هل يسن القانون لأجل ما هو كائن أم لأجل ما ينبغي ان يكون ؟ وهل يستهدف العقليات فيسعى الى تغييرها بما يتفق والواقع الذي ينشده أم يهدف تشذيب العادات وتقويم العرف لكي يتسنى الاتفاق معه ؟ ولما كان القانون ردة فعل لظواهر اجتماعية ارتبطت بالسلوك الإنساني منذ الأزل فانه قد سعى لتأطير هذا السلوك المتكأ على مرجعيات غير محددة المعالم والأدوات . فكانت الغاية من سن قانون ما هو أما للكشف عن مضامين الجوانب الملزمة للعرف أو إنشاء قواعد قانونية ملزمة جديدة تدخل الميدان القضائي .والمجتمع بما يعنيه من تشكلات معرفية وبناءات حسية تجعل منه مجتمعا مدنيا قادر على استيعاب المفاهيم الفكرية الحديثة و التكنولوجيا التي تؤمن إدامة هذا الاستيعاب قد يتخلى عن مسلماته التي تعيق استمراره ، بدون ان يفقده ذلك هويته وهذا ما يستدعي بالضرورة سن قوانين معافاة من الأمراض التي تصيب القاعدة القانونية . و الأمراض هنا تعني الجمود والقصور الذي قد يتحول بمرور الوقت من عارض للتغيير إلى مانع له ويصبح ادعاء شرّاح القانون ومنظريه بأن كل مادة أو فقرة أو حتى حرف يذكر في المتن لا يأتي من فراغ ولا يمكن اعتباره من قبيل اللغو يصبح فارغا ومتغاضيا عن الواقع الذي يكشفه النص القانوني . نأخذ مثال على كلامنا المادة 31 من قانون المرافعات العراقي رقم 83 لسنة 1969 التي تنص (تختص محكمة البداءة بدرجة أخيرة قابلة للتمييز بالنظر في الدعاوى التي لا تزيد قيمتها على خمسمائة دينار ..) فمبلغ الخمسمائة دينار الذي جاءت به المادة القانونية لم يتم تعديله منذ السنة التي سن بها هذا القانون حتى يومنا هذا وبالتالي فان هذا المادة اعتبرت من قبيل اللغو كون ان المبلغ الذي ذكرته لم يعد له قيمة يعتد بها في الوقت الحاضر مما يعني قانونا ان مسألة نظر محكمة البداءة بدعوى دين بدرجة أخيرة غير وارد مطلقا لتكون المادة 32 من نفس القانون هي الفاعلة والتي تنص( تختص محكمة البداءة بنظر كافة الدعاوى التي تزيد قيمتها على خمسمائة دينار و…. ويكون حكمها بدرجة أولى قابلا للاستئناف ..) .
وهنا يتحول القانون الى عبئ على المجتمع من خلال قصوره وعجزه عن مجاراة المتغيرات الاجتماعية والقضائية . والقانون كونه وليد المجتمع فهو إذا غير معني بالحقيقة . ذلك ان في القضايا الاجتماعية لا يتم الحديث عن الصواب والخطأ ، وإنما هناك عمل آخر ينبغي ان يطرح : متى تطرح القضية ؟ وأين ولماذا ؟(1) فالأمر نفسه مع القانون : لأي مجتمع يسن ؟ وما مدة نفاذه ؟ وما أدوات تعديله ؟ فإذا تم تجاهل هذه الحقيقة فان القانون سيتحول الى فيروس ينخر جسد القضاء والمجتمع على السواء . ولما اقترن القانون بوجود المشكلة أو الحاجة (2)فهذا يعني ان كل فقرة او مادة تضمنها قانون او دستور ينبغي ان تكون هادفة او معبرة عن تطلعات المجتمع وتساهم في بلورة الرؤى المشتركة في سبيل تحقيق الغايات المرجوة من سنه والاهم من ذلك كله هو مدى فاعلية النص القانوني لحل المشكلة او تلبيته للحاجة . الجانب المهم في مسألة نجاح النص القانوني في تأدية الدور المطلوب من سنه هو ان يكون واضحا لا لبس فيه ولا غموض فالمشكلة او التعقيد قد يثار لدرجة الأزمة . فأي احتمال للتأويل بالنص القانوني يجعل منه مشكلة خصوصا عندما يعاني القائمون على السياسة من جهل بالقانون ناهيك عن غياب الثقافة القانونية عن الرأي العام. هناك قانون يسن عندما تطرأ ظروف معينة تتسبب بحدوث مشاكل اجتماعية أو عند حدوث تغييرات سياسية أو اجتماعية في بلد ما الهدف من سنه معالجة تلك الظروف او التعامل مع الوضع الجديد فهو يعني جزء من مقتضيات المرحلة . ولكن التساؤل الذي يثار مجددا عن مدى مساهمته بحل المشكلة او تلبية متطلبات المرحلة وهل ان تجاهل ما ذكرناه سابقا يجعل من القانون المسن مشكلة بذاتها ؟ عليه سيكون تساؤلنا كالآتي : هل ان العشوائية وعدم الدقة في سن القوانين يجعل منها جزء من المشكلة وليس جزء من الحل ؟ يشير الواقع السياسي والقانوني في العراق الى ان إهمال الجانب المهني واعتماد الآليات الخاطئة في التعامل مع الجانب التشريعي بالذات أدى الى حدوث العديد من الأزمات السياسية والإشكاليات التي جعلت من المجتمع العراقي ميدانا للصراعات . فمثلا تشير المادة 75 من الدستور (يكلف رئيس الجمهورية ، مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددا بتشكيل مجلس الوزراء ..) . هذه المادة بدلا من ان تؤدي دورها في تنظيم عملية اختيار رئيس السلطة التنفيذية (كون ان نظام الحكم البرلماني الذي اخذ به الدستور يقتضي الأخذ بهذه الآلية ) تسببت بحدوث أزمة سياسية عميقة لا زالت تعصف بالمشهد السياسي العراقي . فمصطلح ( الكتلة النيابية الأكبر ) الذي جاءت في المادة الدستورية لم تبين معنى الكتلة النيابية الأكبر ، هل الكتلة الفائزة في الانتخابات أم الكتلة التي تتكون داخل البرلمان ؟ وبالرغم من تفسير المحكمة الاتحادية العليا للنص الدستوري إلا ان الأزمة بقيت مستمرة وذلك يعود كما قلنا الى جهل السياسيين بالقانون من خلال انعدام الثقة بالقضاء وعدم احترام قراراته على الرغم من ان المحكمة التي فسرت النص الدستوري(وتفسير القوانين يعتبر من الاختصاصات المهمة للقضاء) قد تشكلت بموجب الدستور الذي تم التصويت عليه من قبل الشعب لا بل تعدى الأمر الى مجاهرة احد السياسيين بأن المحكمة ملكه! كونه هو من أمر بتشكيلها ! يذكر التاريخ ان سقراط عندما حكم عليه بتجرع السم لم يبد أي اعتراضا ولم يحاول ان يعرقل تنفيذ الحكم على الرغم من اقتناعه بعدم صوابه وعدم نزاهة من إصراره ، فقد رفض محاولات تلامذته تهريبه من السجن ولم تنفع محاولات البعض من إقناعه بالتوسط لإطلاق سراحه ، كل ذلك من اجل ان يرسخ في الأذهان فكرة مفادها ان على المرء احترام قرارات القضاء حتى لو كانت جائرة . لكن هذا لا يعني ان نسكت على الهفوات التي ترافق عمل القضاء سواء كانت من عنده أم بسبب القانون الذي ينظم عمله . فالندوات التثقيفية وإنشاء مراكز للبحوث القانونية ودعم المنظمات التي تدعم نشر الثقافة القانونية كلها عوامل تساعد على اطلاع المجتمع بصورة اكبر على القوانين وبالتالي سيساهم من خلال وسائل الضغط بتعديل وسن قوانين تتلائم ومتطلبات ديمومته . والاهم من ذلك كله ان يتسلح رجل القانون بالثقافة القانونية التي تمكنه من خلق ملكه نقدية تتيح له ممارسة النقد الذاتي للمؤسسة القضائية والقانون . يقول أفلاطون في محاورة القوانين ( ان أولئك الذين سيكونون الحراس الحقيقيين للقانون ، سيحتاجون الى معرفة حقه بها جميعا ، ويجب ان يكونوا قادرين على شرح هذه المعرفة في كلامهم وان يلزموها في تطبيقهم ، كما يميزوا بين الحدود الذاتية الحقة ، وبين الخير والشر ) (3) والتسلح بالثقافة القانونية من قبل رجال القانون ينبغي ان يرافقه جانب أهم وهو تطبيق مفردات تلك الثقافة على الواقع وجعله بما يحمله من تناقضات وإرهاصات يحاكي الخطاب القانوني ويؤسس لنفسه عرفا بإمكانه ان يتحول يوما الى قانون مكتوب يمزج بين المتراكم المعرفي للأفراد وبين الضرورة القانونية .
ولغرض وضع آلية تضمن تنظيم عمل القضاء تم تقسيم القواعد القانونية الى جانبين هما : جانب شكلي يبين ماهية المؤسسة القضائية ويبين تشكيلاتها ويحدد اختصاصاتها وهذه تسمى قوانين الإجراء كقانون المرافعات المدنية وأصول المحاكمات الجزائية أما الجانب الموضوعي المتمثل بالقوانين التي تبين المباحات والمحظورات . وما يهمنا هنا معرفة الأبعاد القانونية والواقعية لمسألة طغيان الجانب الشكلي على الموضوعي بدعوى التقيد بما ورد بالنص القانوني . الإجراءات الشكلية التي نص عليه القانون أدت الى قتل الرغبة لدى الأفراد باللجوء الى القانون ، فالروتين القاتل والمماطلة والتأخير في حسم الدعاوى لدرجة ان بعض الدعاوى المدنية تبقى عدة أشهر دون حسم . هذا ما دعا الكتّاب والباحثين في المجال القانوني الى الدعوة الى اعتماد روح القانون و الابتعاد عن السطحية في النظر الى النص القانوني فتصبح عبارة ( العدالة في إطار القانون )(4) لا وجود لها في ظل الأخذ بروح القانون الذي يعني سبر أغوار النص لاستشفاف أبعاده التي تتلاءم والقضية التي تدخل في حيزه . ان احترام القانون واجب على الجميع كما قلنا كونه الخطوة الأولى والمهمة لبناء أي مجتمع لكن مسألة غض النظر عن القوانين الظالمة بدعوى ان القانون يفضل القواعد الظالمة على الجهل بالقواعد التي تنظم سلوكه مسألة لا يمكن قبولها أو الركون إليها في ظل تنامي الوعي القانوني وانتشار الأفكار التنويرية والتحررية التي تدعو الى نبذ كل ما يتعارض مع البناء السليم للمجتمع .
المراجع :
1 – مسؤولية المثقف ، الشهيد الدكتور علي شريعتي ،ص 75،دار الفكر الجديد
2 – دراسات في القانون ، القاضي سالم روضان الموسوي ، ص1 ،مؤسسة البينة للثقافة والإعلام
3 – دراسات فلسفية ، حنان علي ، ص49،دار الشؤون الثقافية العامة
4 – العدالة في تراث الرافدين وفي الفكرين اليوناني والعربي الإسلامي ، د.صلاح الدين الناهي ، ص30،الدار العربية للموسوعات .
[email protected]