في 7 ديسمبر 2012 وفي ليلة واحدة وفي مكانين مختلفين توفي المطرب العراقي نسيم عودة المولود في عام 1935 في ناحية الحلفاية بمحافظة ميسان . حيث يشم الطفل ( نسيم ) النسيم القادم من مواويل صيادي السمك في ليل الاهوار وعذوبة المكان الذي بأساطيره وفقراءه وقطعان جواميسه الذاهبة صوب جهات الشمس الدافئة.
وفي مكان آخر في مصر المحروسة توفي الملحن والموزع الموسيقي عمار الشريعي 1948.
ما لفت انتباهي واثارني وانزعجت منه أن اغلب القنوات العراقية الفضائية نشرت في تايتلها الخبري وفاة الملحن عمار الشريعي ولم تكتب خبرا او نعيا لوفاة المطرب نسيم عودة عدا القناة الفضائية العراقية التي نشرت الخبرين وكان خبر وفاة نسيم عودة يسبق خبر وفاة الشريعي.
هذا النكران في عدم احترام هكذا رموز نسجت في الوجدان الحضاري العراقي ذائقته المحلية الرائعة مثلبة في انتماء تلك المنافذ الاعلامية لما يكمن فينا من شجن محلي يسري في عروقنا وبذكرنا بعذوبة وجمالية تلك الاصوات الملتهبة بالحنين والتي تولد في أمكنة الحلم السومري وبين نعاس قرى القصب والماء وهدوء الطيور الآتية من هجراتها الطويلة.
هذه القنوات التلفازية انتبهت لبهرجت العولمة وشخوصها بفضل بيروقراطيتها .وبالرغم من ان الشريعي فنانا كبيرا وموزعا موسيقيا امتلك حسا فريدا في تنوع وحداثة جملته الموسيقية وخاصة على الة الاورك إلا أن نسيم عودة بالنسبة لذائقتنا وثقافتنا وذكرياتنا يمثل لنا نحن العراقيون طعم المكان بمحليته وريفيته وجنوبه الذي يعيش في الوجدان في سمفونيته المحمداوية ( ياهلا بحلو المعاني ) مثلت وما زالت العودة الرائعة لكل جميل نتمنى ان يعود بذكرياته واحلامه وأساطيره.
لم تحتفِ الفضائيات العراقية بموت هذا الجنوبي الناعس بصدى تلاطم امواج الهور وتراقص سعف بساتين النخل ومواويل القصب وفضلت ان تعلن موت ملحن وموسيقار مصري مات معه في ذات اليوم وكأنها تعيد المقولة القائلة ( مغنية الحي لا تطرب ) ولكن نسيم عودة لن يحتاج الى تايتل أي فضائية فأنه يبقى يقوم بمودة صوته بأيقاظ الكثير من مكنون ضمائرنا في استعادة ما تصنعه الاغاني الحميمية فينا .اغنيات الغرام والمهجر والحرب والطفولة وتلك الوثائقيات التي كنا نشاهدها بالأسود والابيض عن سفينة نوح ومعابد القصب وسفرة جلجامش.
هذا النسيان للاحتفاء برجل صنع من صوته خامة للعشق والذكريات وأحلام الجنود لا يمثل شيئاً في تراث المطرب المصنوع ببحة الاشتياق . هم ينسوه لكن تاريخ الفن والحلم في هذا الوطن يبقيه مزروعا كما شتلات الشلب في سواقي الجنوب السومري .
نسيم عودة توفاه الله ، لكن صوته يزرع في نشيد الذاكرة طقوس مودة الريف في طربه وحزنه ووجوده .ومثل الرعيل الذي جايله كان الفقر يدفع المبدعين ليتقاسموا رزق موهبتهم مع وظيفة ما فتطوع جنديا في القوات المسلحة ووصل ليصبح سائقا شخصيا للزعيم عبد الكريم قاسم أيام كان آمرا للواء 29 . وعندما اصبح الزعيم رئيسا للعراق بعد ثورة 14 تموز 1958 طلب منه أن يبقى سائقه الشخصي لكنه فضل أن يعيش مع حلم موهبته وأغانيه وان يقدم الى الاذاعة وليتحق مع الركب الجميل لأغاني الستينيات والسبعينيات عبد الصاحب شراد وعبد الجبار الدراجي وحسين السعدي وجاسم الخياط وجواد وادي وعبد محمد وغيرهم.
مات العراقي السومري نسيم عودة .ولكن صوته باقيا ، ومات المصري الفرعوني عمار الشريعي ولكن الحانه باقية .وليس بين الرجلين محنة نشر خبر في تايتل فضائية بل ما بينهما هو مودة الشجن والموسيقى واللحن ولكن كل على طريقته…!