حدثني أستاذ جامعي يعمل في إحدى كليات الهندسة بأنه قبل سبع سنوات قدم طلبا ً إلى رئيس قسمه لنصب عدد من مفرغات الهواء في المختبر الذي يجري فيه الطلبة التجارب المختبرية لأن الجو فيه حار في فصل الصيف و خانق صيفا ً و شتاءا ً بفعل المواد الكيمياوية المستخدمة في التجارب المختبرية و أن الطلبة ذاتهم كانوا يشكون إليه من سوء جو المختبر، و أن رئيس القسم أجابه بأنه لا توجد تخصيصات مالية لنصب مفرغات هواء في المختبرات. و بعد سنة على ذلك التاريخ شاهد هذا الأستاذ الجامعي بأن جدران القسم يجري صبغها على الرغم من أن الجدران نظيفة و لا تحتاج إلى صبغ و هنا طلب هذا الأستاذ الجامعي من رئيس القسم أن يتم تحويل جزء من مبلغ الصبغ لنصب مفرغات الهواء في المختبر لأن هذه المفرغات أكثر أهمية من صبغ الجدران فأجابه رئيس القسم بأن مبلغ الصبغ مخصص فقط للصبغ و ليس لشيء آخر و بالتالي لا يمكن إتخاذ مثل هذا الإجراء. و في العام اللاحق لصبغ الجدران شاهد هذا الأستاذ الجامعي بأن حملة تجري في القسم لتجديد مستلزمات الإنارة فعاود المطالبة من رئيس قسمه أن يتم تنصيب مفرغات الهواء في المختبر من الأموال المصروفة على تجديد مستلزمات الإنارة في القسم، و لكن رئيس القسم أجابه بأن المبلغ مخصص حصرا ً لمستلزمات الإنارة فقط و هذه لا تشمل مفرغات الهواء. و هنا طلب هذا الأستاذ الجامعي من رئيس قسمه أن يطلب من الجهات العليا في الجامعة أو الوزارة تخصيص مبلغ من المال لنصب مفرغات الهواء في المختبر لأهمية الموضوع، و لكن رئيس القسم أعطاه الأذن الطرشة.
و من الناحية العلمية يجب تهوية الأماكن المغلقة مثل المختبرات حفاظا ً على الصحة العامة. و هذا الشيء مألوف لدى عامة العراقيين، فكل مطبخ في بيوت العراقيين يحتوي على مفرغة هواء، و كل مطعم عراقي يحتوي على عدد من مفرغات الهواء حسب حجمه و التي هي من الشروط الرئيسية لرخصة ممارسة العمل، أما بالنسبة للقطاع الصناعي، الذي سيعمل فيه خريجوا القسم الذي يعمل فيه هذا الأستاذ، فإن تهوية فضاءاته الكبيرة تتم بواسطة أجهزة خاصة كبيرة للتهوية تتناسب و حجم المكان. فإذا كانت مطابخ الدور السكنية تحتوي على مفرغات الهواء فالأحرى بمختبرات كليات الهندسة أن تحتوي على مفرغات الهواء. و عندما يجد طالب كلية الهندسة بأن مطبخ بيته يحتوي على مفرغة هواء و مختبر كليته لا يحتوي على مفرغة هواء و إنه يعاني من جو مختبر كليته و لا يعاني من جو مطبخ بيته فإنه حتما ً سيصاب بصدمة و خيبة من حال كليته و مستواها العلمي. و عندما يشكو الطالب من جو المختبر الذي يجري فيه التجارب المختبرية و لا أحد يستمع له فهو حتما ً سيتيقن بأن واقع حال التعليم عبارة عن مسرحية و عليه مجاراة الوضع و أن يتقبل الأمور على عواهنها دون تفكير أو تمحيص، و هذا سيكون جزء من شخصيته و ثقافته. و إذا كانت كلية الهندسة عاجزة عن توفير مفرغات هواء في المختبر لتوفير جو صحي و علمي و مريح للدراسة و التي هي من بدايات عصر التكنولوجيا و أبسطها فستكون حتما ً عاجزة عن توفير المتطلبات الدراسية الأكثر تعقيدا ً و مواكبة التكنولوجيا الحديثة. و إذا كانت كلية الهندسة لا تعرف أهمية مفرغات الهواء في الحفاظ على الصحة العامة فهي حتما ً لا تعرف المتطلبات الأساسية لدراسة الهندسة التي تتلائم مع حاجات المجتمع و لا أساسيات المستوى العلمي.
في العام الدراسي الماضي صدرت تعليمات من الجهات العليا في وزارة التعليم العالي بتطبيق ما يسمى معايير الجودة و الإعتمادية للتعليم. و كان من ضمن هذه المعايير نصب مفرغات هواء في المختبر الذي طالب بنصبها هذا الأستاذ الجامعي قبل سبع سنوات و التي لم تنصب بحجة عدم وجود التخصيصات المالية، حيث تم توفير المال اللازم لنصب هذه المفرغات بأسرع ما يمكن خلال فترة وجيزة و ذلك لأن التعليمات صدرت من الجهات العليا في الوزارة. و هذا يدل بأن الإدارة تعاملت مع هذا الأستاذ بالمزاج الشخصي أو أنها لا تعرف أساسيات التعليم و هذان الخياران أحدهما أكثر مرارة من الآخر.
و هنا وجد هذا الأستاذ الجامعي نفسه بأن الإدارة تتعامل معه بإعتباره خرخاشة، حيث وجد بأن عليه فقط أن يخرخش عندما تهزه أيدي مسئولي الإدارة الممسكين به و ليس عليه أن يعمل أو يقترح شيئا ً جديدا ً لتطوير حالة التعليم القائمة. إن الأستاذ الجامعي مكلف بالقانون و ملاحق بتوجيهات المسئولين بالعمل و بتقديم الإقتراحات لتطوير التعليم الجامعي و لكن على أرض الواقع لا يجد من يستمع له. فالقيادات الإدارية المسئولة عنه لا تستمع له، و الجهات العليا في الوزارة أيضا ً لا تستمع له بل تستمع إلى القيادات الإدارية التي تكلفها بالمنصب من باب المصالح المشتركة أو العلاقات الشخصية أو العائلية أو العلاقات الحزبية، و بذلك تبقى إقتراحات الأستاذ الجامعي جعجعة في صحراء حيث ليس لها و لا حتى صدى. و إذا كانت إقتراحات الأستاذ البسيطة التي لا تكلف مالا ً كثيرا ً تجابهها الإدارة بالأذن الطرشة فإن هذا سيدفع بالأستاذ الجامعي إلى التراخي بعدم طرح الإقتراحات التي تحتاج إلى مال كثير و جهد عظيم و بالتالي سيؤدي ذلك إلى تدهور مستوى التعليم العالي.
سنويا ً تصدر الجهات العليا في وزارة التعليم العالي إستمارة تقييم للأساتذة و أحد فقرات هذه الإستمارة تسأل عن تقديم الأستاذ المقترحات لتطوير العملية التعليمية، و لكن الأستاذ ضايع بين متطلبات الجهات العليا التي تصدر إستمارة التقييم و بين الإدارة المسئولة عنه التي تعطيه الأذن الطرشة، و من ثم تنكر عليه في إستمارة التقييم بتقديم أي مقترح. و على أرض الواقع فإن هذا الأستاذ الجامعي قدم العديد من الإقتراحات لتطوير واقع التعليم و لكن مصيرها كان مثل مصير مقترح مفرغات الهواء حيث جميعها تم ضربها عرض الحائط. و هذا نموذج بسيط على تخبط العملية التعليمية و أحد أسباب إنحطاطها. في الوقت الذي تقوم فيه الإدارة بضرب مقترحات هذا الأستاذ عرض الحائط إلا ّ أنها تلاحقه للتوقيع في سجل الحضور اليومي لتثبت هذه الإدارة بأنها قائمة بواجبها و أن الأستاذ هو المقصر في واجباته حيث يداوم و لا يفعل شيئا ً، و هذه صورة أخرى من صور فوضى التعليم.
و رب سائل يسأل هل الأمر بهذا السوء، و الجواب لا فإن المسئول الإداري كله آذان صاغية للأساتذة المقربين منه، و هو يستمع لهم مهما كانت إقتراحاتهم عشوائية و بعيدة عن الواقع، و نتيجة لذلك تكون مسيرة التعليم العالي أحادية الجانب عرجاء و تسير من سيء إلى أسوأ، و تبقى الأمور تدور في حلقة مفرغة لا ينتج عنها إلا ّ المزيد من إنحطاط التعليم لغاية أن أصبحت مشاريع تخرج الطلبة و أطاريح الدراسات العليا تباع في مكاتب الإستنساخ.
وزارة التعليم العالي تريد أن ترتقي الجامعات العراقية في قوائم التسلسل العالمي للجامعات، و لكن ذلك سوف لن يحصل مادامت هي و القيادات الإدارية التي تختارها تعتبر الأستاذ الجامعي خرخاشة.
أو ربما أن وزارة التعليم العالي لا تريد أن ترتقي الجامعات العراقية في قوائم التسلسل العالمي للجامعات، و أن كل كلامها في هذا الموضوع مجرد إدعاء، و لذلك هي تختار قيادات إدارية تشاركها إعتبار الأستاذ الجامعي خرخاشة.