“كيف سنخترق قروناً طويلة من تشوّه التاريخ ، كي نكشف الحقيقة ؟ ”
دان بروان ( شفرة دافنتشي)
في المتعارف عليه ، إن التاريخ هو من يقدّم الإجابات كونه ماضياً ( متأكداً ) مما يجيب لأنه شهد وكتب أو تناقل ، فيما المستقبل مازال يطرح أسئلة لن تتضح إجاباتها الا بعد أن تصبح تاريخاً بدورها ، لكن هل تلك القاعدة صحيحة تماماً؟ وماذا لو كان عكسها ممكناً ؟ أي أن يتكفل المستقبل بالإجابة على ما يطرح التاريخ من أسئلة ؟
لننطلق من نقطة وسطى في (حاضر) العراق ونستخرج بعض متداولاته لنختصرها في مقولتين :
1:( يعمل السنّة على إزاحة الشيعة عن الحكم بأي ثمن )
2:( الشيعة يهمّشون السنّة ويحاولون إبعادهم عن مركز القرار ).
هاتان المقولتان ليستا مجرد وجهتي نظر يمكن دحضهما ، أو أنهما يظهران بشكل عرضي في معرض الحديث عن العراق ، بل هما (غولان ) لايشبعان من التكرار ، مايجعل سؤال براون أعلاه ، بمثابة صيحة احتجاج وحيرة في الوقت عينه ، فالحجب الكثيفة التي ألقاها التشوه المتعمد لأحداث التاريخ ، مازالت تفعل في الحاضر ، وستضع أسس المستقبل إن لم يجر العمل على كشفها وتجاوزها .
تعلن المقولة الثانية عن حضورها بسيل من التصريحات والبرامج التلفزيونية ومئات المقالات الصحفية التي عادة مايكون مصدرها ( الخارج ) العربي على الأكثر ، وكأن بعض العرب يغيظهم إن يتماسك العراق أو أن يتجاوز محنته ، لذا على تلك المقولة أن تبقى جاهزة ومندفعة للحفر في المجتمع العراقي بغضّ النظر عما يمكن تحقيقه من خلالها .
أما الثانية ، فلاشك أن لها مريديها ومروجيها من بين السياسيين والمثقفين الشيعة ، وإن كان تداولها يتمّ على نطاق محدود في بعض الأوساط المذكورة ، فيما تنحسر عن الظهور العلني بنسبة ما.
المشكلة إن كلّا من معتنقي المقولتين ، يعدد الكثير من الأسباب والشواهد لتدعيم مايقول ، مختتماً بالجملة الشهيرة : هذا هو الواقع .
ولكي لايستمر ( الواقع ) المعلل الذي يشمل مزيجاً غير متجانس من المتخيل والمهوّل – المبالغ فيه – في إضفاء هالته على الواقع الفعلي ،ينبغي تفكيك تلك المفردة الى عناصرها الأولية لرؤية من ثم مقدار ماتمتلك من مصاديق .
يتأرجح الواقع بين متكئين : تاريخ مضى تاركاً آثاره ، وحاضر يتسمّر في مكانه مجترّاً مفردات الماضي – المؤرخ منه تدويناً والمتداول شفاهاً – .
لكن التاريخ علم يشتغل في حقول تركز إهتمامها بشكل رئيس في محاولة الإجابة على أسئلة ثلاثة :ماذا حدث ؟ كيف حدث؟ لماذا حدث (1)؟
فهو يخبر أولاً عن وقوع الحدث ثم عن كيفية وقوعه وماهية الوسائل والأساليب التي اتبعت أو استخدمت لجعله حدثاً .
الإجابة عن السؤالين الأولين هي من اختصاص علم التاريخ ، لكن المشكلة طالما كمنت في محاولة الإجابة عن السؤال الثالث والأهم ،( لماذا حدث ) ذلك مايمنح التدوين التاريخي قيمته وجدواه ، وإلا تحول إلى مجرد رواية تفقد الكثير من شغفها بل وقدسيتها كذلك ، رغم أن التاريخ محترم عند جميع الأمم والشعوب ، لكنه ليس مقدساً بالضرورة (إحترام التاريخ لا تقديسه) .
لكلّ حدث في التاريخ ، احتمال مواز لم يقع ، وفيما توفرت العوامل اللازمة لظهور الأول الذي وقع فعلاً ، غاب (الحدث) المواز رغم انه يمتلك كذلك العوامل الموضوعية التي قد لاتقل ّ بالمقدار عن الحدث الأصلي ، وعليه حينما نقرأ الحدث التاريخي بإمعان ، فإننا في الحقيقة نبحث ليس عن الحدث ذاته وحسب ، بل عن ذلك المواز الذي لم يحدث ، خاصة إذا كنا نعتقد بأنه الأفضل لو كان قد وقع بديلاً ،وهو مايفيد في حال ظهور بعض المؤشرات في حياة الشعوب التي تتشابه مع ماحدث في تاريخها ، كي تتمكن من تجنب ماحدث (في التاريخ) ومن ثم تنتصر لما لم قد يحدث في الحاضر ( الموازي) .
لكن ، لكي يتمكن علم التاريخ من الإجابة الموضوعية ( الفاصلة ) عن حيثيات وقوع الحدث وأسبابه – أي كشف الحجب عن التشوه – لابد له من علوم أخرى موازية ومتطورة : علم اجتماع – علوم سياسية – اقتصادية – بنية ثقافية متحضرة – علوم جغرافية – انثربولوجيا – على أن يصحب تلك العلوم مناهج معرفية (أبستمولوجية) فاعلة ، كي يؤطر الحدث التاريخي بإطاره الواقعي ويزحزح من ثم الكثير مما رافقه من مخيال جمعي او إسقاطات أسطورية أو مؤسطرة أو غايات نفعية ، أو ماشابه من عوامل تجعل الحدث واقعاً خارج الواقع الموضوعي واقرب إلى المؤَلف والمؤّل .
ولما كان (المنهج) المتبّع في تدوين التاريخ وإيراده ،هو ذاته المستخدم في تحديد الواقع ورؤية أبعاده المختلفة ، ما يوقع في الإشكاليات ذاتها ،لذا فالحديث عن الحاضر يشمل كذلك أبعاداً ثلاثة : الواقع والمتوقع والمتمنى ، ولكلّ من هذه الأبعاد وسائله في البحث والتعريف ومن ثم استخراج الخلاصات المتعلقة به أو التابعة له .
مايميز الواقع هو دخوله في مفهوم الزمان وشغله حيزاً في المكان ، مايجعله في متناول الحواس من جهة ، والحسّ من جهة أخرى ، وبالتالي فالواقع صنو الحاضر ومتجلّ فيه وبواسطته.
أما المتوقع ، فهو الموضوع إستناداً الى الواقع وانطلاقاً منه،أي ذلك (الحدث) الذي يمكن أن يمتلك الوسائل الكفيلة بتحققه ليصبح واقعاً في المكان ، لكنه مؤجل في الزمان ، وبالتالي حاضر في الإحساس وفاعل في الفكر ، وإن مايزال غائباً عن الحواس .
وإذا كانت التكتيكات هي التي تتكفل بالتعامل مع الواقع ووضع الأسس اللازمة للتأثير به وفيه ، فإن الإستراتيجيات هي التي تتعاطي مع رسم المتوقع وتحديد الحيثيات التي قد تؤشر إلى جعله واقعاً في المستقبل ، لكن المتوقع قد لايكون مثالياً بالضرورة ، لذا لاتقتصر مهمة الإستراتيجيات في محاولات الكشف عن المتوقع وحسب ، بل وضع الخطط اللازمة لمواجهته أو تسييره أو جعله ممكناً أو الاستفادة منه وتوظيفه .
لذا فحين يستهلك الواقع جهد السياسة رغم الإعلان عن ظهوره وبالتالي السهولة النسبية في التعاطي معه ، فإن الحدث الذي يفترض إنه ضمن المتوقع ، يفاجئها حال ظهوره ، ومن ثم يربكها لأنه لم يدخل في حساباتها الموضوعية التي ينبغي أن تتوقعه .
في العراق الراهن ، يعمل بعدان وحسب: الواقع الإفتراضي والمتمنى المتخيل ، أما عن المتوقع ، فهو إما شبه غائب لغياب العقل الاستراتيجي المستكشف ،أو مغيب لحساب الماضي (المفترس) .
وفي العودة إلى المقولتين أعلاه ،نجد ان الأولى قد ارتكبت مجموعة من المفارقات ، فهي تفترض سلفاً ان (السنّة ) كمكون ، إنما يجتمعون في عقل واحد يحمل بعداً واحداً ويعمل على تحقيق هدف واحد : (إزاحة الشيعة عن الحكم ) وبالتالي لايتم التفريق بين مايحمل بعض بصمات الواقع بجزئيته ، وبين الواقع الكلي .
فلنفترض جدلاً إن ذلك الهدف يقع في إطار المتمنى عند الغالبية من السنّة ، لكن المؤكد كما يشير الواقع ذاته ، إن السبيل الى تحقيقه يسوده الكثير من الإختلاف ،مايجعل تصنيفه واختصاره في تلك المقولة ، اقرب إلى إعادة صياغة (مؤسطرة ) يختلط فيها المتخيل مع الواقعي وبالتالي يدخل ضمن (تفكير ) خاصّ وليس واقعاً خالصاً ، في الوقت الذي يجعل من المتوقع هلامياً غامضاً لعدم امتلاكه مقومات الموضوع ، حيث يشير الواقع إلى استحالة تحقيق هدف من هذا النوع بعد أن قطع العراق مراحل مهمة في بناء الديمقراطية ،الإ ب( خيار شمشمون ) أي إعلان الإنفصال السنّي ، مايعني فشلاً لهدف الإزاحة الذي تحمله المقولة المذكورة ، والتضحية بالعراق كبلد ودولة ، ذلك لأن (أي ثمن ) الذي يكمل المقولة ويختمها ، ينفتح على كلّ الإحتمالات بما فيها الكارثية منها، وهو ما يتنافي مع رؤية معقولة للواقع ، ناهيك بقراءة موضوعية للمتوقع .
لكن ماينفع في تجاوز مقولة من هذا النوع ، أنهاتكتفي بوصف ( الخطر) من دون التورط بطرح مقابل يحمل في طياته بذور العنف كما في الحديث عن ( الإزاحة ) ، كما يمكن القول بأن تلك المقولة ليست واقعاً وإن حملت ملامح واقعية .
وعلى رغم أن المقولتين تبدوان في الظاهر متضادتين ” والضدّ يثبت وجوده في التنافس بينه وبين أضداده ” على مايذهب علي حرب ، إلا إنهما متكاملتان في (الواقع ) ، حيث تبرر كلّ منهما حضور الأخرى بل وتسوغ لها ذلك الحضور ، لتدخلا من ثم في جدلية متشابكة : حديث التهميش والإقصاء عند السنّة ، يستحضر بدوره حديث الإزاحة عند الشيعة ، ولكي لاتتم تلك ( الإزاحة ) ، ينبغي تمّسك الشيعة بمفاصل القرار ، كي لاتكون المشاركة مدخلاً للإزاحة ، وهكذا يتم تبادل كرتي النار الخارجتين من الماضي المنتهي ، لتدخلا في الراهن المبتدىء ،ما يؤدي بمحصلته إلى احتراق المتوقع الإيجابي بعد قذفه بهاتين الكرتين .
الخلاصات غير المنتهية :
1: ماهو واقع في العراق اليوم – بما فيه ما تلخّصه المقولتان – يمتلك مقومات الموضوع ، أي انه كان ضمن المتوقع منذ البداية ،وبالتالي ينتفي عنه المفاجئ ، كما يمكن عقلنة المهولّ به ووضعه من ثم في سياقاته الطبيعية .
2: لا يستمر الواقع على حاله ، لكن المتوقع يدخل في مجموعة من المحتملات : المتمنى (مشاركة فاعلة وعراق واحد ) المتخوف منه ( عراق مجزّء واحتراب داخلي )
الواقعي ( فيدرالية نشطة وحكومة فاعلة ومتفاعلة ) .
3: العراق بلد يغصّ بالمفارقات ، لكنه لايحمل الكثير من المفاجآت ، والفارق بينهما إن المفارقة تدخل في حقل المستغرب لكن المتوقع في الوقت ذاته ، أي مايملك مقومات حصوله وإن خارج المتمنى أو المرغوب به ،فيما المفاجأة موضوع لايدخل في المتوقع وإن كان سارّاً ، إنها – المفاجأة- تحدث حينما نربط موضوعات الواقع بتوليفات الوهم وماينتجه من إعادة تشكيل للوقائع لاتنطبق بالضرورة على الحيثيات الفاعلة في الواقع ذاته وبما تنتجه خارج رغباتنا أو تصوراتنا عنه .
وعلى ذلك تعتمد السياسة البارعة في حساباتها ، على المتوقع بدرجة أساس لكنها تتحسب لوقوع المفارقة وبالتالي تتضاءل فرص المفاجآت بالظهور ، لأنها كذلك تؤطر ضمن المتوقع في حال برع السياسي وتطور الفكري .
4: يمتلك العراق فرصاً حقيقية لنهوض لاحق ، وذلك لتوفر مجموعة من العوامل المساهمة في الدفع نحو متوقع ايجابي (2) :– ثروات طبيعية – موقع حيوي – مجتمع متنوع (3) – عمق تاريخي – قوة كامنة – إقتصاد واعد – تلك العوامل كفيلة بجعل العراق واحداً من البلدان المرموقة ، شرط أن تتفاعل وتتكامل مع بعضها ، أما في حال إنفصالها أو تضادها ،فسيجعلها كلها في موقع الشلل وعدم الفاعلية ، وبالتالي تخرج من كونها وسائل بناء لتتحول إلى أدوات هدم ، قد يستغلها الجميع ، لكنها ستؤدي إلى دمار يطال الجميع كذلك ، فحين تتبعثر الثروات ويجزء الموقع وينقسم المجتمع ، يتضاءل الدور وتنهار القوة ويضيع العمق التاريخي فلا يستطيع الإجابة لا عن أسئلة الحاضر ولا عن احتمالات المستقبل ، فيما يفقد المجتمع فاعليته وينهمك الإقتصاد في البحث عن حلول لمشكلا ت تزداد صعوبة وإستعصاءاً.
(1) – للمزيد راجع : ( صراع الأمة والدولة في العراق ص 156- مقومات الوحدة وعوامل الإنقسام في العراق الحديث ) .
(2) للمزيد : العراق والمصباح النووي – ص 279– الهويات الفرعية في العراق ، جدلية التكامل والصراع )
(3) للمزيد : – عراق المجتمع والمجتمعيات – المصدر السابق ص 159 .