19 ديسمبر، 2024 2:53 ص

أسئلة الماضي وأجوبة المستقبل في العراق الجديد عن الواقع المعيش والمتوقع الموضوعي والمتمنى المتخيل

أسئلة الماضي وأجوبة المستقبل في العراق الجديد عن الواقع المعيش والمتوقع الموضوعي والمتمنى المتخيل

 “كيف سنخترق قروناً طويلة من تشوّه التاريخ ، كي نكشف الحقيقة ؟ ”
 دان بروان ( شفرة دافنتشي) 
في المتعارف عليه ، إن التاريخ هو من يقدّم الإجابات كونه ماضياً ( متأكداً ) مما يجيب لأنه شهد وكتب أو تناقل ، فيما المستقبل مازال يطرح أسئلة  لن تتضح إجاباتها الا بعد أن تصبح تاريخاً بدورها ، لكن هل تلك القاعدة صحيحة تماماً؟ وماذا لو كان عكسها ممكناً ؟ أي أن يتكفل المستقبل بالإجابة على ما يطرح التاريخ من أسئلة ؟ 
لننطلق من نقطة وسطى في (حاضر) العراق  ونستخرج بعض متداولاته لنختصرها في مقولتين :
1:( يعمل السنّة على إزاحة الشيعة عن الحكم بأي ثمن )
2:( الشيعة يهمّشون السنّة ويحاولون إبعادهم عن مركز القرار ).
هاتان المقولتان ليستا مجرد وجهتي نظر يمكن دحضهما ، أو أنهما يظهران بشكل عرضي في معرض الحديث عن العراق ، بل هما (غولان ) لايشبعان من التكرار ، مايجعل سؤال براون أعلاه ، بمثابة صيحة احتجاج وحيرة في الوقت عينه ، فالحجب الكثيفة التي ألقاها التشوه المتعمد لأحداث التاريخ ، مازالت تفعل في الحاضر ، وستضع أسس المستقبل إن لم يجر العمل على كشفها وتجاوزها .
 تعلن المقولة الثانية عن حضورها  بسيل من التصريحات والبرامج التلفزيونية ومئات المقالات الصحفية التي عادة مايكون مصدرها ( الخارج ) العربي على الأكثر ، وكأن بعض العرب يغيظهم إن يتماسك العراق أو أن يتجاوز محنته ، لذا على تلك المقولة أن تبقى جاهزة ومندفعة للحفر في المجتمع العراقي بغضّ النظر عما يمكن تحقيقه من خلالها  .
أما الثانية ، فلاشك أن لها مريديها ومروجيها من بين السياسيين  والمثقفين الشيعة ، وإن كان تداولها يتمّ على نطاق  محدود في بعض الأوساط المذكورة ، فيما تنحسر عن الظهور العلني بنسبة ما.
المشكلة إن كلّا من معتنقي المقولتين ، يعدد الكثير من الأسباب  والشواهد لتدعيم مايقول ، مختتماً بالجملة الشهيرة : هذا هو الواقع .
ولكي لايستمر ( الواقع )  المعلل الذي يشمل مزيجاً غير متجانس من المتخيل والمهوّل – المبالغ فيه – في إضفاء هالته على الواقع الفعلي ،ينبغي تفكيك تلك المفردة الى عناصرها الأولية لرؤية من ثم مقدار ماتمتلك من مصاديق .
يتأرجح الواقع بين متكئين : تاريخ مضى تاركاً آثاره ، وحاضر يتسمّر في مكانه مجترّاً مفردات الماضي – المؤرخ منه تدويناً والمتداول شفاهاً  –  .
لكن التاريخ علم يشتغل في حقول تركز إهتمامها بشكل رئيس في محاولة الإجابة على أسئلة ثلاثة  :ماذا حدث ؟ كيف حدث؟ لماذا حدث (1)؟
فهو يخبر أولاً عن وقوع الحدث ثم عن كيفية وقوعه وماهية الوسائل والأساليب التي اتبعت أو استخدمت لجعله حدثاً  .
الإجابة عن السؤالين الأولين هي من اختصاص علم التاريخ ، لكن المشكلة طالما كمنت في محاولة الإجابة عن السؤال الثالث والأهم ،( لماذا حدث )  ذلك مايمنح التدوين التاريخي قيمته وجدواه  ، وإلا تحول إلى مجرد رواية تفقد الكثير من شغفها بل وقدسيتها كذلك ، رغم أن التاريخ محترم عند جميع الأمم والشعوب ، لكنه ليس مقدساً بالضرورة (إحترام التاريخ لا تقديسه) .
لكلّ حدث في التاريخ ، احتمال مواز لم يقع ، وفيما توفرت العوامل اللازمة لظهور الأول الذي وقع فعلاً ، غاب (الحدث) المواز رغم انه يمتلك كذلك العوامل الموضوعية التي قد لاتقل ّ بالمقدار عن الحدث الأصلي ، وعليه حينما نقرأ الحدث التاريخي بإمعان ، فإننا في الحقيقة نبحث ليس عن  الحدث ذاته وحسب ، بل عن ذلك المواز الذي لم يحدث ، خاصة إذا كنا نعتقد بأنه الأفضل لو  كان قد وقع بديلاً ،وهو مايفيد في حال ظهور بعض المؤشرات في حياة الشعوب التي تتشابه مع ماحدث في تاريخها ، كي تتمكن من تجنب ماحدث (في التاريخ)  ومن ثم تنتصر لما لم قد يحدث في الحاضر ( الموازي) .
لكن ، لكي يتمكن علم التاريخ من الإجابة الموضوعية ( الفاصلة ) عن حيثيات وقوع الحدث وأسبابه – أي كشف الحجب عن التشوه –  لابد له من علوم أخرى موازية ومتطورة : علم اجتماع – علوم سياسية – اقتصادية – بنية ثقافية متحضرة  – علوم جغرافية – انثربولوجيا – على أن يصحب تلك العلوم مناهج معرفية (أبستمولوجية) فاعلة ، كي يؤطر الحدث التاريخي  بإطاره الواقعي ويزحزح من ثم الكثير مما رافقه من مخيال جمعي او إسقاطات أسطورية أو مؤسطرة أو غايات نفعية ، أو ماشابه من عوامل تجعل الحدث واقعاً خارج الواقع الموضوعي واقرب إلى المؤَلف والمؤّل .
ولما كان (المنهج) المتبّع في تدوين التاريخ وإيراده ،هو ذاته المستخدم في تحديد الواقع ورؤية أبعاده المختلفة ، ما يوقع في الإشكاليات ذاتها ،لذا فالحديث عن الحاضر يشمل كذلك أبعاداً ثلاثة : الواقع والمتوقع والمتمنى ، ولكلّ من هذه الأبعاد وسائله في البحث والتعريف ومن ثم استخراج الخلاصات المتعلقة به أو التابعة له  .
مايميز الواقع هو دخوله في مفهوم الزمان وشغله حيزاً في المكان ، مايجعله في متناول الحواس من جهة ، والحسّ من جهة أخرى ، وبالتالي فالواقع صنو الحاضر ومتجلّ فيه وبواسطته.
أما المتوقع ، فهو الموضوع إستناداً الى الواقع وانطلاقاً منه،أي ذلك (الحدث) الذي يمكن أن يمتلك الوسائل الكفيلة بتحققه ليصبح واقعاً في المكان ، لكنه مؤجل في الزمان ، وبالتالي حاضر في الإحساس وفاعل في الفكر ، وإن مايزال غائباً عن الحواس .
وإذا كانت التكتيكات هي التي تتكفل بالتعامل مع الواقع ووضع الأسس اللازمة للتأثير به وفيه ، فإن الإستراتيجيات  هي التي تتعاطي مع رسم المتوقع وتحديد الحيثيات التي قد تؤشر إلى جعله واقعاً في المستقبل ، لكن المتوقع قد لايكون مثالياً بالضرورة ، لذا لاتقتصر مهمة الإستراتيجيات في محاولات الكشف عن المتوقع وحسب ، بل وضع الخطط اللازمة لمواجهته أو تسييره أو جعله ممكناً أو الاستفادة منه وتوظيفه .
لذا فحين يستهلك الواقع جهد السياسة رغم الإعلان عن ظهوره وبالتالي السهولة النسبية في التعاطي معه ، فإن الحدث الذي يفترض إنه ضمن المتوقع ، يفاجئها حال ظهوره ، ومن ثم يربكها لأنه لم يدخل في حساباتها الموضوعية التي ينبغي أن تتوقعه .
في العراق الراهن ، يعمل بعدان وحسب: الواقع الإفتراضي  والمتمنى المتخيل ، أما عن المتوقع ، فهو إما شبه غائب لغياب العقل الاستراتيجي المستكشف ،أو مغيب لحساب الماضي (المفترس) .
وفي العودة إلى المقولتين أعلاه ،نجد ان الأولى قد ارتكبت مجموعة من المفارقات ، فهي تفترض سلفاً ان (السنّة ) كمكون ، إنما يجتمعون في عقل واحد يحمل بعداً واحداً ويعمل على تحقيق هدف واحد : (إزاحة الشيعة عن الحكم ) وبالتالي لايتم التفريق بين مايحمل بعض بصمات الواقع بجزئيته ، وبين الواقع الكلي .
فلنفترض جدلاً إن ذلك الهدف يقع في إطار المتمنى عند الغالبية من السنّة ، لكن المؤكد كما يشير الواقع ذاته ، إن السبيل الى تحقيقه يسوده الكثير من الإختلاف ،مايجعل تصنيفه واختصاره في تلك المقولة ، اقرب إلى إعادة صياغة (مؤسطرة ) يختلط فيها المتخيل مع الواقعي وبالتالي يدخل ضمن (تفكير ) خاصّ وليس واقعاً خالصاً ، في الوقت الذي يجعل من المتوقع هلامياً غامضاً لعدم امتلاكه مقومات الموضوع ، حيث يشير الواقع إلى استحالة تحقيق هدف من هذا النوع بعد أن قطع العراق مراحل مهمة في بناء الديمقراطية ،الإ ب( خيار شمشمون ) أي إعلان الإنفصال السنّي ،  مايعني فشلاً لهدف الإزاحة الذي تحمله المقولة المذكورة ، والتضحية بالعراق كبلد ودولة  ، ذلك لأن (أي ثمن  ) الذي يكمل المقولة ويختمها  ، ينفتح على كلّ الإحتمالات بما فيها الكارثية منها، وهو ما يتنافي مع رؤية معقولة للواقع ، ناهيك بقراءة موضوعية للمتوقع . 
لكن ماينفع في تجاوز مقولة من هذا النوع ، أنهاتكتفي بوصف ( الخطر) من دون التورط بطرح مقابل يحمل في طياته بذور العنف كما في الحديث عن ( الإزاحة ) ، كما يمكن القول بأن تلك المقولة ليست واقعاً وإن حملت ملامح واقعية  .
وعلى رغم أن  المقولتين تبدوان في الظاهر متضادتين ” والضدّ يثبت وجوده في التنافس بينه وبين أضداده ” على مايذهب علي حرب ، إلا إنهما متكاملتان في (الواقع ) ، حيث تبرر كلّ منهما حضور الأخرى بل وتسوغ لها ذلك الحضور ، لتدخلا من ثم  في جدلية متشابكة : حديث التهميش والإقصاء عند السنّة ، يستحضر بدوره حديث الإزاحة عند الشيعة  ، ولكي لاتتم تلك ( الإزاحة ) ، ينبغي تمّسك  الشيعة بمفاصل القرار ، كي لاتكون المشاركة مدخلاً للإزاحة ، وهكذا يتم تبادل كرتي النار الخارجتين  من الماضي المنتهي ، لتدخلا في الراهن المبتدىء ،ما يؤدي بمحصلته إلى احتراق  المتوقع الإيجابي بعد قذفه بهاتين الكرتين .
الخلاصات غير المنتهية :
1: ماهو واقع في العراق اليوم – بما فيه ما تلخّصه المقولتان –  يمتلك مقومات الموضوع ، أي انه كان ضمن المتوقع منذ البداية ،وبالتالي ينتفي عنه المفاجئ ، كما يمكن عقلنة المهولّ به ووضعه من ثم في سياقاته الطبيعية . 
2: لا يستمر الواقع على حاله ، لكن المتوقع يدخل في مجموعة من المحتملات : المتمنى (مشاركة فاعلة وعراق واحد ) المتخوف منه ( عراق مجزّء واحتراب داخلي )
الواقعي ( فيدرالية نشطة وحكومة فاعلة ومتفاعلة ) .
3: العراق بلد يغصّ بالمفارقات ، لكنه لايحمل الكثير من المفاجآت ، والفارق بينهما إن المفارقة تدخل في حقل المستغرب لكن المتوقع في الوقت ذاته ، أي مايملك مقومات حصوله وإن خارج المتمنى أو المرغوب به ،فيما المفاجأة موضوع لايدخل في المتوقع وإن كان سارّاً ، إنها – المفاجأة-  تحدث حينما نربط موضوعات الواقع بتوليفات الوهم وماينتجه من إعادة تشكيل للوقائع لاتنطبق بالضرورة على الحيثيات الفاعلة في الواقع ذاته وبما تنتجه خارج رغباتنا أو تصوراتنا عنه  .
وعلى ذلك تعتمد السياسة البارعة في حساباتها ، على المتوقع بدرجة أساس  لكنها تتحسب لوقوع المفارقة وبالتالي تتضاءل فرص المفاجآت بالظهور ، لأنها كذلك تؤطر ضمن المتوقع في حال برع السياسي وتطور الفكري .
4: يمتلك العراق فرصاً حقيقية لنهوض لاحق ، وذلك لتوفر مجموعة من العوامل المساهمة في الدفع نحو متوقع ايجابي   (2) :– ثروات طبيعية – موقع حيوي – مجتمع متنوع (3) – عمق تاريخي – قوة كامنة – إقتصاد واعد – تلك العوامل كفيلة بجعل العراق واحداً من البلدان المرموقة ، شرط أن تتفاعل وتتكامل مع بعضها ، أما في حال  إنفصالها أو تضادها ،فسيجعلها كلها في موقع الشلل وعدم الفاعلية ، وبالتالي تخرج من كونها وسائل بناء  لتتحول إلى أدوات هدم ، قد يستغلها الجميع ، لكنها ستؤدي إلى دمار يطال الجميع كذلك ، فحين تتبعثر الثروات ويجزء الموقع وينقسم المجتمع ، يتضاءل الدور وتنهار القوة ويضيع العمق التاريخي فلا يستطيع الإجابة لا عن أسئلة الحاضر ولا عن احتمالات المستقبل ، فيما يفقد المجتمع فاعليته وينهمك الإقتصاد في البحث عن حلول لمشكلا ت تزداد صعوبة وإستعصاءاً.   

(1) – للمزيد راجع : ( صراع الأمة والدولة في العراق  ص 156- مقومات الوحدة وعوامل الإنقسام في العراق الحديث ) .
(2) للمزيد :  العراق والمصباح النووي – ص 279– الهويات الفرعية  في العراق ، جدلية التكامل والصراع )
(3) للمزيد : – عراق المجتمع والمجتمعيات – المصدر السابق  ص 159 .

أحدث المقالات

أحدث المقالات