة الخاصّة للوائه، والذي تقرّر أن يتألّف من (3) وحدات قتاليّة، تعداد كلّ منها حوالي (600) شخص، إحداها ((فوج مظلّي)) مُدرّب جيداً، والثانية (3) سرايا مغاوير تشكل منها فوج واحد لا بأس به، ولكن الوحدة الثالثة المكونة من ((فوج متطوّعين من حزب البعث)) هو ما أشْغَلَ باله، كون “عصمت ما زال مُستقلاًّ لم يَنْتَمِ للحزب، فجعله مهموماً كَونَهم لا يتفهمون من الضبط والربط العسكريّ شيئاً وأنّ مُعظمهم لم يؤدّوا الخدمة العسكرية ولم يتدرّبوا أو يُمارسوا الرمي بالأسلحة المتنوّعة سوى ببضع إطلاقات من بنادق الحزب أو مسدّساتهم الشخصيّة من ناحية، وكونهم قد يَرَوْنَ أنفسهم جميعاً حزبيّين وقد تطوّعوا لهذه ((المهمّة القومية غير الإعتياديّة)) فَيَتَعالَوْن على الآخرين من ناحية ثانية… وعلى الرغم من تأييد قائد الفرقة -وهو العسكري المتطرف الذي لا يؤمن سوى بالتقاليد العسكرية نهجاً في الحياة- له بحرارة في هذا الطرح ونقل رأيه الصريح إلى شخص “البكر” وسواه، بأن هؤلاء سيُشكِّلون ((عالَةً)) في هذه المهمّة وأنهم سيكونون بمثابة ضحايا بَخسَةً لا موجب لها، إلاّ أن أعضاء “القيادة القومية” -ومعظم أعضائها غيرعراقيين وقد هربوا من أوطانهم ملتجئين إلى العراق ومتنعّمين برغد العيش على نفقة هذا البلد وشعبه- رأوا ((ضرورة أن يكون لـ”الشباب البعثيّ الصاعد” تجارب في الكفاح المسلّح والنضال من أجل المبادئ والقيم العليا لتحقيق كامل وحدة الأمة العربية وحريتها وإشتراكيّتها ومقارعتها للإستعمار البغيض التي سوف لا تنتهي حتى ينال كلّ شبر من أرض الأجداد إستقلاله الناجز!!!!!؟؟؟؟))… فما أن قرأ “عصمت” تلك العبارات الطَنّانة في متن كتاب رسميّ صادر من “مكتب فلسطين والكفاح المسلح/القيادة القومية”، إستذكر المثل العراقيّ القائل:-((العَرَب وين!!! وطَنْبُورَة وين!!!)).
واصل “عصمت وخالد” وضباطهما الأقدمون إعداد منتسبيهم لقتال المدن والشوارع والمنازل بالرمي الحقيقيّ بالعتاد الحي بلا حدود بجميع أنواع الأسلحة التي سوف يصطحبونها، وقد فرغنا لهم إحدى العمارات السكنية المتروكة لدى كلية القوة الجوية بـ”قاعدة صلاح الدين” للتدريب الإضافي في غُرَفِها ومنافذها وسلالمها على تلك الأمور، مُرَكّزِين على تنمية القابلية البدنية والإقتصاد الصارم في الأعتدة والذخائر وأقصى درجات التحمّل والصبر على الجوع والعطش وعدم الإستحمام المتوقع، وذلك بالتدريب العنيف ومهنة الميدان والرياضة المُجْهِدة، وممارسة الإركاب بطائرات النقل العسكرية، فيما بوشر بدورة عاجلة وبمنهج طارئ ومكثف لـ”فوج المتطوّعين”، حتى حلّ اليوم الخامس ليتوضّح أمامهم العديد من الأمورالحيوية الآتية:-
1. يرتدي الجميع الملابس المدنية، والتي سيؤمنها معمل الخياطة التابع لوزارة الصناعة، ويصطحبونها معهم من دون أيّة بدلات عسكريّة والتي سيتمّ توفيرها في “لبنان”.
2. تتكون “الجماعة المُتقدِّمة” من (20) شخصاً فقط يرأسهم ضابطان، يسافرون بطائرات الخطوط الجوية العراقية إلى “القاهرة”، فيبقى منهم (8) هناك، فيما يواصل الباقون سفرهم إلى مدينة “بنغازي” الليبية.
3. يتولّى “مكتب شؤون المواطنين العرب التابع للقيادة القومية”، بالتنسيق مع “جهاز المخابرات العراقية” تنظيم جوازات سفر مختلفة بأسماء مستعارة لجميع منتسبي اللواء وصولاً إلى مستوى الجنديّ.
4. يتنقّل الجميع بطيران ليلي بالتحليق في مجالات الملاحة المدنية العالمية على متن (9) من طائرات النقل العسكريّة (أوكرايينا AN-12) التابعة للقوة الجوية العراقية، وبـ(3) وجبات بمعدّل وجبة واحدة بين يوم وآخر، وذلك من قاعدة “صلاح الدين الجوية” مباشرة إلى مطار “بَلْبِيس” العسكريّ شماليّ القاهرة ، حيث لا يُسْمَح لأيّ من منتسبي اللواء ترك الطائرة والنزول منها لأيّ سبب كان، حيث تواصل طيرانها فور التزوّد بالوقود إلى مطار “بنغازي” العسكريّ.
5. لقد نَسَّقَتْ وزارة الخارجية وجهاز المخابرات العامة ومديرية الإستخبارات العسكريّة بوزارة الدفاع مع كلّ من الملحق العسكريّ العراقي في “القاهرة” والسلطات المصرية حول “الترانسيت”، وكذلك مع الملحق العسكريّ العراقيّ في العاصمة الليبية “طرابلس” بشأن جميع المتطلّبات الضرورية للواء وكيفيّة إسكانه وتأمين راحته وإكمال آخر نواقصه وتأجير”سفينة حاويات يونانية” لنقل أفراده مُخْتَبِئينَ في “العنابر”، وبمعدّل فوج واحد بالسفرة الواحدة.
6. عند الوصول إلى السواحل الجنوبية من “لبنان”، سيكون بإستقبال القوة ضباط من المخابرات العراقية المرابطين لدى الملحقية العسكرية والسفارة العراقية في “بيروت” ومعهم جماعة ذات خبرات بالشأن اللبناني من مقاتلي “جبهة التحرير العربية” المرتبطة بالقيادة القومية للحزب.
7. يتم شراء السيارات وأية إحتياجات ومستلزمات ضرورية أخرى من الأسواق اللبنانيّة.
ضبط الأمور الماليّة
كان “عصمت” -والشهادة لله- وإستناداً لتزكية كلّ من عرفه عن قرب وصادَقَه، فضلاً عن شجاعته وإنكاره الذات وسموّ أخلاقه وطيب معشره والإبتسامة الدائمة التي لا تفارق مُحَيّاه، زاهد النفس نظيف اليدين يخاف الله ويُحَكِّم الضمير فيما أحلَّه وحَرَّمَه… وكم رأيته مُهْتَمّاً حين حضر موظف من القيادة القومية حاملاً بين يديه حقيبة دبلوماسية كبيرة -شبيهة لما كنّا نشاهده بالأفلام البوليسيّة والجاسوسية والإجراميّة- تحتضن (1,000,000) دولار أمريكي بأوراقها الخضراء الناصعة، حيث لم يجلس بمكتبنا سوى بضع دقائق قبل أن يطلب من “عصمت” التوقيع على وصل الإستلام، موضّحاً أنه على عُجالة من أمره وأنْ لا داعي للعَدّ!!! وقتما تلاقت عينانا بنظرات الذهول، مُتَسائِلَيْن إنْ كان مثل هذا الموظّف البسيط في القيادة القومية يَسْتَخِفّ هكذا بـ((مليون)) دولار من أموال العراق، فما الذي يعمله أعضاء القيادة أنفسهم وكبار موظّفيهم؟؟؟ ولماذا؟؟!!.
وفي حين كان يمكن للعديد أن يستغلّوا هذه ((الفرصة الذهبية)) المُتاحة وهذا المال السائب، ليس في العراق الذي كان ما زال في بعض خُلُوِّه من الفساد الماليّ والإداريّ مشهوداً للعيان في ذلك الوقت، ولكن في “لبنان” المَليئة بالفوضى وإنعدام القانون والمراقبة والتصرّف كل حسب هواه في ظروف تلك الحرب الأهليّة القائمة، وخصوصاً أن “عصمت” يقود لواءً مكلّفاً بـ((مهمّة قوميّة)) خارج البلد وبعيداً عن الأنظار وعن أيّ حسيب أو رقيب على الصرفيّات غير المنظورة بشكل مطلق… ولكن “عصمت” لم يكن من ذلك الطراز الذي يُهمِل ما تنصّ عليه القوانين والتعليمات التي تقضي بضبط الأمور المالية وحساباتها بكل دقّة، وفوق كلّ ذلك ولكي ينأى بنفسه عن المال ويُنَصّبَ شخصه مُراقباً ومُحاسباً فحسب، فقد شَكَّلَ “لجنة خزانة” برئاسة معاونه وعضوية المسؤول الحزبي للواء وقادة الأفواج الثلاثة وضابط الرواتب، والذين أمام ناظريه وتحت إشرافه فَتَحوا سجلاًّ مخطّطاً في اليوم التالي وأمرهم في كتاب التكليف أن يُدرِجوا فيه تفاصيل المصروفات إعتباراً من الوصول إلى أرض “مصر”، وأن يوقّع عليها الجميع في أسفل كل صفحة على حِدَة… وسيُعيد “عصمت” فور عودته بعد (11) شهراً متتالياً ما يزيد عن ثلث ذلك المليون إلى أحد موظفي الدائرة الماليّة بالقيادة القومية مع قوائم بكل التفاصيل مقابل وصل رسميّ فقط، ذلك المبلغ الكبيرالذي سيقذِف به الموظّف مُبتَسِماً في أحد أدراج مكتبه الفخم، ومن دون كلمة شكر!!! ولربما ((إستهزأ)) من عقلية “عصمت” الرجعية.
مؤتمر يحضره كامل الدولة
في صبيحة اليوم الثامن، وقبل يومين من بدء نقل الفوج الأول من اللواء إلى “ليبيا”، حضر في مقر فرقتنا كبار قادة حزب البعث والقوات المسلحة العراقية للإطلاع على أضخم عملية نقل جوّي في تأريخ الجيش العراقيّ وقواته المسلحة،
والتي لم تسبقها سوى عملية نقل الفوج/3 من لواء المشاة/1 بقيادة “المقدم الركن طارق محمود جلال” إلى “مصر” في عهد الرئيس “الفريق عبدالرحمن محمد عارف” قبل أيام معدودات من “حرب حزيران1967”.
كان الحضور “ميشيل عفلق، شِبْلي العَيْسَمي، زَيد حيدر، ناصِيف عَوّاد” من القيادة القومية، و”أحمد حسن البكر” و”صدّام حسين” من القيادة القطرية، “الفريق أول الركن عبد الجبار شنشل، اللواء الركن إسماعيل تايه النُعَيْمي” من رئاسة أركان الجيش، “العميد الركن عدنان خيرالله، المفدم نكتل كَشْمُولَة” من المكتب العسكري للحزب، وقادة كلّ من القوة الجوية “اللواء الطيار نعمة الدليمي”، ومديري صنوف التموين والنقل والمُخابرة (الإتصالات/الإشارة) وآمر قاعدة صلاح الدين الجوية، ووجوه سواهم لم أتعرّف عليهم، حيث إفتتح “عفلق” بصوته الواطئ الساعة الأولى من المؤتمر بكلمة ذات صبغة قومية قصيرة عن ضرورة قيادة حزب البعث للأمة العربية من المُحيط إلى الخليج، والتي لم نستوعب -كالعادة- منها شيئاً، تَبعَه “العيسمي” بكلمة أطول لم نفهم منها مقصده، وذلك قبل أن يستدرك “البكر” ليعيد مسيرة الإجتماع إلى غايته الأساس، حين طلب من قائد فرقتنا “العميد الركن طارق توفيق” إيجازاً عمّا وصلت إليه آخر الإستحضارات، داعياً “عصمت” من بعده إلى المنصّة ليُوجِز الخطّة العامة وسط مُداخلات عديدة… ولماذا سيتمركز لأيام عديدة في ميناء “بنغازي” قبل أنْ يمخر البحر؟ وكيف سيتصرّف إذا قاطعته إحدى قطع البحرية الإسرائيلية التي تسيطر على جميع المياه الإقليميّة والسواحل اللبنانية وتـُراقبها على مدار الساعة؟؟ وفي أية نقطة/نقاط سيُنزِل وحداته المقاتلة على الساحل اللبناني؟؟؟ وبأيّ الأساليب سيُديم الإرتباط والإتصالات مع “بغداد”؟؟؟؟ وماهيّة خطته المبدئية لتوزيع أفواجه ونشرها في البر اللبناني؟؟؟؟؟ وما الذي سيُجريه هناك من ترتيبات ميدانيّة على أرض الواقع المرير؟؟؟؟؟؟ وأساليب مُعالَجة المُصابين والجرحى والمرضى والتعامل مع جثامين الشُهداء؟؟؟؟؟؟؟ وكيف سيُديم علاقاته مع المُلحقية العسكرية وضباط المخابرات العراقية والأصدقاء ويتصرف أزاء الخصوم؟؟؟؟؟؟؟؟ ناهيك عن العديد من النقاط ذات الأهمّية البالغة والتي يطول الحديث عنها.
وجّه الرئيس “أحمد حسن البكر”، ومن بعده نائبه “صدّام حسين”، وابلاً من الأسئلة والإستفسارات الواقعية والمُحرجة في صراحتها، ليس لـ”عصمت” فحسب، بل للقادة العسكريين الأقدمين الحاضرين، عن مدى المساعدة التي يُؤْمَل أن يُبدُوها لمعاونة “عصمت” كلّ في مضماره وإختصاصه ومسؤوليّاته، وبالأخصّ قائد القوة الجوية ومُديرَي صنفيّ المُخابرة والتموين والنقل في هذه المهمّة البعيدة التي تفصلها عن العراق دولة عربية ليست على وئام معه، ولا يُتَوَقّع منها -بطبيعة الحال- في المستقبل المنظور أن تسمح بأيّ تعاون عبر أراضيها وأجوائها، فكانت إجاباتهم طَمُوحَة وخياليّة في بعضها وواقعيّة في معظمها.
وبينما إلتزم “القادة القوميّون” الصمت المطبق بشكل نهائي بعد إلقائهما لتلكما الكلمتين المُختصَرتين وكأن مهمّتهم إنتهت بمجرّد إتّخاذ القرار والتمويل من أموال العراق والكلام المُنَمَّق، وأكبرالظَنّ أنهم إنْبَهَروا من تلك التفاصيل التي تشتملها هذه
الخطّة المُعَقّدة ودقائق أمورها ومايمكن أنْ تُواجهه هذه القوّة المُرسَلَة من مصاعب ومعاضل لم تدُرْ في أذهانهم من حيث الأساس، أُسْوَةً بمعظم الساذَجين من المدنيّين، وبضمنهم العديد من مثقّفيهم، والذين يعتقدون أنّ العمليّات العسكرية لا تتعدّى في حقيقتها مجرّد حمل الجنديّ لسلاحه وإطلاق مقذوفاته لأغراض القتل والجرح، مُضيفين إليه نظرة العُنْجُهيّة التي يتصرّف بها الضبّاط، ومن دون أنْ يعرفوا ماهيّة الخطوات الصعبة ودقائق الأمور وتفاصيل الخطط العسكريّة التي إنْ لم تُمْسَكْ بجميع نهايات خيوطها السائبة بجدارة ومعرفة وخبرة ومدارك فإنّ مصير القوّة المكلّفة بأيّة مهمّة سيؤول إلى خسائر جسيمة وأخطار محدقة!!! ولكن “صدّام” كان مُنْصِتاً لكل كلمة تَفَوَّهَ بها “عصمت” والقادة العسكريّون، ولم يُداخل إلاّ بأسئلة واقعيّة طيلة ساعات من المناقشة، أظهر بها مدى إستيعابه لدقائق الأمور وعميق إدراكه لأهميتها وخطورتها وما يحتمل أن يُعانيه “عصمت” وضباطه وجنوده من إرهاصات في ذلك البلد، وقد إستمع إليه جميع الحضور.
أما “البكر” فقد أيّد “عصمت” بحرارة عند إختتامه المؤتمر بالساعة الخامسة عصراً بعبارات تبدو أنه لم يُطلِقها لمجرّد كونه ضابطاً قديماً ومُحتَرِفاً فحسب، بل كانت نابعةً من قلبه وعقله:-
((أنظر يا ولدي “عصمت”… دعني أنْ أكون معك وسط هذا الموقف في غاية الصراحة لأوضّح لك:-
1. لقد إنتخبناك من بين العشرات من ضباط صنف القوات الخاصة لثقتنا بك ونظرتنا بأنك الأفضل والأشطر والأشجع والأشهم رغم معرفتنا بعدم إنتمائك لصفوف حزبنا… وفي الوقت الذي شمّرتَ ساعديك لأداء هذه المهمة بأفضل شكل ممكن فقد علمنا أن العديد من الضباط الحزبيين وعدد منهم أعضاء عاملون فيه هرعوا إلى “المكتب العسكري” لإصدار أوامر نقلهم إلى وحدات سوف لا تتحرك تحت إمرتك… وكلـّهم مسجّلون لدينا وسيرون ما سنتخذ من إجراءات بحقهم!!!
2. أننا بالوقت الذي نُساندك بكل ما يُفتَرَض أنْ آتانا الله به ممّا ندّعيه أو نتباهى به من غيرة وهِمّة على جيشنا وأبنائنا، ضباطاً وجنوداً، فلا أقول لك مثلما قال اليهود قولتهم المُعِيْبَة حيال النبيّ “موسى”-عليه السلام-… ولكني أرى موقفك كالذي يُتجابَه مع العدوّ في أمامه ولم يخلف سوى البحر من ورائه، ولذلك قرّرتُ تسمية لوائك هذا ومنذ اللحظة هذه بـ{قوّة طارق بن زياد”.
3. أنصحك أنْ لا تسمع كلاماً معسولاً منّي أو من أيّ أحد، ولا تعتمد حتى على وعودي وعهودي بصفتي القائد العام للقوات المسلّحة ووزيراً للدفاع بالوكالة، بل توكّل على الله بإمكاناتك المُتاحة وتدَبِّرْ أمورك بنفسك، فلا شيء مضمون إيصالُه إليك سوى المال الذي لا نستخفّ به، فهو الوطن في الغُرْبة على قول سيّدنا “عليّ” -كرّم الله وجهه-.
4. كلّ إحساسي في هذه اللحظة كما لو كنتُ أودّع إبني “هيثم”… فإذهب في كل خطوة تخطوها مستوراً برعاية العليّ القدير ورحمته، وعُدْ إلينا مع ضباطك وجنودك سالمين موفّقين بإذنه تعالى ورحمته، ولا أضيف شيئاً إلى ما أسلفتُ سوى أننا سنكون جميعاً في وداعكم بعد غدٍ في المطار إن شاء الله… وسنأتي بأفراد عائلتك كي يكونوا معنا في توديعك)).
أدى “عصمت” التحية للرئيس “البكر” وظل بوضع الإستعداد قبل أن يقول:- ((سيدي الرئيس أرجوك أن لا تأمر بجلب عائلتي لتوديعي، ولا تجعلني أختلف في هذا الشأن مع منتسبي لوائي ضباطاً ومراتب، إلاّ إن كان بإستطاعتكم أن يكون أفراد عوائلهم جميعاً في وداعهم… سيدي الرئيس شكراً على حسن ظنكم، وأعدكم أن أبقى على حسن ظنكم)).
ظلت عينا الرئيس “البكر” المغرورقتين بالدموع ناظرتين نحو “عصمت” بإعجاب، فيما غاصت الكلمات في صدره من دون أن يكون بمقدوره إخراجها.
وقد علمتُ بعد فضّ الإجتماع من “عصمت” سبب تَفَرّد “صدام حسين” به في زاوية من قاعة المؤتمر، أن زوّده ببطاقتين شخصيّتين تحتويان أرقام هواتف لا يَرفع أحد سواه سمّاعتها، وأن “عصمت” في “لبنان” أو أيّ من أفراد عائلته في “بغداد” أو “كركوك” مُخَوّلون طيلة نهار اليوم وليله أن يُهاتفوه وقتما يشاؤون إنْ إحتاجوا إلى أيّ شيء من عنده أو من سواه.
وداع في المطار
لم يَنْسَ “عصمت” أن يُسلّمني مظروفاً مُغْلَقاً يحتوي “وصيّة شخصيّة” مُعّنوَنَة إلى زوجته “السيدة لَمْعان/أُم عُمَر” وإلى طفليه “عُمَر، وعليّ” لأحتفظ به شخصياً ولا أوصله لهم إلاّ إذا تعرض لمكروه.
ووسط حماية مشدّدة حول ساحة وقوف الطائرات في “قاعدة صلاح الدين الجويّة” التي عمّ شبه حُظِرَ للتجوال جميع أنحائها إلاّ للمخوّلين، فقد أضحى المنظر درامياً حين صافح كبار قادة الحزب والدولة (540) ضابطاً وجندياً من الفوج المظلّيّ كانوا وقوفاً بالإستعداد قبل أن يتوجّهوا بنظام المسير ليستقرّ كل (60) ضابط وجنديّ يرتدون الملابس المدنية في متن الطائرة الواحدة، وكان آخرهم “عصمت” الذي تمركز في طائرة قائد “سرب المواصلات”، حتى أقلعت الطائرات التسع مع غروب الشمس.
لم يحضر القادة السياسيّون لتوديع الفوجين الآخرَين مُخَوِّلِين القادة العسكريين بذلك، ذلكما اللذين سيتكامَلان بموجودهما في “بنغازي” باليوم الخامس، حيث ستجري هناك إستحضارات لاحقة للتنقّل بحراً إلى سواحل “لبنان”.
أسرار ستبقى طيّ الكتمان والنسيان
بعد توديعنا لـ”عصمت” ووصوله بسلام إلى أرض “لبنان” فقد أمضى (11) شهراً هناك، لم يكن في غضونها يُهاتف زوجته “أم عُمَر” بأفضل الأحوال إلاّ بمعدّل
مرة واحدة في كل أسبوع، وإياي وبعض الأصدقاء في كل شهر، وهو يوصينا بأهله وأولاده… ولكننا لم نعرف ماذا واجَهه في مصر وليبيا؟ وكيف ركب البحر، وبأيّ صفة إجتاز العوائق ودخل المياه الإقليميّة اللبنانيّة السائبة ونزل في ساحلها؟ وماذا عانى هناك وما عمل؟؟ وكيف قاد لواءه وقاتل به؟؟ ومع من تَواجَهَ؟؟ ومن كان في الميدان من أصدقاء وأعداء وخصوم وعُمَلاء وتجّار حروب؟؟ وكيف تعامل معهم؟؟ وكم عدد شهداء لوائه وجرحاه؟؟ وكيف تصرّف بهم؟؟ وماذا صرف من المال وكيف دبّرَ أموره؟؟ ومن أين أدام أسلحته وكيف حصل على العتاد، ومِمَّن؟؟ … وعشرات أخرى من الأسئلة والإستفسارات التي قدّمتُها لشخصه مكتوبةً بصحبة ذلك المغلف -الذي إحتوى وصيته الشخصية التي إحتفظت بها من دون أن أفتحها بالطبع- بين يديه كي أحتفظ بإجاباته بمثابة وثيقة تأريخيّة وسط ملفاتي الشخصيّة التي تعوّدتُ على إحتضانها في أماكن أمينة بمسكني، بل أن “عصمت صابر” لم يُجِبْني عليها حتى شِفاهاً على الرغم من تلك الصداقة الحميمة والثقة العالية التي كانت قائمة بيننا وأسراراً كبيرة تبادلناها منذ كنّا معاً برتبة “ملازم ثانٍ”، إذْ كان يحاول غلق هذا الموضوع مراراً ويترجاني بعدم العودة إليها كونه قد أقسم اليمين على الإحتفاظ بها سرّاً، وحتى خلال جلساتي الإنفرادية معه سواءً بعد عودته في هذه المرّة أو عند رجوعه سالماً للمرة الثانية من مهمّة مُشابهة بلبنان أيضاً عام (1978) إستغرقت (9) أشهر أخرى، بل وحتى بعد إنقضاء (10) سنوات على ذلك التأريخ خلال أسابيع عديدة قضيناها سويّةً ضمن وفدَين رسميّين إلى “الإتحاد السوفييتي و مصر” عام (1986)… إلاّ أنّ إبتسامة عريضة بانت على مُحَيّاه وقتما سألته عن سبب عدم تفتيش أفراد زورق البحريّة الإسرائيليّة لباخرة الشحن اليونانيّة التي أقلـتهم نحو “لبنان”، قبل أنْ يُجيب:-
((وهل تعتقد -يا صبحي- أنّ “إسرائيل” لم تكن على علم تام بكلّ تحرّكاتنا؟؟ ولكن اليهود كانوا مُسْتَأْنِسين بسكب الوقود على النار المُشتعِلة في لبنان مادام العرب يقاتلون بعضهم بعضاً، والصهاينة يتفرّجون عن بعد على بلد يحترق ويُدَمّر على أيدي أبنائه والجوار، ومن دون أنْ يخسروا هُم شيئاً… فهل هناك ما هو أفضل لإسرائيل من هذا الموقف الإستراتيجي؟؟)).
مُنِحَ “عصمت” ((شرف العضوية الكاملة)) بحزب البعث في مبنى “القيادة القومية” ونوط شجاعة واحد، وعلى يد “ميشيل عفلق” بالذات فور عودته من مهمّته الأولى عام (1977)، ولكنه لم يتدرّج في رتبه العسكرية والمناصب إلاّ بشكل إعتياديّ، ووفقاً لإستحقاقاته السَويّة… فقد أُنيطت إليه قيادة “لواء قوات خاصة” وهو برتبة “عقيد ركن” قُبَيْلَ إندلاع الحرب مع “إيران” (1980) وأثناءها لعامين كاملين، ثم “لواء مشاة راجل” فـ”قائداً لقوات منطقة عكاشات”، قبل أن يُعَيّنَه “صدّام حسين” بمرسوم جمهوريّ برتبة “عميد ركن” مديراً/قائداً للقوات الخاصة العراقية (1984)، ويترَفّع إلى رتبة “لواء ركن”، ثم يتسنّم بمرسوم جمهوريّ ثانٍ قيادة فرقة المشاة/4 مُتأخّراً كثيراً عن البعض من زملائه، وقبل أن يصبح “رئيس أركان فيلق” أثناء غزو النظام العراقيّ للجارة “دولة الكويت”…وسأعرف قبل ذلك عن طريق “عصمت” وأصدقاء من ضبّاط الإستخبارات العسكريّة والمخابرات العامّة، وأثناء خدمتي في وزارة الدفاع ومواقع أخرى ومن خلال إيفاداتي لدول عديدة لاحقاً، أنّ “القيادة القومية للحزب” قد بعثت – فضلاًعن المساعدات التسليحيّة والمادّية والعَينيّة- قوات خاصّة عراقيّة ومتطوّعين بعثيّين أقلّ عدداً من الذي أُرسِل للبنان، وذلك إلى كلّ من “آريتريا، موريتانيا، الصومال، وصحراء أوغادين”، ولكني سوف لا أطّلع على أيّ من تفاصيلها كونها جرت تحت إشراف مباشر لجهاز المخابرات العامّة أو الإستخبارات العسكريّة، والتي -بطبيعة الحال- لم أعمل فيهما يوماً واحداً… في حين قد أروي للقارئ الكريم ما كُلِّفْتُ به عام (1987) من مهمّة خاصّة وسرّية للغاية في “جمهورية تشاد” بأواسط أفريقيا في نزاعها مع الجمهورية العربيّة الليبيّة.
ولا أنسى بتاتاً، لمّا شاركتُ إخوتي في إيداع رفاة والدتي إلى تلك الحفرة المُهَيَّأة لأجلها في “مقبرة المُصَلّى” بمدينة “كركوك” مساء يوم (2/أيلول/1997) حيث هَمَسَ زوج أختي “د.أميرعسكر قاسم” في أذني:-((لقد ذهَبَت الوالدة إلى دار حقّها وهي تحمل أسرار (76) سنة))…. وهي عبارة ما تزال ترنّ في دماغي كلّما يُتَوَفّى لي صديق أو قريب من مستوى نسبي من “عصمت”، مُتسائلاً مع ذاتي إنْ كانت تلك المرأة الأمّية البسيطة التي لم تتعلّم القراءة والكتابة، ولم تعرف من السياسة والتأريخ شيئاً، ولم تُغادر العراق يوماً، قد دُفِنَتْ مُصطَحِبةً معها أسرارها، فكيف حال من درس وتدرّج وإطّلع وسافر وخاض المئات من تجارب الحياة الخطيرة؟؟!!… وما أزعمه ينطبق على “عصمت” أعظم من سواه من بين أصدقائي الذين فَقَدّتهُم في حياتي، فقد باتت تلك الأسرار الخطيرة طيّ الكتمان، وسيؤول إلى النسيان، وخصوصاً أن “صدام حسين” ونظامه قد إنتهيا بذلك الغزو العنيف والإحتلال التراجيديّ الذي تبعته مآسٍ وسُيُول يومية من الدماء، لم يشهده شعب أو بلد طوال التأريخ، ولغاية اليوم الذي أُسَطّر هذه الجمل يوم (الأحد-17/نيسان/آبريل/2016).
ولكن هذا الضابط العراقي ((الأفضل والأشطر والأشجع والأشهم)) بين جميع ضباط القوات الخاصة العراقية -حسب وصف الرئيس “البكر” في حينه- فإن “صدّام حسين” سـ((يُعدِمُهُ)) أو بالأحرى ((يقتله)) وسط قصره الجمهوري من دون محاكمة بعد إنقضاء شهرين على الهزيمة في “الكويت” وإلى جانبه العديد من قادة القوات الخاصّة، وذلك في أحد أيام شهر “رمضان المبارك” الذي وافق (نيسان/آبريل1991) بُعَيْدَ إحساسه بإستقرار الحكم لصالحه وإطمئنانه على بقاء نظامه في “بغداد”، وفي ظلّ ظروف مُبْهَمة وأسباب ما زالت غامضة، ليست على أصدقائه وأقربائه فحسب، بل حتى لزوجته وأولاده من بعده.
ولكن هذه التفاصيل سأعرج نحوها في مقالة أخرى مطولة بعون الله تعالى.

أحدث المقالات

أحدث المقالات