(إن السببَ في إضطراب العالم اليوم، هو أن الأحمق واثق أكثر مما ينبغي، والعاقل يكتنفه الشك) – برتراند رسل-
ماذا يعني إنتهاء عام وبداية آخر جديد؟؟
ماذا يعني عبور الكائن البشري لحاجز الزمن ؟
ماذا تعني متاهة السؤال في تخوم الإجابات المفتوحة؟
هل الزمن يقين أم شك قائم ؟؟
أسئلة شتى في متاهة الوجود البشري سوف تقودنا الى أول الطريق لمعاينة أزمة الكائن القلق أزاء وجوده النفسي والتاريخي والزماني .
نحن على أعتاب زمن يمضي بكل تجاعيده على أجسادنا .. زمن يمرّ على أرواحنا فهل من يقظة لفهم الدرس واستيعابه؟
السنة بحدودها الزمنية تساوي 360 يوما فقط وان زادت أياما فهي كبيسة!!
وستظل عاما قائما في التقويم فقط..
هل نحن أشباح في لجة الوهم ، أم نحن ارقام تمضي دورتها في أجندات صاحب الزمن والكرسي والنافذة والباب ..؟؟
السنة ليست تجريدا زمنيا بل هي حكايات إنسانية عميقة ..
اليوم لا يسقط من فم السنة سهوا أو بقوة سلطان..
السنة ليست بقرة حلوب لأفواه مخصوصة ، انها زمانية كبرى” ماضي وحاضر ومستقبل ” على حد تعبير الفرنسي بول ريكور في متوالية السرد والزمان …
كما أن السنة ليست وقفا مخصوصا لضلع واحد وقفص واحد.
هل تمر السنة بأضلاعها وأبعادها الثلاث فقط؟
الزمن ذاكرة متوقدة مع الفيلسوف الحالم ” غاستون باشلار” وهو يصغي الى لهب شمعة .. وهو زمن مائع مع ” سلفادور دالي” حين يضع على يد النادل ساعة ويلعن التقاويم .
كيف نفهم عبور زمن الى ضفة أخرى من فضاء الزمانية .. هل هو طفرة تقويم وتجميد للحظة أم هو زمن يتفعّل .. زمن نصنعه نحن .. بأفراحنا وخسائرنا .. هفواتنا وغفلتنا ؟؟
الزمن ليس َسنة تنتهي ونحتفل بأشعال آثامنا على رأسها الممجد .. ولا هي محرقة بخور نرفعها لكاهن أو دجال .
السنة أيام والأيام دول وآهات ..
………..
النسيان بلسما
عندما نبحث عن عذر لمن نحب في تجاوز محنة الخطأ والخطيئة ، فأننا نمارس لعبة النسيان بوحشية حينما لم نتخلص بعد من الدبق الماثل على أرواحنا قبل أجسادنا ..
والأكثر كارثية هو أن الزمن ونحن في حيطة من أمرنا .. لا نستطيع نسيان الماضي و نهمّ ركوب حافلة الحاضر للوصول الى مرافىء المستقبل !
ثلاثة أزمان لا يمكن إختصارها في حفلة تطهير جمعية .. لكل زمن حظوة ، ولكل كائن خطوة ،
القتلة وحدهم يمتلكون زنار إحراق الكائنات وزمانيتها في ليلة ..
لإننا لم نتخلص بعد من مفهوم الماضي بوصفه صفحة طويت ، وزهرة أَفل أريجها وذاكرة تعرف معنى النسيان .
…………..
العطر السرمدي
هل يمكن أن نطوي الزمن كحماقة مضت !
هل نمتلك الشجاعة في مواجهة الماضي أزاء الحاضر وصولا الى شعاع إنساني للتواصل مع الآخرين والزمن ؟
“البحث عن الزمن الضائع” رائعة الكاتب الفرنسي مارسيل بروست كانت من العمقِ والإدهاش ماجعلها سيرةَ الزمن والشعور، حالة من حالات التأمل والإستبطان و تجسيداً للأنا والعالم الخارجي..
يقول بروست:” ليس العالم ذاك الذي ينتظمُ ويتناسقُ حولنا بل هو في دواخلنا ـ إنه نحن ـ
فنحن الذين نعطي أنفسنا ذاك الحجم والبعد حين نهتم بما يثيرنا من حبٍّ وغيرةٍ وغضبٍ ووو… ونحن الذين نُلغي ذواتنا حين نتعامل باللامبالاة مع الحدث….
إن الحدث وما يولِّده فينا من مشاعر لابدَّ وأن يخلقَ لدينا مفاهيمَ معينة تهيمن على حياتنا الخاصة”
فالذاكرة ستعملُ من جديد على بعث هذه الجنة التي نفتقد في الزمن الحاضر
العطر السرمدي هو صوت الإنسان الذي يتدحرج على ثلاثية الزمان ” ماضي ، حاضر، مستقبل” لكي يكون الإنسان مكتمل القوام ليتعطر.
……….
الغفران والتسامح
في مراسيم توديع السنة .. هل هي سنة تمضي أم قيامة فردية أم موت ؟؟ .. كيف لنا أن نحتفظ بهذا البهاء ..
كيف لنا أن نجعل النسيان طاقة للخلق . والتذّكر محركا للبوح ؟
َتدربت الذاكرة” العراقية”! على وطأة الإحتفاظ بالممكن الحاضر فقط . لذا صار التفريق بين الغفران والتسامح ضبابيا جدا .
الغفران يتصل بصفات الله أو الذين َيتصِفون به، والتسامح يتصل بمفهوم الزمن بوصفه مؤجرا ومبيوعا للكائن البشري بكل نزواته ..
الغفران إشراك الآخر في زمن الحب ونسيان ماضي ما ، إنه نوع من السمو الأنساني نحو صنوه الأخر ، والتسامح مصيدة إنسانية لنمو التراتبية في وجود طرفين لمعادلة غير موزونة .. المتسامح” بكسر الميم” القوي مع الأخر الضعيف .. وهذا المفهوم لا يلغي الماضي بوصفة لحظة انتهت ومضت بل يربطه تماما في عنق المٌتَسامح له، كوصية ويكتب على جسده وشما .. أنا الأقوى .
لا يمكن عبور الضفة زمنيا إلا بوجود قوة المحبة .. تلك التي تنسينا بلهفة ما عملناه مع إنفسنا والاخرين معا ..النسيان الجميل الفعّال ..
…………………..
نهر الزمن
مرور سنة يعني أن نهر الحياة لن تعبره مرتين على ذمة ” هيراقلطيس” … أو لا تستحم به أبدا في رواية أخرى.
الزمن باشط كحد شفرة، فهل من المنطقي أن يمرّ ونحن ننام في مقامة الماضي عقلا وقواما !!؟
الكائن البشري يحتفظ بخصوصية الذاكرة الفعّالة عن الحيوان . فذاكرة الحيوان تراكمية نمطية يستخدمها في اغراض حياتية محدودة، أما الإنسان فالذاكرة لديه هي وعاء الفكر والمعرفة والإبداع .. إذ ُيقسّم “برتراند رسل” في كتابة “تحليل العقل” الذاكرة إلى قسمين :
ذاكرة العادة: وهي التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان .Habit – memory
ذاكرة المعرفة: وهي التي تميز الأنسان بوصفه كائنا مبدعا. Knowledge – memory
الذاكرة جهاز ذو حدين .. والغاء الإبداع ونسيانه يعني الوقوع في خانة الحيوان ونمطيته وبالتالي تكون الذاكرة والزمن بشقيه الماضي والحاضر على صفيح ساخن عندما نستدعي منه سواد أيامنا ووجع قوامنا والناس في لحظات الضعف فقط!
بهذا سنحوّل الحاضر الى حضيرة حيوانية والمستقبل محكمة غير عادلة .
أما عبور الزمن بذاكرة معرفية إنسانية.. يعني السمو والإرتقاء بالنفس الإنسانية وذاكرتها الى مصاف الجمال والحق والخير الأبدي .
قمة ما يبتدعه الكائن البشري وهو يَعبر بين ضفتي الزمن أن يحتفظ بإنتصابه الإنساني ورفعة عقله وصفاء مشاعره تجاه نفسه والأخرين في سفينة الحياة .
………………….
النهاية السعيدة
أهم ما يتصف به الإنسان هو قلقه أزاء وجوده .. أسئلته أزاء ماضيه وحاضره ومستقبله .
عندما تمرّ السنّة يعني أنك عبرت من لحظة المعرفة الى لحظة كشف ..
لحظة الكشف تعني أن الإنسان قادر على التجلي والخلق والإبداع ، نسيان محبة مع تذكّر فعّال .
تلك هي معادلة الكائن البشري في علاقته مع ذاته أولا كي لا يبقى عبدا للذاكرة ، وفي علاقته مع الآخر ليخلقا معا قاربا لعبور ضفتي الزمن .
المحبة أكسير أزلي لولادة الإنسان الخالي من عاهات الذاكرة الإنتقائية ..
كلنّا نعبر بحر الزمن .. ولكلّ منّا قارب ..
لكننا في بحر واحد .
لماذا نستخدم المجاذيف للغرق بدلا من مداعبة الموج وصولا الى السواحل الآمنة!!
لماذا يخرج اللسان من حقلهِ ويرفرف كرايةٍ للفتنة ؟
لماذا لم نُعدُّ للإختلاف بضاعتنا العقلية في الجدل والحوار .. ولا ننساق الى موتور القول والعاطفة والوشاية لنشر غسيلنا على الملأ؟؟
النهاية السعيدة ليست يوتوبيا مَحلومة فقط ، بل هي حلم قابل للتحقق ..
النهاية السعيدة لعام مضى تعني أن الإنسان تدرّج في سلّم الإنسانية ، وصار ناضجا لإستقبال عام جديد وهو يحمل قلبا خالٍ من الصدأ وقواما أبيض ..
عام جديد مع عقل متنور فيه مساحة للأخر .. ليس على طريقة ” عدو عدوي صديقي ” وعلى منهج ” الأخرون هم الجحيم”
النهاية السعيدة لعبور ضفة الزمن.. هي أن تكون في قاربكَ وتقرأ بإمعان صحيفة الحب المتعالي ..
أن تكون في قاربكَ وانت تتمثل ما قاله ” فولتير: قد أختلف معك َ في الرأي ولكني مستعد للموت من أجلك”.
أنت تكون في البحر وتروض مجاذيفك لرسالة السلام . لرسالة الطمأنينة ، لرسالة الحب اللامشروط .
ما أحوجنا، ونحن نعبر ضَفّةَ السنة ، الى عقد مشاركة لُنبحر في سفينة واحدة ..
لم يَهلك ركاب ” تايتنك” لرعونة قائدها ولا لغضب الطبيعة .. لقد مات معظم الناس فيها لقلّة قوارب النجاة ..!!!
سنّة أخرى من عسل الكلام مع الرائب من الحلم لنصوغ أبجدية الأنسان الجديد ..
وكلّ عام ونحن نحلّق معا ، لا بضاعة لنا إلا الحب .. الحب .. الحب.
هو أكسير المعجزات .
……………………….
[email protected]