أول تعبير دقيق عن الوضع العراقي أن هناك (أزمة خاصة) في الفيدرالية و(أزمة عامة) في نظام الحكم الاتحادي. لا توجد (إدارة حيوية) لمعالجة الأزمة الخاصة بكردستان ولا الأزمة العامة في الحكومة المركزية الاتحادية.
أتمنى أن أكون خاطئا في نظرتي عن الواقع السياسي المريض ، وعن ضعف كل ما يحيط بهذا الواقع من ظواهر.
لن أتحدث عن الطريقة الغريبة العجيبة ،التي تم فيها صناعة أزمات الحكم في العراق، بعد سقوط دكتاتورية صدام حسين و بداية ممارسات (جي جارنر) ، من ثم الحاكم المدني (بول بريمر) ومستشار الأمم المتحدة (الاخضر الابراهيمي) لمدة عام كامل حيث برهن هذا الثلاثي أن الحقيقة السياسية في العراق كانت غائبة عن عيونهم وعن خططهم الإدارية .
أدّت خطط وفعاليات الثلاثي ،غير المتلائم مع مستوى ثقافة ومؤهلات ومشاعر وتطلعات الشعب العراقي، إلى تأسيس (قالب جامد) من نظام إداري متخلف وظهور قاعدة اللاتفاهم في السياسة العراقية الجديدة، من دون الانتباه والحذر مما قد ينتج من معوجات اثناء التطبيقات السياسية او الإدارية الخاطئة، الناتجة عن التمسك بـ(القالب الجامد ) بما يحمله الوجود السياسي المبني على المحاصصة في كثير من الأحيان من ثقلٍ وبلادةٍ أفرغت الحياة السياسية من طبيعتها (المتغيرة) دائماً. بينما المعروف عن السياسة أنها(علم) من علوم إدارة الدولة وأزماتها ، والسياسة (فن) من الفنون التعددية لتقييم الأوضاع المتغيرة أو الصعبة.
الشيء الرئيسي المعلن أن قادة العراق الجديد لم يتمسكوا بفكرة العلم والفن السياسيين، اللذين يحوّلان قيادة الدولة إلى نظام إداري متجدد يسوده (التفاهم) من جهة ، و(النقد المعارض) من جهة أخرى، لكن من أجل التقارب الإنساني عموماً.
صار القيادي السياسي، الحزبي وغير الحزبي، الحاكم وغير الحاكم، مردداً لأفكار مملة ناتجة عن عقد سياسية، تنتهي بمأساةٍ منتقلةٍ من (المستوى الشخصي) إلى (المستوى العام).
الافكار المتصارعة في (الاقليم) و(المركز) وبينهما، ليست هي في الحقيقة ناتجة عن ممارسة السياسة كـ(علم) أو كـ(فن)، بل ناتجة عن صراع بين ذواتٍ جامدة، بين نماذج صارخة، لا تفهم غير أن الإتحاد الفيدرالي بمحافظاته وأقاليمه واقعاً دستورياً يقدم (الامتيازات) و(الحصانات) لقادته وليس لمواطنيه .
كثيراً ما يقال أن واضعي الدستور العراقي عام 2005 أرادوا إنشاء دولة تقدم للمواطنين اقصى حرية توفرها حكومة مركزية ، وحكومات محلية. يقال ،أيضاً، أن واضعي الدستور وجدوا في نظام (الفيدرالية) حماية خاصة لحقوق المواطنين، جميعاً، لكنّ ما حصل، منذ اقرار الدستور حتى الآن، هو انتهاك صريح، فظيع، لحقوق المواطنين في (مركز الدولة) وفي (المحافظات) وفي (اقليم كردستان) ،أيضاً، حتى تخرّب كل شيء في العراق. توقّف الدستور عن (الفعل الجوهري). تعاظمت الانتهاكات الاجرامية والخروقات المدنية. صار المواطن الضعيف مسئولا عن حماية نفسه وأمنه وأمن عائلته أمام جرائم العصابات والميليشيا ثم غدا سكان بلادنا في كل مكان مرتعبين من خطر تنظيم داعش بعد العاشر من حزيران 2014.
يعتقد القادة السياسيون في بلادنا أن الحل للواقع العراقي المريض يتم باستخدام (القوة) و(السيطرة ) . هذا التفكير كشف فكراً ومشروعاً خاطئين وسيئين، لا يؤديان لغير اشعال نيران حروب جديدة بين ابناء الشعب الواحد في مدن متعددة ، لا يخدم حريقها غير المنظمات المتطرفة نفسها .
إن الحل الأساسي ليس في تأجيج الصراع في اقليم كردستان، او في الدعوات المجردة لإيجاد التوازن في المحاورات الضرورية ، انما يتوفر في توجه ا(لحكومات المحلية) و(المركزية) و(حكومة الاقليم) إلى إعادة قراءة النظام الفيدرالي قراءة منطقية ومسهبة، بعد قراءة علمية محيطة بأدق تفاصيل الانظمة الفيدرالية وتطبيقاتها ،المركزية واللامركزية، وتعديل الدستور، وفقا لتجارب الأمم وفي مقدمتها ، الألمانية و الامريكية ، وغيرهما.
المفترض في الفيدرالية انها تحدّ من تعدّي الحكومة المركزية على مواطنيها ،لكن ليس مقبولاً بأي حالٍ من الأحوال القبول بتعدّي الحكومات المحلية عليهم . العلّة الأساسية تكمن في الدستور، الذي لم ينص على صلاحيات الحكومات المحلية ،ولم يجري تثبيت صلاحيات السلطات المتعددة، المركزية واللامركزية، مما جعل وجود الخوف مستحكماً من (مركزية) السلطة المحلية .
ما زالت أسباب هزّة الشوارع في حلبجة والسليمانية وأربيل غامضة في كثير من نواحيها ، لكن تجارب الزمان تشير إلى حقيقة أن (نظام الفيدرالية) لم يتخلص بعد من القلق ،والحواجز، والتكتلات الحزبية ،والصراعات مع السلطة المركزية، مما يستدعي من الهيئتين التشريعيتين ،في أربيل وبغداد ، أن تتخذا جميع الاجراءات القانونية ، بموقف عاجل، جماعي ،مشترك ، ضد الفقر والعوز والانسحاق الذاتي والإنساني لضمان الحريات المحفوظة لتعزيز كل حقوق المواطنين العراقيين أولاً وأخيراً .
من دون اكتشاف عناصر التكوين الفيدرالي – الديمقراطي في التجربة العراقية تظل بلادنا غير قادرة على معالجة ازمات النهوض والتقدم .