إن هيبة الدولة تأتي من بسط سيادتها، وهنالك فرق بين السيادة والإستبداد، فالسيادة في مفهومها السياسي، هي بسط الحكومة لنفوذها، على كل مكوناتها الإجتماعية، وفق سلطة الدستور والأنظمة القوانين، من أجل حفظ الأمن والنظام، ضمن كيان الدولة، وذلك يصب في مصلحة المواطن نفسه، أما الإستبداد فهو المعنى النقيض للسيادة، لأنها ترسخ لإستخدام القوة والعنف، من أجل المحافظة على السلطة، وشتان ما بين هذا وذاك، وهناك إشارة لطيفة للمفكر ثامر عباس، في كتابه(إستعصاء الإصلاح في العقل العراقي)، حين يميز بين أستعمال الدولة للقوة من أجل الدولة وحين تكون من أجل الحفاظ على السلطة(ففي الأولى كيان يمتلك قوة الحق وفي الثانية شيطان يغويه حق القوة).
والعراق وبعد التحول الحاصل، نتيجة سقوط الدكتاتور صدام المجرم، عانى كثيرا” نتيجة التجاذبات السياسية، بين الفرقاء الساسة، الذين كان جل همهم ينصب، في كيفية بناء سلطتهم وأحزابهم، وحتى الدستور الذي يمثل رمز الديمقراطية، في الأنظمة السياسية للدول الديمقراطية، كتب بطريقة الخوف من الشريك الأخر، ليسهم الجميع في إنتاج دستور هش وفضفاض، كان سببا” بالأضافة لأسباب أخرى، لرجحان العلوية التوافقية على العلوية الدستورية، لينفرط عقد الدولة، فلم تكن الحكومات العراقية، التي تسنمت سدة الحكم بعد عام 2003، صاحبة السيادة للسيطرة على زمام أمر البلاد، وقد تكون مستبدة ولكن ليس بلغة الإكراه، وإنما من باب الإستفراد بمقدرات الدولة الأقتصادية والسياسية.
ونتيجة التقاطعات السياسية، والفساد المالي والإداري، الذي نخر مفاصل الدولة العراقية، فكان من الأثار التي ترتبت، على تلك السياسات الهشة، أن جعلت سلطة الأحزاب، أقوى وأكبر من سلطة الحكومة العراقية، لنشهد ضياع خمسمة محافظات، حينما سيطر داعش عليها، وتمددت سلطة إقليم كردستان بل سلطة مسعود، لتضم إليها محافظة كركوك، وأجزاء من محافظتي ديالى ونينوى، مستغلا” إنشغال الدولة بمحاربة داعش، بل أستغل ضعف ساستها، حين تكلم مسعود عن ذلك التمدد الغير دستوري والغير قانوني، إنها حدود رسمت بالدم، ثم جاء إستفتاء الإنفصال، الذي أراد من خلاله مسعود تقسيم البلاد، بعد أن عجز داعش ومن يقف ورائه من فعل ذلك.
بالعودة للخلف وقدوم السيد العبادي، وتسلمه مقاليد الحكم، كان العراق يغرق في بحر لجي من الأزمات، تشت سياسي، وإنقطاع عن المحيط الدولي، وإنهيار أمني كبير، كان من أثاره فقدان خمسة محافظات، بالإضافة للأزمة الإقتصادية، جراء هبوط أسعار النفط، وقتها فتوى الجهاد الكفائي، قد سبقت قدوم السيد العبادي، ولكنه إستطاع أن يوضبها بالشكل الصحيح، ثم أطلق حزمة الإصلاحات، التي لم يوفق بتطبيقها.
لكن حكومة العبادي تداركت الأمر، وطرحت رؤية وأستراتيجية، لإدارة الدولة الشبه منهارة من جهة، ومن جهة أخرى، إحتواء الأزمات التي تعصف في البلاد، وفق مبدأ تقديم الأهم على المهم، فأستعيدت هيبة المؤسسة العسكرية، وتحقق الإنتصار تلو الأخر، إلى أن تم تحرير كافة مناطق العراق، بإستثناء جزء من مناطق أعالي الفرات، القائم وراوة، وأستطاعت حكومة العبادي العودة للمحيط العربي والإقليمي وحتى الدولي، لذا أصبح العراق واجهة للوفود الدولية، وتجاوز الأزمة المالية لحد ما، التي ضربت العالم برمته، وأحتواء أزمة النازحين، ولكن الأهم من ذلك كله والتحدي الأكبر، هو فرض علوية الدستور والحفاظ على وحدة البلد، فكان لا بد من الحكمة، بالتعامل عنجهية مسعود وبعض الكرد، الذين يغردون خارج سرب الدولة العراقية.
عندما يكون الدستور هو المنطلق، لتحرك السلطات الأتحادية، فذلك يعطي للمتابع تصورا” أوليا”، على إنضباط التحرك الحكومي، فكان لأزمة الأستفتاء، الأختبار الحقيقي للسلطات الأتحادية بعمومها، وخصوصا” السلطة التنفيذية، فجاء قرار البرلمان بعدم دستورية الأستفتاء، ثم أعقبه قرار السلطة القضائية، بحكم ولائي بعدم دستورية الأستفتاء، وحسب م 109 من الدستور العراقي التي تلزم السلطات الأتحادية، على علوية الدستور ووحدة البلاد، صار لزاما” على الحكومة التنفيذية، بإتخاذ الأجراءات اللازمة، أستبد مسعود بطغيانه وأجرى الأستفتاء، رغم الرفض الحكومي وكذا الإقليمي والدولي، فكانت سياسة النفس الطويل للعبادي واضحة، حين تأنى وطلب من مسعود وأعوانه، العودة للحوار ولكن بشرط إلغاء الستفتاء ونتائجه، ولكن مسعود كعادته أعتقد حكمة العبادي ضعفا”، وأراد أن يفرض سياسة الأمر الواقع.
بعد أن أرسلت حكومة العبادي، عدة رسائل مفادها، رفض أي أجراء أو تحرك شخصي أو حزبي، يخالف التشريعات الدستورية، وما سن من قوانيين وأنظمة أتحادية، ولم يكتفي مسعود بإجراء الإستفتاء المشؤوم، بل ذهب لأبعد من ذلك حين جيش الجيوش، على أطراف كركوك، التي لم تكن من البيشمركة المتمردة وحدها، بل أستعان بمجاميع إرهابية من داعش نفسها، ومن حزب العمال الكردي، وكذلك حزب الحياة الحرة الإيراني، هنا عجزت الدبلوماسية، وأصبح من أولويات الحكومة الإتحادية، فرض هيبة الدولة، وإعادة كركوك لأحضان الوطن، وبعملية عسكرية خاطفة، تم طرد كل المتمردين، وإزاحة كل الإنفصالين، عن واجهة العراق المصغر(كركوك)، لقد نجحت حكومة العبادي حين فكرت بصوت هاديء، ويبقى التحدي الأكبر، محاربة الفساد والمفسدين، لنرفل بعراق موحد مزدهر.