23 ديسمبر، 2024 7:39 ص

أستهل موضوعي بإقتباس أبيات من إحدى قصائد الراحل عبد الرزاق عبد الواحد

أستهل موضوعي بإقتباس أبيات من إحدى قصائد الراحل عبد الرزاق عبد الواحد

عتبٌ على النفسِ لا عتبٌ على أحدِ

أنّي أراكُمْ رفيفَ الروحِ في جسدي

وكلّما قيلَ : قد يهوي العراقُ غداً

أقولُ حاشا .. فأهلي كُلُّهُمْ مدَدَي

فإنْ يكُنْ زَرَدَ الأعداءِ أنفُسُهمْ

فإنّ أولادَ عمِّي كلَّهمْ زَرَدي

قدْ قلتُ هذا فهل أسرفتُ ياوطني ؟

إذَنْ فوا خيبتي فيكمْ , و وا نكدي !

عتبٌ على النفسِ لا عتبٌ على أحدِ

أنّي رهنتُ لدَيكمْ حاضري وغدي

قلتُ الأمينونَ أهلي الصّادقونَ هُمُ

والأوفياءُ .. ولا .. ما دارَ في خَلَدي

إنّي وكنتُ ألاقي الموتَ مُنفرِداً

مِن أجلِكمْ .. ألتقيكمْ عَقرباً بيدي !

وعقرباً بثيابي .. ليتَ مَنْ وَلَدَتْ

أبي وآباءَكمْ لِلآنَ لمْ تَلِدِ !

خلال هذه الأيام تتوجه أنظار العالم وتتابع بإهتمام كبير إفتتاح المتحف البريطاني جناحا خاصا بالملك الآشوري آشوربانيبال والذي عنون بإسم (آشوربانييال ملك العالم) طبعا العنوان مقصود ويصح وصفه بكلام حق يراد به باطل. لا شك ان الإرث الرافديني الحضاري لم يخص ابناء الرافدين وحدهم وإنما يخص العالم بأسره كونه مهد العلوم والفنون والشرائع والحرف الانسانية كما إن ملوك بلاد البرافدين بصورة عامة وآشور بانيبال بصورة خاصة كانوا يلقبون أنفسهم (بملك العالم او ملك الكون او ملك الجهات الاربع)، أما الباطل الذي يراد به من التسمية هو لتجريد العراق والعراقيين من هذا المجد الحضاري وانكار نسبنا بالشعوب الرافدينية القديمة مثل العبيديين (نسبة لتل العبيد الأثري)

والسومريين والبابليين والاكديين والآشوريين. أشدد على كلمة شعوب، فالعراق منذ الازل لم يكن موطن لشعب واحد وانما لعدة شعوب تتعايش بود وسلام تارة وبتخاصم وصراع تارة اخرى.

محاولة تجريد العراق والعراقيين من إرثهم الحضاري ليس جديد ويكاد أن يجمع الآثاريين المستشرقين والمتصهينين على انكار صلتنا بالشعوب الرافدينية القديمة،

فهم لا يعتقدون ان أبناء الوسط هم إمتداد للسومريين رغم الأدلة والشواهد والمعطيات وطبيعة حياة ابناء الجنوب وبنيتهم الجسمانية وتقاليدهم وبعض مفرداتهم وتركيبة لغتهم و طريقة لفظ الكلمات وموسَقتها وحتى بعض اللوان الشعر الشعبي والغناء الريفي والحرف التقليدية مثل بناء البيوت والزوارق كل هذه الامور موروثة من السومريين ، بل وحتى الآثوريين الحاليين ابناء نينوى فهناك إصرار على انهم نساطرة ولا علاقة لهم لا من قريب ولا من بعيد بالاشوريين القدماء …. هذه الآراء والادعاءات تجابه برفض ومعارضة كبيرة من قبل علماء الآثار والتاريخ العراقيين الذين يكافحون ويجتهدون ويبحثون وينقبون منذ اكثر من ثمانية عقود لدحض هذه الإدعاءات المجحفة والمغرضة.

ولو كان حسم هذا الجدال يعتمد على إبراز الأدلة العلمية والتحاليل المنطقية واللقى الآثرية والأمور الفنية لحسم لصالحنا منذ زمن طويل، لكن وأقولها بمرارة إن واقع حال العراقيين وإنشغالهم بأمور ثانوية أبعدتهم عن مواكبة ركب التطور الحضاري بالإضافة الى عوامل اخرى كالحروب والكوارث والويلات التي شهدوها قد غيرت الكثير من طباعهم وخصالهم وأثرت بشكل مباشر على هويتهم وأنتمائهم وحجمت روح العطاء والابداع عندهم… وهذا ما عزز إعتقاد أو إدعاء المستشرقين بأننا لا نمت بصلة لتك الشعوب المتحضرة القديمة التي سكنت بلاد النهرين.

البارحة كنت أطالع منشورات المتحف البريطاني المتعلقة بجناح آشوربانيبال على صفحتهم الرسمية في الفيسبوك، والسعادة والفخر يغمراني خصوصة بعد مطالعة تعليقات المتابعين الذين إجتمعوا من شتى أصقاع المعمورة لإبداء اعجابهم وحماسهم لزيارة الجناح والتعرف اكثر على عظمة وسيرة هذا الملك ومنجزاته ، لكن هذه السعادة لم تدم طويلا.. فما ان وصلت الى تعليق أحد العراقيين الذي أعرب عن تفاخره كونه ينتمي لنفس الأرض التي أنجبت ملك العالم، حتى إنتابني شعور بأن المنشور سيحرف عن مساره ويتحول الى سجال سخيف وتقذف وشتائم بين العراقيين وهذا ما حدث فعلا مع شديد الأسف، حيث عقب عليه شخص آشوري بنبرة عصبية مستنكرا ومستكثرا على شقيقه العراقي التفاخر بآشوربانيبال بحجة ان العرب أصلهم من شبه الجزيرة العربية ولا يمتوا بصلة للآشوريين فتداخل بعدها آشوري آخر وحاول ان يهدئ الوضع وإذا به يتهم بكونه كلداني وعروقه عربية ولا يحق له هو الآخر التفاخر بملك الآشوريين، وواضح ان المعلقين لا يفرقوا بين الأكديين والكلدانيين .. ثم إحتدم السجال واتسع ليشمل الكرد والعرب والصابئة والازيديين والشيعة والسنة وداعش والعباسيين والامويين والفتوحات الاسلامية وأخرجوا كل قيئ التأريخ وطمث الأديان في تعليقاتهم ليضحكوا العالم ويشغلوهم عن عظمة آشور التي جمعتهم بسجالاتهم العنصرية الفجّة.

لهؤلاء الجهلة المفسدين والمتعنصرين لعرقهم ولدينهم أود ان أذكرهم بإتفاقية تأريخية شهيرة عقدت بين الملك الآشوري أداد نيراري الثاني ونظيره الملك البابلي نبو شوما أوكين قبل حوالي ثلاث الآف سنة مفادها تشكيل حلف سياسي واقتصادي وعسكري ثنائي بين المملكتين وتوثيق العلاقات الاجتماعية بين الشعبين ويكون ذلك عبر التصاهر حيث تزوج كُلاً من الملكين إبنة نظيره ، لتقتدي بهم شعوبهم وتختلط دمائهم. أي ان مفوهم العرق النقي الخالص قد اسقط تماما في تلك المعاهدة هذا لو سلمنا جدلا بمفهوم نقاء العرق. كلنا نحتفظ بشيئ من سلوك وعادات وتقاليد وثقافات تلك الاقوام القديمة وربما لو تسنى لنا تحليل جيناتهم لوجدنا إننا نحمل نسب من جيناتهم لذا دعونا نفتخر سويا بمجد أسلافنا الذي لم يبقى لنا سوه لنخر به.