22 ديسمبر، 2024 11:12 م

أساطين الفلسفة اليونانية

أساطين الفلسفة اليونانية

المبحث الاول:
سقراط Socrates
مقدمة:
يُعد سقراط أبرز فيلسوف يوناني، بل هو أحد مؤسسي الفلسفة الغربية، وذو شخصية غامضة عرفت عن طريق الكتاب الكلاسيكي، وخاصة لكتابات تلاميذه أفلاطون وزينوفون ومسرحيات أريستوفانيس المعاصرة، وحوارات أفلاطون باعتبارها من أكثر العبارات شمولاً عن سقراط منذ العصور القديمة.
ويعُد سقراط من أعظم الفلاسفة الذين جاءوا على مر التاريخ وبرعوا في الفلسفة والحكمة والاخلاق، وقد وردت عنه العديد من الافكار والحكم والاقوال الرائعة والنصائح في مجال حياة واطرها العامة، وغيرها من الامور الاخرى، وعلى الرغم من أن سقراط لم يترك خلفه كتباً بخط يده، إلا أنَّ كل ما وصل إلينا منه هي كتابات من تلاميذه منقولة عنه وابرزهم افلاطون.
“والحق أن سقراط كان مثالا لمواطن الصالح الذي يريد أن يرقى بأمته الى حيث يرجو لها من خير ومعرفة. فهو إنسان صادق كان يسير بين مواطنيه سيرة نقية صالحة، فأرتفع عن الصغائر وتنزه عن الشر؛ لم يؤذ أحداً بل لقد احسن الى الناس جميعاً بما قدم لهم من نصائح وبما اورثهم من فدى. وهو فضلاً عن ذلك فيلسوف عميق بعيد النظر. أنه من اولئك الافذاذ الذين يفاخر بهم الفكر العالمي على مختلف العصور وتباين اجيال الناس وتفاوت حظوظ هذه الاجيال من الحضارة ورقي الشعور. فالتخريب ليس من طبعه، والتشكيك الهدام لا يستقيم مع سموّ نفسه ومعدن الخير الذي قُدت منه روحه”.
وهذه قبسات من حياته وفلسفته، نقسمها كالآتي:
أولاً: مولده ونشأته
ولد سقراط في مدينة أثينا عام 470/469 ق.م، أي في نهاية الحروب الميدية بين اليونان والفرس. وكانت أمه فيناريت والتي كانت تعمل قابلة -تولِّد النساء-، ولأنه لم يكن من عائلة نبيلة، فمن المرجَّح أنه تلقى تعليماً بسيطاً في اليونان، وتعلَّم حرفة والده في سن مبكرة، ويُعتقد أنه عمل كبنّاء لعدة سنوات قبل أن يكرِّس حياته للفلسفة. (1)
وذكر ابن ابي اصيبعة في كتابه طبقات الاطباء: أن سقراط كان من تلاميذ فيثاغورس، اقتصر من الفلسفة على العلوم الإلهية، وأعرض عن ملاذ الدنيا ورفضها، وأعلن بمخالفة اليونانيين في عبادتهم الأصنام.(2)
ويختلفُ المعاصرون في آرائهم عن كيفية دعم سقراط لنفسه كفيلسوف، فقد قال كلٌ من زينوفون وأرسطوفانيس أنَّ سقراط كان يأخذ دعماً من الدولة للتعليم، في حين أن أفلاطون يكتب أن سقراط رفض صراحةً قبول الدفع، واستشهد بفقره كدليل على ذلك.(3)
وتعددت الروايات التي تتحدث عن حياته قبل شهرته فقيل أنه عمل نحاتاً ومرابياً، وقيل أنه وقع في الأسر ردحاً من الزمن.
وقد مارس في البداية مهنة والده، مكتفياً بالعيش عيشة بسيطة برفقة كسانتيبي، زوجته التي لا تطاق، حتى وقع ذلك الحدث الذي أيقظ موهبته الفلسفية، حين أخبرت البيثيا، كاهنة هيكل ذلفُس، أحدَ أصدقائه ذات يوم بأن سقراط هو أكثر البشر حكمةً؛ الأمر الذي دفع به، وقد بدأ مشكِّكًا في ذلك بادئ الأمر، لأن يندفع في محاولة تلمُّس أبعاد تلك الكلمات التي حدَّدتْ مسار حياته.(4)
هكذا بدأ مسيرته، متلمساً طريقه من خلال مواطنيه، محاولاً استكشاف مكامن تفوُّقه المفترَض – ذلك المسار الذي أوصله إلى تلك النتيجة التي مفادها أن “كل ما أعرفه هو أني لا أعرف شيئاً، بينما يعتقد الآخرون أنهم يعرفون ما لا يعلمون”. تلك الحقيقة التي جعلت من فكره الثاقب أمراً مزعجاً، حينما يقارَن بالامتثالية الفكرية للكثير من معاصريه.
وقد تلقى سقراط تعليماً أساسياً يونانياً على الأرجح وتعلم مهنة والده بسن مبكرة، ويعتقد أنه عمل نحاتاً لسنوات عديدة قبل أن يكرس حياته للفلسفة، هذا ويختلف معاصروه في كتاباتهم حول كيفية كسب سقراط قوت يومه أثناء عمله فيلسوفاً، فيشير زينوفون وأريستوفان إلى أن سقراط كان يتلقى مالاً لقاء تدريسه في حين كتب أفلاطون أن سقراط نفى صراحة تلقيه مالاً، واستشهد بفقره دليلاً على ذلك.(5)
وحياة سقراط تؤرَّخ من خلال مصادر قليلة فقط، نقصد بها تحديداً “حوارات أفلاطون وزينوفون – ومسرحيات أرسطوفانيس“، ولأن هذه الكتابات كان لها أغراض وأهداف أخرى غير الإخبار عن حياته؛ فمن المُرجح أن لا تقدِّم لنا صورة كاملة ودقيقة تماماً. ومع ذلك، بشكل عام، إنها توفر صورة فريدة وحيَّة لفلسفةِ سقراط وشخصيته.
“وكان سقراط زاهداً في الدنيا قليل المبالاة بها، وكان من رسوم ملوك اليونانيين إذا حاربوا أخرجوا حكماءهم معهم في أسفارهم، فأخرج الملك سقراط معه في سفرة خرج فيها لبعض مهماته، فكان سقراط يأوي في عسكر ذلك الملك إلى زير مكسور يسكن فيه من البرد، وإذا طلعت الشمس خرج منه فجلس عليه يستدفئ بالشمس، ولأجل ذلك سمي سقراط الحب”.(6)
لقد كافح سقراط طوال حياته من أجل مبادئه ودافع عنها دفاع المستميت حتى مات من أجلها فأصبح شهيد الفلسفة الاول، وقد قال عنه شيشرون الكاتب الروماني “لقد أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض”(7)؛ إذ يُعد سقراط واحداً من أشهر وأهم الفلاسفة العظام الذين اهتموا بالبحث في مجال الاخلاق بشكل خاص، وهو بعدُ واحد من الفلاسفة الغامضين حتي يومنا هذا، وليس مثل باقي الفلاسفة مثل افلاطون تلميذه، حيث لم يترك سقراط وراءه أيّة كتابات يمكننا عن طريقها الاستدلال إلى آرائه وأفكاره الفلسفيّة، كما اسلفنا.
وسقراط يعد مؤسس فلسفة الأخلاق الأصلية، وبه ينقسم تاريخ الفلسفة إلى ما قبل سقراط وما بعده، ومعه بدأ التحول من النزعة الطبيعية المادية إلى المثالية.
وتتسم شخصيته بالغموض، تتضارب الروايات بشأنها، لكن الإجماع ينعقد على أنه إنسان حقيقي عاش ودرس ومات في أثينا، وأنه كان من الطراز السوفسطائي المعلم، وأنه كان يعلم شباب أثينا حكمة التمايز عن الآخرين، وأنه دخل في مجادلات ومحاورات مع السوفسطائيين اشتهرت عنه، وجعلت لفلسفته أو لشخصيته طابعها الإنساني العميق، وكان من بين تلاميذه العديدين، أفلاطون وإقليدس المغاري.
ثانياً: الفلسفة قبل سقراط
تختص الفلسفة قبل عصر سقراط أساساً بمسائل مثل كيف وُجد العالم؟ ومن أي شيء صُنع؟ ولقد اقتنع سقراط بأنه من المستحيل الإجابة عن هذه التساؤلات، وبأن دراسة هذه المسائل لن تلقي أي ضوء على السبيل الحق للحياة. واتخذ سقراط لفلسفته شعار “معبد دلفي”: إعرف نفسك بنفسك”،(8) وأراد بذلك أن يغوص في أعماق الطبيعة البشرية والنفس الإنسانية. وقد آمن بأن الآثام كلها وليدة الجهل، وأن الناس لو عرفوا فقط ما هو الحق، لما وجدوا صعوبة في اتباعه. وهذا هو معنى القول المأثور الذي يُعزى إليه: “الفضيلة هي المعرفة”
اطلع سقراط على أعمال عدد من الفلاسفة العظماء الذين سبقوه مثل الفيلسوف زينون الإيلي، والفيلسوف والمفكر الرياضي فيثاغورس، ومن المرجح أيضاً أن سقراط عرف فكر هيروقليطس. ويزعم البعض أن سقراط كان بادئ الأمر تلميذاً للسفسطائيين، وأنه هو نفسه كان سفسطائياً ومعلم بلاغة، إلا أنه من المؤكد أنه أصبح مناهضاً للسفسطائية عند تبلور شخصيته الفلسفية، فهو لم يتوقف عن الهزء بادعاءاتهم الخطابية في الكثير من مقولاته.(9)
ولا غرو، فأن سقراط يُعد أحد الفلاسفة القلائل الذين أثَّروا في تغيير النظرة إلى الفلسفة تغييراً تاماً. كلما وصلنا عن سقراط معلومات منقولة، ومعظمها يشتد عليه الخلاف، وبرغم ذلك، تظل محاكمته وموته، على يد الديموقراطية الأثينية، أسطورة تأسيسية للنظام التربوي الفلسفي، بل إن تأثيره قد تجاوز الفلسفة ذاتها، وفي كل العصور. وبسبب اعتبار حياته مثالاً نموذجياً للحياة الفلسفية، أو مثالا لما ينبغي أن تكون عليه حياة أي شخص مجملًا؛ فقد نال سقراط الكثير من الإعجاب وقلده كثيرون، وهذا يكون عادة من نصيب مؤسسي المذاهب الدينية ـ مثل أزرادشت أو بوذا ـ لكن الأمر يصبح غريباً بالنسبة لشخص كان يسعى بقوة إلى جعل الآخرين يمارسون تفكيرهم الخاص، أو لشخص أُدين وأُعدم بتهمة الزندقة والكفر بآلهة أثينا. ومما لا شك فيه أنه كان محط إعجاب الكثير، إلى درجة دفعتهم إلى الكتابة عنه، وكلهم رأوا فيه شخصاً غريباً بالنسبة إلى تقاليد القرن الخامس قبل الميلاد في أثينا: من ناحية مظهره، وشخصيته المتزنة، وسلوكه القويم، وكذلك في آرائه وأساليبه المختلفة عمن سواه.
كان سقراط يؤمن أنَّ على الفلسفة أنْ تحقق نتائج عملية للوصول إلى أكبر قدر من المنفعة للمجتمع ككل، فحاول أن يؤسس نظاماً أخلاقياً يعتمد على العقل البشري بدلاً من العقائد اللاهوتية، وأشار إلى أن قدرة الإنسان على الاختيار يحركها سعيه وراء السعادة، وأن الحكمة المطلقة تتأتى عن معرفة الإنسان لنفسه، وأنه كلما عرف الإنسان أكثر ازدادت قدرة العقل لديه على اختيار خيارات تحقق السعادة الحقيقية، وكان سقراط يعتقد بأن ذلك إذا طُبّق في السياسة فإنه سينتج أفضل شكل من أشكال الحكومات التي لا تكون مستبدة ولا ديمقراطية، بل أن الحكومة تكون في أفضل أحوالها عندما يحكمها الأفراد الأفضل في القدرات والمعارف والفضائل والذين يمتلكون فهماً شاملاً لأنفسهم.(10)
ونستطيع القول: إنَّ فلسفة سقراط تختلف عن فلسفة القدماء في أنها تركت التجوال فيما وراء الطبيعة والتنقيب في العماء الأول، وهبطت إلى الأرض تتخلل نفس الإنسان فأهم أغراضه أن يعرف نفسه، ويعرف الفضيلة التي شغلت من ابحاثه المحل الأول، وكان يفخر بجهله المظاهر الخارجية، وينسب ما يعزى إليه من تفوق عقلي إلى هذا الجهل. ” لا أدري سوى شيء واحد، هو أنني لا أدري شيئاً”.

ثالثاً: حالته الاجتماعية
إذا كان الزواج هو رابطة اجتماعية الغاية منها تكوين اسرة صغيرة، ومن ثم تصبح هذه الاسرة كبيرة لتنضم الى المجتمع والذي هو الآخر يصبح لبنة لتأسيس مجتمعات متعددة؛ فأن سقراط كان يؤمن بهذه النظرية، ايماناً مطلقاً.
وعليه فأنه مالت نفسه الى الزواج فتزوّج من امرأة يقال كانت أصغر منه سناً، وأنجبت له ثلاثة صبيان، والمعلومات المتوفرة عنها قليلة جداً باستثناء وصف زينوفون لها بأنها “بغيضة”، حيث كتب أنها لم تكن راضية عن صنعة سقراط الثانية وكانت دائمة التذمر من أنه لا يعيل عائلته بعمله فيلسوفاً، وحسب أقوال سقراط نفسه، لم تكن له يد في تربية أبنائه تقريباً وكان مهتماً أكثر بكثير بالنمو الفكري للشبان الأثينيين.(11)
رابعاً: فلسفته
ذكرنا أن سقراط كان فيلسوف اخلاق، وصب فلسفته على النصائح والارشاد والتحلي بالخلق الرفيع، الذي يرفع من شأن الانسان ويحدو به الى العلياء، وترك سفاسف الامور.
فقط انسجم سقراط أول الأمر مع نظريات الطبيعيين وبخاصة نظريات انكساغوراس. وذلك حسبما جاء في محاورة «فيدون»، وقد انتصر لمعرفة الطبيعة، بل أنه يترك الطبيعة للآلهة ليشغل نفسه بالناس وبمسائل الأخلاق، وكان قوام منهجه أن يجري تقابلاً بين الآراء ثم يستخلص «بالاستقراء» فكرة عامة تكون بمنزلة تعريف للموضوع المنشود، وما هذا التعريف إلا فَرَض برسم التحقيق من صحته، وليس يقيناً مطلقاً. وفي كل الأحوال تبقى محاورات أفلاطون السقراطية ارتيابية، إذ تقام دائماً مقابلة بين تجريبية المنهج السقراطي، حيث تكون الفكرة العامة تجريداً وبين عقلانية النظرية الأفلاطونية في «المُثُل»، ولكن انكشاف المعرفة بالتفكير الشخصي «التوليد المعنوي» يظل مختلفاً بفضل «التذكر» وبفضل نوع من المعرفة الفطرية بجميع المعاني الخلقية التي يحوزها الإنسان في دخيلة نفسه.(12)
وسقراط هو ذلك الفيلسوف الذي حقق نتائج عملية لأكبر الرفاهية في المجتمع، وعمل على إنشاء نظام أخلاقي يقوم على العقل البشري، وأشار إلى أن اختيار الإنسان ينبع بدافع الرغبة في السعادة، والحكمة تأتي من معرفة الذات. أن أكثر شخص يعرف قدرة هو الذي له القدرة على اتخاذ القرارات التي من شأنها أن تجلب له السعادة الحقيقية، والسمعة الحسنة وسط مجتمعه.
لذلك كانت نقاشات سقراط التي لا تنتهي تلقى اهتماماً كبيراً من قبل الشبيبة، مما أثار قلق أولياء الأمور، الامر الذي جعل بأن يتهموه بالإلحاد وبإفساد أبنائهم، ومثل هذه السمة حتى الآن يوجد ما يماثلها في عصرنا هذا.
وأصبح من خلال تصويره في حوارات أفلاطون لسقراط الشهير لمساهمته في مجال الأخلاق، وهذا هو سقراط الأفلاطوني الذي يرجع اسمه إلى مفاهيم السخرية السقراطية والمنهج السقراطي، كما قدم سقراط لأفلاطون أيضاً مساهمات هامة ودائمة في مجال نظرية المعرفة، وقوة تأثير أفكاره ونهجه الذي لا يزال مؤثراً قوياً لكثير من الفلاسفة الغربيين، فضلاً عن البحوث والدراسات الكثيرة التي تعرضت الى فلسفته ونهجه.
خامساً اثينا:
خلال حياة سقراط، كانت أثينا تمر بمرحلة تحوُّل دراماتيكية؛ من الهيمنة في العالم الكلاسيكي إلى هبوطها بعد هزيمة مهينة ومذلَّة من قبل سبارطا في الحرب البيلوبونيسية، دخل الأثينيون بمرحلة من عدم الاستقرار والشك في هويتهم ومكانتهم في العالم. ونتيجةً لذلك، فقد تعلقوا بالماضي المجيد وخيالات الثروة وتصلب في المفاهيم عن الجمال الجسدي، أما سقراط فقد هاجم هذه القيم مع تركيزه وإصراره على أن الأهمية الأكبر للعقل، وبينما احترم بعض الاثينيين تحدي سقراط للحكمة اليونانية التقليدية وسخريته منها، ولكن البعض الآخر نموا كرهاً له وشعروا أنه تهديدٌ لطريقتهم في الحياة ومبشِّرٌ بمستقبلٍ غير واضح.(13)
وكانت أثينا بالنسبة لسقراط، فصلاً دراسياً وذهب في التساؤل عن النخبة والعامة على حد سواء؛ سعياً للوصول إلى الحقائق السياسية والأخلاقية. لم يحاضر سقراط عن ما يعرفه، في الواقِع، هو زعم بأنه جاهل لأنه ليس لديه أفكار، ومن حكمته أنه اعترف بجهله. وقد طرح أسئلة على زملائه الأثينيين بطريقة جدلية (الطريقة السقراطية) التي أجبرت الجمهور على التفكير من خلال المشكلة إلى نتيجة منطقية، وفي بعض الأحيان بدأ الجواب واضحاً جداً، مما جعل خصومه يبدون حمقى. لهذا، فقط كان سقراط مُحترماً ومعجباً من قبل البعض، ومشوهاً ومكروهاً من قبل آخرين.(14)
ومن الجدير بالذكر أنه خلال حياة سقراط في أثينا قد مر بتحول جذري من الهيمنة في العالم الكلاسيكية إلى تراجعه بعد الهزيمة المذهلة التي كتبها سبارطا في حرب البيلوبونيسية، حيث حلت علي الأثينيون خلال فترة عدم الاستقرار والشك حول هويتهم ومكانهم في العالم، ونتيجة لذلك، تمسكوا بأمجاد الماضي، ومفاهيم الثروة، وتثبيت الجمال الجسدي، فهاجم سقراط هذه القيم مع التركيز الأكبر على أهمية العقل.(15)
سادساً:
المعرفــــة
كان “سقراط دائم البحث عن المعرفة وفلسفته متجهة اتجاها كلّيّاً إلى الإنسان، فهي إذن أخلاقية تقود الإنسان إلى الكمال والفضيلة، وسمو الفضيلة على الرذيلة، فالأخلاق السقراطية مبنية على المعرفة لأن الفضيلة تقوم على العلم. فالكرم ليس العطاء فحسب، وإنّما معرفة كيفية العطاء، ومن الذي يستحق العطاء؟. والشجاعة هي إدراك الخطر، واختيار الأساليب المناسبة لإزالته.
ولكن أوّل خطوة في ميدان المعرفة مسألة لا يمكن الإنسان أن تنتظم حياته إن لم يدركها، فهي قاعدة اجتماعية إنسانية مهمة من أجل تنظيم الحياة، وجلب السعادة؛ هذه القاعدة السقراطية هي: “أيّها الإنسان إعرف نفسك بنفسك”.(16)
المعرفة عند سقراط هي أساس الحكمة، والحكمة هي سبيل الوصول إلى الخلق السليم، ومعرفة النفس تأتي في مقدمة هذه المعارف، لأن معرفة النفس، بما في طبيعتها من خير ومعرفة قدراتها، تجعل الإنسان يدرك موقعه من الآخرين، وبذلك تستقيم علاقته بهم، وشاع القول: من عرف نفسه عرف ربه.
أعطى سقراط للمعرفة مكاناً رئيساً في فلسفته، خاصة الأخلاقية، فكانت عبارته المشهورة: “العلم فضيلة والجهل رذيلة”. وسقراط هجر كل أنواع العمل، ولم يأبه لأية فلسفة تتعلّق بالطبيعة وموجوداتها، ولا بأخرى ماورائية تتجه إلى مسائل مجرّدة، وإنما صرف جلّ اهتمامه إلى المعرفة التي يكون الإنسان مصدرها بطريقة التوليد من ذهنه، وتكون غايتها نشر الفضائل في المجتمع، وقد سار على هذا النهج اسبينوزا وديكارت وكانت وسواهم.
سابعاً: محاكمته وإعدامه
يشير معظم الذين ارخوا قضية إعدام سقراط الى أنه سخط عليه الشعراء والخطباء والسياسيين، لأنه كان يحاورهم فيغلبهم ويبطل آرائهم، ويكشف زيفهم للملأ، فسخطوا عليه وحقدوا، وتمنوا لو تسنح لهم الفرصة حتى ينتقموا منه شر انتقام، كردة فعل لأنه اهان كرامتهم.
وهناك ثلاث شخصيات، تعد شخصيات فارغة- جوفاء تدعي الثقافة والعلم والمعرفة، (ومثل هؤلاء موجودون في يومنا هذا) ومن الذين نالتهم سخرية سقراط، وهم: انيتوس، ومليتوس، وليقون؛ وهؤلاء الثلاث كتبوا عريضة ووقعوها بأسمائهم، ورفعوها للمحكمة يتهمون فيها سقراط بالكفر والزندقة لتنظر فيها المحكمة وتصدر حكمها، والثلاث نفاط هي: “الاولى سخرية سقراط من قصص الآلهة.. والثانية ذلك الصوت الذي كان سقراط يقول أنه يسمعه في نفسه، ينهاه كلما اعتزم فعلا ضارا به وهو لا يدري، وكان يسميه بالروح الالهي، – وهذه اشبه بقضية الحلاج الذي أعُدم بنفس السبب وقد ذكرنا ذلك بمقال- والثالثة أن سقراط.. يحدَّث تلاميذه ومستمعيه بآرائه وينفرهم من الديانة الموروثة، ويحثهم على التفكير الشخصي دون مبالات بالنقل والتقليد، فيضعف من طاعتهم لوالديهم، ومن اخلاصهم للدولة”. (17)
وحينما قرأ القضاة ملف الدعوى، وكان عددهم يربو على خمسمائة قاضٍ، وكلهم تكفيريون؛ بحسب بتعبيرنا اليوم: ودواعش، فبعثوا شرطة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، (والآن موجودين في السعودية من يمثلهم)، فالقوا القبض على المعلم الكبير سقراط بتهمة الكفر والمروق عن الدين، ليمثل امام المحكمة لغرض الدفاع عن نفسه، او تثبت ادانته، فالقوانين الوضعية- كما هي اليوم تقول: “أن المتهم بريء حتى تثبت ادانته”.
لكنه، يظهر أن القضية مفروغ منها، أو أن صواريخ ومدافع سقراط كانت ضعيفة، ومقاوماته الارضية لم تعد تسقط طائرات العدو المتمثلة بالتلفيق والاكاذيب، والزور والبهتان المحبوكة؛ فأثبتت ادانته، وأصدرت المحكمة حكمها التعسفي بمرسوم جمهوري – داعشي، تيمي (نسبة الى ابن تيمية). وكردة فعل هيئوا له تلاميذه ومحبوه من بقية الشعب، أسباب هروب ناجعة، وكان في عرف ذلك المجتمع أن من يهرب مثل كذا حكم لا غضاضة عليه، فهم يعذرونه؛ لكن سقراط أبى ذلك كل الاباء وأعتبر هروبه لو تم فهو خيانة عظمى بقوانين بلاده، فقدموا له كأس السم، وكان حكم الاعدام في ذلك المجتمع بارتشاف كأساً من السم، فتناوله بإقدام وشجاعة نادرتين، فافرغه في جوفه، وكله ايماناً بأنه سوف يذهب الى عالم آخر هو ليس مثل هذا العالم المادي المبني على النفاق والكذب، ففاضت روحه، وارتفعت للسماء، وظلت تعاليمه وفلسفته العظيمة الى يومنا هذا، رغم مرور قرون طويلة عليها، وظلت مناراً للفلاسفة والمفكرين والشجعان تنير دياجي الظلام، وتدك أوكار الفسّقة، وما اكثرهم.
محاكمته: بقدر ما أثار سقراط إعجاب الكثيرين بقدر ما أثار غضب الكثيرين، حتى وصل الأمر الى محاكمته في عام 399 ق.م وهو بعمر السبعين وسجل موته في محاورة “فيدون ” “وكان موجهو الاتهام هم “أنايتس ” وهو سياسي ديمقراطي ، و”ميلتس ” وهو شاعر مغمور وطويل الشعر مسترخيه، و”لايكون” وهو خطيب مجهول.
ويذكر بعض الباحثين أنه عندما تولت هيئة المحلفين الدفاع عن سقراط، أدين له بالأغلبية من 280 إلى221 فرد، وربما كانت اللهجة التي تحدث بها دفاعه ساهمت في الحكم عليه وجعلت الأمور أسوأ خلال المداولات حول عقوبته، ليسمح القانون الأثيني لمواطن أدين لاقتراح عقوبة بديلة لتلك التي دعت إليها النيابة العامة وهيئة المحلفين أن تقرر بدلاً من ان يتم نفيه، اقترح سقراط انه سيتم تكريم المدينة لمساهمته في تنويرها وأن تدفعه للحصول على خدماته، ولكن لجنة التحكيم قررت الحكم عليه بالإعدام عن طريق شرب خليط من سم الشوكران. وقبل تنفيذ الحكم على سقراط، عرض أصدقائه رشوة للحراس لإنفاذه حتى يتمكن من الفرار إلى المنفى. فرفض، مشيراً إلى أنه لم يكن خائفاً من الموت، وشعر بأنه لنْ يكون أفضل حالا هناك في المنفى، وقال انه لا يزال مواطن مخلص في أثينا، وعلى استعداد للالتزام بقوانينها، حتى تلك التي حكموا عليه بالإعدام، ووصف أفلاطون إعدام سقراط في حوار له سجل فيدو: سقراط وهو يشرب الخليط الشوكران دون تردد، فخدره وتسلل ببطء في جسده حتى وصل إلى قلبه، وقبل أن تنفذ أنفاسه الأخيرة، وصف سقراط وفاته في بيان خروج الروح من الجسد.(19)

ثامناً: من اقواله الخالدة
1- نفهم قليلاً عن الحياة، وأنفسنا، والعالم من حولنا.
2- الحكمة تبدأ بالدهشة.
3- الناس عديمو القيمة يعيشون ليأكلوا ويشربوا؛ والناس ذوو القيمة يأكلون ويشربون ليعيشوا.
4- الأغنى هو من يقتنع بالقليل.
5- لو أن رجلاً أراد أن يفتخر بثروته، فإنه يجب أن لا يُمدح حتى يعرف كيف يوظفها.
6- دع الذي يريد أن يحرك العالم أن يحرك نفسه أولاً.
7- ليست الحياة، بل الحياة الكريمة، لتكون على رأس الأولوية.
8- لمرة واحدة لو قدمت المرأة متساوية مع الرجل، ستصبح رئيسه.
9- الطريق الأعظم للعيش بشرف في هذا العالم هو أن تكون ما تريد أن تبدو للعالم.
10- من صح فكره أتاه الإلهام، ومن دام اجتهاده أتاه التوفيق.
11- لا تركن إلى الزمن فإنه سريع الخيانة.
12- حيث يوجد تبجيل هناك خوف، ولكن إذا ليس هنالك تبجيل في كل مكان فإنه لا يوجد خوف.
13- نظام الأخلاق الذي يقوم على أساس القيم العاطفية النسبية هو مجرد وهم، تصور مبتذل وليس في ذلك شيء صحيح.
14- جميع نفوس البشر خالدة، ولكن أرواح الصالحين خالدة وإلهية.
15- الحكمة لله وحده، وعلى الإنسان أن يجد ليعرف، وفي استطاعته أن يكون محبًا للحكمة تواق إلى المعرفة، باحثاً عن الحقيقة.
16- الرجل الصادق دائمًا كالطفل.
17- كن كما يحلو لك أن تبدو.
18- الكلمات الكاذبة ليست شر في حد ذاتها ، ولكنها تصيب الروح بالشر.
19- أتمنى أن الناس العاديين لديهم قدرة غير محدودة لإلحاق الضرر، ثم يكون لديهم قوة غير محدودة لفعل الخير.
20- الشعراء ليسوا سوى مترجمين للآلهة.
21- سوءة لمن أعطيَّ الحكمة فجزع لفقد الذهب والفضة، ولمن أعطيَّ السلامة فجزع لفقد التعب والألم، فان ثمار الحكمة السلامة والدعة وثمار الذهب والفضة الألم والنصب.
22- الملك الأعظم هو أن يغلب الإنسان شهواته.
23- داوِ الغضب بالصمت، وداوِ الشهوة بالغضب، فإن من غضب على نفسه من تناول المساوئ شغل عنها.
24- بالعدل رُكِّب العالم، فجزئياته لا تقوم بالجور.
25- توقَّ كل التوقي ولا حارس من الأجل، وتوكّل كل التوكّل ولا عذر في التواني، واطلب كل الطلب ولا تتسخط لما جلب القدر.
26- لا راحة لمن تعجل الراحة بكسله.
27- لا شيء أنفس من الحياة، ولا خسارة أعظم من صرف الحياة في غير كسب حياة الأبد.
30- عجبا لمن عرف فناء الدنيا كيف تلهيه عما ليس له فناء.
31- النفوس أشكال، فما تشاكل منها اتفق وما تضاد منها اختلف.
32- إتفاق النفوس باتفاق هممها، واختلافها باختلاف مرادها.
33- النفس جامعة لكل شيء، فمن عرف نفسه عرف كل شيء، ومن جهل نفسه جهل كل شيء.
34- من بخل على نفسه فهو على غيره أبخل؛ ومن جاد على نفسه فذلك المرجو جوده.
35- ما ضاع من عرف نفسه، وما أضيع من جهل نفسه.
36- النفس الخيرة مجتزأة بالقليل من الأدب، والنفس الشريرة لا ينجع فيها كثير من الأدب لسوء مغرسها.

هوامش الفصل الاول
(1) برتراند راسل، حكمة الغرب 1: ص 94 عالم المعرفة- الكويت ط الثانية. عبد الرحمن بدوي، الموسوعة الفلسفية 1: 577،
(2) ابن ابي اصيبعة، طبقات الاطباء، ص59، دار المعارف، بيوت ط الاولى 1998.
(3) برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الاوربية 1: 152 وما بعدها، ترجمة زكي نجيب محمود، ط سنة 210 القاهرة.
(4)ول ديورانت، قصة الفلسفة ص 12،
(5) ولتر ستيس، تاريخ الفلسفة اليونانية، ص 93، ترجمة عبد المنعم مجاهد، القاهرة سنة الطبع 1984.
(6) ابن ابي اصيبعة، مصدر سابق ص61.
(7) ولتر ستيس، تاريخ الفلسفة اليونانية، مصدر سابق.
(8)جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة ص 366،
(9) جورج طربيشي، موسوعة الفلاسفة، مصدر سبق ذكره.
(10) يوسف كرم- تاريخ الفلسفة اليونانية ص 63، دار القلم بيروت، مراجعة وتنقيح د. هلا رشيد أمون. الدكتور عبد الرحمن مرحبا، مع الفلسفة اليونانية، ص 93 وما بعدها، منشورات عويدات، بيروت لبنان.
(11) يوسف كرم- تاريخ الفلسفة اليونانية ص 68، دار القلم بيروت، مراجعة وتنقيح د. هلا رشيد أمون.
(12) يوسف كرم- تاريخ الفلسفة اليونانية ص 64، دار القلم بيروت، مراجعة وتنقيح د. هلا رشيد أمون. الدكتور عبد الرحمن مرحبا، مع الفلسفة اليونانية، ص 93 وما بعدها، منشورات عويدات، بيروت لبنان.
(13)الدكتور عزت قرني، مجلة عالم المعرفة، المجلد 38- 2 ديسمبر سنة 2009 عدد خاص باثينا. ولترستيت، تاريخ الفلسفة اليونانية، ص 115- 106، مصدر سبق ذكره.
(14) الدكتور عزت قرني، مجلة عالم المعرفة، المجلد 38- 2 ديسمبر سنة 2009.
(15) الدكتور عزت قرني، مصدر سبق ذكره.
(16)المصدر السابق.
(17) المصدر نفسه.
(18) يوسف كرم- تاريخ الفلسفة اليونانية ص 64، دار القلم بيروت، مراجعة وتنقيح د. هلا رشيد أمون.
(19) آي. أف. ستون، محاكمة سقراط، ص 233 وما بعدها منشورات المجلس الاعلى للثقافة 2002 ترجمة نسيم مجلي.