تحدثت في مقالين سابقين عن اسباب عديدة سارعت في انهيار الدولة العراقية الحديثة ،إذ لم يزل هذا الانهيار مستمراً ولو بأشكالٍ ووسائل واسباب ومسببات مختلفة .
فالسطات الحاكمة التي استلمت زمام الحكم والسلطة في العراق الحديث تفاوتت بين ملكية دستورية ، وجمهورية / معتدلة ، وجمهورية/ شمولية ، وجمهورية / ثيوقراطية. سوف أتحدث هنا عن النظامين الاخيرين كونهما غطيا مدة زمنية تقارب الخمسين عاماً ، وأحدثا تغييرات جمة في بنية الدولة العراقية وإن لم يكن معظمها ايجابياً.
الشمولية Totalitarianism، أو مذهب السلطة الجامعة ، هي شكل من أشكال التنظيم السياسي يقوم على إذابة جميع الأفراد والمؤسسات والجماعات في الكل الاجتماعي ( اﻟﻤﺠتمع ، أو الشعب ، أو الدولة) عن طريق العنف والإرهاب ، ويتبع هذا الكل قائد واحد يجمع في يديه كل السلطات. هذا المصطلح الذي لم يستخدم على وجه الدقة إلا في أواخر الثلاثينيات من هذا القرن يتمثل أيضاً بالسيطرة الكاملة للدولة على جميع وسائل الإعلام مع وجود أيديولوجية طاغية معينة توجهها ، وقائد يجمع في يده جميع السلطات وهنالك بلدان كثيرة عملت بهذه الايديولوجية مثل إيطاليا في عهد موسوليني ، والمانيا في عهد هتلر ، واسبانيا في عهد فرانكو ، والبرتغال في عهد سالازار… وغيرها. ولقد عبر موسوليني ١٨٨٣ – ١٩٤٥ ) تعبيرا واضحاً عن هذا المذهب في خطاب ألقاه في ٢٨ أكتوبر عام ١٩٢٥ بقوله: ” الكل في الدولة ، ولا قيمة لشيء إنساني أو روحي خارج الدولة ، فالفاشية Fascism شمولية ، والدولة الفاشية تشمل جميع القيم وتوحدها ، وهي التي تؤوِّل هذه القيم وتفسرها ، إنها تعيد صياغة حياة الشعب كلها “. وعلى ذلك فالدولة الشمولية كتلة واحدة لا تقبل بمبدأ فصل السلطات أو بأي شكل من أشكال الديمقراطية التي عرفها الغرب ، وكل معارضة لهذا الكل تحطم بالقوة ، فلا رأي ولا تنظيم ، ولا تكتل خارج سلطة الدولة.
الاستبداد ، الدكتاتورية ، السلطة المطلقة ، الأوتقراطية هي صفات دولة الحكم الشمولي ومن صور الحكم الشمولي الطاغية ما طُبق في الاتحاد السوفييتي المنحل. استمر التاريخ في مسيرته إلى الحقبة المعاصرة لنرى أن النظام السابق في العراق اتّبَعَ هذا المنهج سيما منذ عام 1979 ، فاصبحت السلطات بيد شخص واحد يحكم بقوة الحديد والنار ، فالرئيس السابق هو رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ، والقائد العام للقوات المسلحة ، ورئيس مجلس قيادة الثورة ، والأمين العام للقيادة القطرية، وغيرها ، وكأن البلد عقيم لا يلد رجالاً مؤهلون للقيادة ، ولم يؤهل متدربين من بلدان عربية عديدة في معاهده العسكرية ليصبحوا قادة في بلدانهم فيما بعد .
هذه الشمولية ساعدت كثيراً في هدم هياكل الدولة والدفع باتجاه انهيارها ، فقد تم إسكات الاصوات الحرة وتوارى المطالبون بالحقوق والمدافعون عن مصالح الدولة وافرادها ، واخُتزلت الجهود والانشطة والطاقات المادية والبشرية بشخص القائد الذي اطلق عليه وبرغبته ( القائد الضرورة ) ، وقد تداول هذا المصطلح وعاظ السلطان والمنافقين والمداهنين من النكرات في المجتمع العراقي.
إن ما ساعد رئيس النظام السابق في احتواء الدولة والمجتمع تحت مظلة وجناح النظام الشمولي هو عدد كبير من صناع الطغاة في العراق ، فعِبرَ التاريخ لم يظهر دكتاتور او طاغية ما لم يجد منفذاً للوصول الى السلطة االدكتاتورية من خلال إما دعم او خنوع وخضوع من يقودهم ، وها هو المثال المصري لم يزل ماثلا امام أعيننا ، فعندما وجد الشعب خلال اقل من سنة بأن الرئيس – وإن كان منتخبا من قبل الشعب- قد اختطف السلطة وانحرف بها وغلّبَ مصلحة حزبه وحاشيته على مصلحة الشعب والوطن ، تظاهر بل ثار الملايين من ابناء الشعب بعفوية ، فازاحوه عن سدة الحكم قبل أن يصبح دكتاتورا جديدا وطاغية يصعب اجتثاثه فيما بعد. فبرهن أن الشعب هو امواج التغيير الهادرة التي لا يقف امامها سد او ساتر او حاجز.
الا أن الشعب العراقي للاسف قَبِلَ مُرغماً تسلط الطاغية لمدة تزيد عن ثلاثة عقود مع محاولات خجولة لتغيير الحكم – فيما عدا انتفاضة الجنوب الظافرة عام 1991 والتي وأدتها دول الغرب في مهدها ! ، وانتفاضات الشمال الكوردي المتعددة التي نجحت آخرها عام 1992 في التخلص من النظام الشمولي مع البقاء تحت المظلة العراقية كجزء من الوطن الاكبر- .
تؤدي سايكولوجية الحكم الشمولي وممارساته الى خلق ما يسمى – بحسب علم النفس- بإسم ” غريزة القطيع “. التي تجعل من الافراد يسيرون ضمن الركب دون أن يقفوا ولو لمرة واحدة لكي يراجعوا ويتيقنوا من صحة بوصلة مسيرهم ليتبينوا هل هم في الاتجاه الصحيح ام المعاكس.
واذا ما اردنا ان نعطي مثالا حياً لما كان يحدث في العراق إبان حكم النظام الشمولي السابق ، نرى ان كاتبة واعلامية اسبانية استضافها النظام لمدة قصيرة في العراق لكي تّطّلعَ على واقع البلد ومن ثم تعود لكي تكتب بشكل يُلمِّع صورة النظام المشوه لدى الغرب خصوصاً ، جاءت وقضت عدة ايام وعندما عادت الى بلدها كتبت بالمانشيت العريض عنواناً لمقالتها ( قائد مغرور وشعب خانع ) !! ، بالتاكيد هذا الرأي لا يُعبِّر عن واقع الشعب العراقي الذي قام بثورات متعددة خلال القرن الماضي ربما هي بالتاكيد الأكثر عدداً من بين الثورات التي حدثت في بلدان المنطقة، ومن بينها انتفاضات الجنوب والشمال الكوردي التي سبق ذكرها آنفاً.
كان من نتائج الحكم التسلطي الشمولي ان بدأت هياكل الدولة وبناها التحتية مادية وبشرية بالانهيار ، فبين قتل ودمار نتيجة الحروب او غيرها وبطش بالمعارضين ، وهروب وتسرب للكفاءات بعد التهميش والاقصاء وتسليم زمام الامور الى الجهلة واشباه القادة والمثقفين ، وبين شيوع الطائفية الكامنة غير المرئية تماماً كما الآن والتي قسمت المجتمع الى كانتونات، ساعدت كثيرا على ظهورها بعد عام 2003 – وهو ما سناتي على تناوله في مقال لاحق بشيءٍ من التفصيل -.
بعد سقوط النظام الشمولي السابق عام 2003 ، ظهر (الحكم الثيوقراطي( Theocracy – من الافضل استخدام هذا التعبير بدلاً من الحكم الديني ذلك لأن الدين يُظلًم كثيراً عندما يُنسب إليه الحكم المطلق المتعسف الذي يأخذ برقاب الناس بإسم الإرادة الإلهية- بمسحته الدينية التي كانت هي الغالبة على معظم وأقوى أحزاب السلطة ، وقد أيّدها اغلب الشعب كردة فعل طبيعية لما قام به النظام العلماني السابق الفاشل ، والذي كان يضرب الدين والمتدينين بقوة وقسوة لا مثيل لهما أكثر من غيرهم.
صراعات الجماعات الدينية حول السلطة تنبؤنا عبر التاريخ بانها من اكثر الصراعات خطورةَ كونها تتستر بلباس الدين ، ما يغري الافراد وبخاصة من غير المثقفين الذين هم اكثر تقبلاً لافكار تعطي للدين سطوة على الواقع السياسي ، فلكل عصر مجموعة من أتباع هذا الدين أو ذاك المذهب تلجأ إلى تأويل بعض النصوص الدينية ، وتقدم اجتهادات شخصية وتفسيرات ذاتية من أجل الوصول إلى السلطة ، فتكون لها مقاليد الأمور، وهي تستخدم في الأعم الأغلب أحط السبل ، كالدسائس ، والقتل ، والرشوة ، واستمالة الأشخاص بالترغيب أو الإرهاب ، والنفاق والكذب وغيرها.
لقد أدرك السياسيون الساعون الى السلطة بغض النظر عن مشروعية او شرعية الوسيلة – حتى وان كانت وفقا للمبادىء الميكافيلية – هذه الحقيقة فاتجهوا إلى مشاعر الناس لا إلى عقولهم واكتسبوا التأييد من خلال إلهاب المشاعر وإثارة الحماس بالخطب واللافتات والشعارات المؤثرة ، دون الركون الى العقل والمنطق ، إذ يسهل جذب الجماهير عن طريق العواطف والمشاعر لأن طريق المناقشات العقلية أو طرح الأفكار قد تثير جدلا ، وبالتالي خلافا في الرأي ، والخلاف في الرأي غير مسموح به ، لأنه يتعارض مع رؤية الاحزاب المسيطرة على اﻟﻤﺠتمع .
من السمات الأساسية لحكم الطغاة أنه لا يكترث برضا الناس أو موافقتهم على حكمه ، فالمهم إجبارهم على”السمع والطاعة ” هكذا كان حكم بني أمية ابتداء من معاوية وابنه يزيد إلى عبد الملك بن مروان.. . الخ ، وهكذا كان حكم العباسي ، ابتداء من “السفاح ” إلى “ا لمنصور ” الخ.
وكان انطونيو غرامشي أول من تناول موضوع هيمنة السلطة على الوعي السياسي والثقافي بوصفها وسيلة لضمان البقاء في السلطة ، سواء كانت سلطة اقطاعية او بورجوزازية او كهنوتية ، فانه حدد أن ” النخبة الكهنوتية ” تعد صاحبة القبضة الحديدية الاكثر سطوة في هذا المجال مقارنةً بالنخب الاخرى .
ولدى الرجوع الى الجذور التاريخية لواقع الحكم الثيوقراطي نجده ينشأ عندما ينقسم اﻟﻤﺠتمع السياسي ، إلى فئتين متمايزتين حاكمة ومحكومة. ففي التشريعات القديمة ، لابد أن يكون الحكام من طبيعة غير طبيعة البشر ، هكذا تصور القدماء الحاكم من طبيعة إلهية ، فهو إله على الأرض أو هو ابن الإله !. ومن هنا جاء سمو إرادته ، فهي سامية لأنها إرادة إلهية عليا ، ثم تدرج الأمر بعد ذلك إلى أن الله يختار الحاكم اختيارا مباشراً ليمارس السلطة باسمه على الأرض.
وعلى ذلك فإننا نستطيع أن نقول إن التفكير قد اتجه أولاً إلى تأسيس السلطة على أساس إلهي ، فقيل إن السلطة مصدرها الله يختار من يشاء لممارستها ، ومادام الحاكم يستمد سلطته من مصدر علوي فهو يسمو على الطبيعة البشرية وبالتالي تسمو إرادته على إرادة المحكومين إذ هو منفذ للمشيئة الإلهية بحسب تسويغهم للامر من اجل امتلاك السلطة أولا ومن ثم التشبث بها الى ما لا نهاية.
ولقد لعبت هذه الفكرة دورا كبيرا في التاريخ ، وقامت عليها السلطة في معظم الحضارات القديمة ، وأقرتها المسيحية في أول عهدها ، وإن حاربتها فيما بعد.ثم استند إليها الملوك في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر لتبرير سلطاتهم المطلقة واختصاصاتهم غير المقيدة.
في الأصل كان الحاكم يعد من طبيعة إلهية ، فهو لم يكن مختاراً من الإله ، بل كان الله نفسه. وقد قامت الحضارات القديمة عموما في مصر على هذه الافكار والمبادىء، يخبرنا للّه تعالى عن كفر فرعون وطغيانه ، وافترائه في دعواه الإلهية ، كما قال: ( فاستخف قومه فأطاعوه…) ، وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية، فأجابوه إلى ذلك بجهلهم واذعانهم وخوفهم وخضوعهم له ؛ ولهذا قال فرعون: ( يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري..!” ). ، وقال تعالى إخباراً عنه { فحشر فنادى . فقال أنا ربكم الأعلى}.
انتشرت هذه التوجهات والافكار في بلاد فارس ، و الهند ، و الصين ، على أساس هذه النظرية ، فكان الملوك والأباطرة يُنظر إليهم باعتبارهم آلهة. وقد وجدت الفكرة قبولاً كذلك عند الرومان الذين كانوا يقدسون الإمبراطور ويعدونه إلهاً ، وإن كان الشرق هو أصلها ومنبعها. يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه ” طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ” ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله ، أو تعطيه مقاما ذا علاقة بالله.. ! “
ثم تطورت النظرية مع ظهور المسيحية ، ولم يعد الحاكم إلها أو من طبيعة إلهية ولكنه يستمد سلطته من الله ، فالحاكم إنسان يصطفيه الله ويودعه السلطة. وفي هذه المرحلة سُميت النظرية بـ ” نظرية الحق الإلهي المباشر ” لأن الحاكم يستمد سلطته من الله مباشرة دون تدخل إرادة أخرى في اختياره، ومن ثم فهو يحكم بمقتضى الحق الإلهي ا لمباشر.
ومنذ العصور الوسطى ، وأثناء الصراع بين الكنيسة والإمبراطور ، قامت فكرة جديدة مقتضاها أن الله لا يختار الحاكم بطريقة مباشرة ، فالسلطة في ذاتها من عند الله ، ولكن الله لا يتدخل مباشرة في اختيار الحاكم. وإن كان من الممكن أن يرشد الأفراد إلى الطريق الذي يؤدي بهم إلى اختيار حاكم ما. ومن ثم فالله يختار الحاكم بطريقة غير مباشرة ويكون الحاكم قد تولى السلطة عن طريق الشعب بتوجيه من الإرادة الإلهية ، أو ما سمي بمقتضى) الحق الإلهي غير المباشر (.
وفي التاريخ العربي هناك أمثلة كثيرة فبنو أمية وبنو العباس جاؤوا الى السلطة تحت غطاء الدين وتحت ذريعة الدفاع عنه ونشره ، فمن بين حكام العصر الاموي مثلا ، كان للحجاج صولات وجولات في الاستبداد والقتل والبطش ، وفي العصر العباسي كان المنصور ضيق الصدر سياسيا ، يأخذ بالظنة في كل ما يتعلق بالمُلك ، ويحاسب أشد المحاسبة ، حتى ما توهمه في النية والضمير ، ويجزي على ذلك بالقتل السريع ، لا يرحم خارجا عليه ، بل ولا من توسم فيه خروجا ، ولا من حاول أن ينترع منه سلطة ، ولو كان هو مانحها.
خلاصة القول ، نجد في وقتنا الحاضر ، إن الحكم الثيوقراطي والتوجهات نحو سيطرة السلطة الدينية على أنظمة الحكم أثبتت فشلها سواء في بدايات مرحلة التغيير في العراق أو في بلدان ما سمي بـ ” الربيع العربي ” ، بعد أن نفرت الشعوب من سياساتها ، فبدأت بالعودة الى دعم الاحزاب الليبرالية او العلمانية الاكثر انفتاحا ، أو على أقل تقدير الأحزاب الدينية المعتدلة التي يطلق عليه -أحزاب الاسلام الليبرالي – وهو ما دفع اغلب تلك الاحزاب الى مجاراة هذه الرغبات والتطلعات لكي لا تخسر سلطاتها ونفوذها وان ضحّت بجزء من مبادئها !.
مع ذك فإن تلك السنوات أمعنت في دفع الدولة الى الاستمرار بالانهيار وعرَّضتها الى مخاطر جسيمة وولّدت تراكمات إضافية من الفشل والعجز في بنية الدولة ومؤسساتها دون ان تلوح في الافق أية بوادر لانفراج الازمات التي تحتاج الى تغيير حقيقي في نمط نظام الحكم واسلوب وآلية اختيار الحكام ، تلك التي كانت في ظل النظام السابق تجري بشكل صوري ليفوز القائد الأوحد بـ 99،99% من الاصوات !! ، ومع الاسف ، فانه في ظل الانظمة الحالية ، يعطي قانون الانتخاب وعموده الفقري (النظام الانتخابي) حصانة لاحزاب السلطة المهيمنة على تكرار انتاج واستنساخ نفسها مع تبادل بسيط للادوار مصحوب بغياب شبه تام للوعي الجمعي السياسي والثقافي لدى عموم ابناء المجتمع بما فيها النخب ، ليجد الناخبون أنفسهم لدى الانتخاب أمام خيارات محددة لا بديل لها ، يعقبها اختيار الفائزين وفق اجراءات اوردها القانون الانتخابي وتفرعاته بشكلٍ مصمم ومبرمج لصالح اختيار مرشحي الاحزاب الرئيسة المهيمنة على المشهد السياسي في البلد.