تكشف مجموعة من الظواهر المحلية عن إصابتنا بوضوح بأزمة عميقة في الثقافة بوصفها “الطريقة الشاملة للحياة” بتعريف رايموند وليامز. وقد تركز الانتباه الإعلامي في الآونة الأخيرة على جملة من المسائل، منها المشكلات التي تعاني منها السياحة، ومشكلة الحوادث القاتلة على الطرق، ومشكلة النقل، ومشكلة العنف الاجتماعي والاختلالات السلوكية وسوء التعامل الاجتماعي.
في السياحة، التي يفترض أن تكون مصدراً استراتيجياً لدخل بلدنا، تعاني المرافق السياحية من سوء الخدمات، ومنها رداءة المرافق الصحية، وجور الناس على المواقع بملئها بالقاذورات والقمامة، وعدم وجود صلة عاطفية وعملية ودية بين المواطن وإرثه الأثري الوطني. وفي السير على الطرق، يمارس عدد يعتد به من المواطنين كل أنواع المخالفات والانتهاكات وخرق القوانين، بما يؤدي إلى قتل أنفسهم وغيرهم ممن لا ذنب لهم سوى المغامرة بالسير على الطريق. وفي النقل، ما يزال البلد عاجزاً عن اجتراح نقل عام لائق يخفف معاناة المواطنين ويقلل الحاجة إلى السيارات الخاصة ويصل بالناس إلى وجهاتهم آمنين. وفي العنف، حدث ولا حرج، في الجامعات والشوارع والقرى والحارات. وفي الاختلالات السلوكية، تسود أنماط الاعتداء على حق الآخر ومصادرة حصته، من سرقة فرصته بالواسطة، إلى أخذ دوره في المخبز، إلى التنمر عليه في الطريق والتسابق لكي يكون الكل في الأمام… وهكذا.
وفي التجارة أيضاً، بالمناسبة. إنك تكاد لا تثق بأن يبيعك التاجر بنوعية وسعر يراعي مصلحته وحاجاتك بلا زيادة أو نقصان. وتحس غالباً بالريبة والشك الواخز بأنك قد تكون عرضة للغش. وإذا اشتريت شيئاً، حتى من شركة كبيرة، فإنهم كثيراً ما يتأخرون عليك في التسليم، أو لا يفون بشروط الصيانة والكفالة ويتهربون منها، أو يبيعونك سلعة يعرفون أنها مضروبة، لكنهم يُخفون ذلك عنك بمكر ثعلب. وإذا احتجت فنياً ليصلح لك شيئاً، فإنك تشك بأنه يستغلك ويدّعي وجود خلل قد لا يكون موجوداً في الشيء المراد إصلاحه، لمجرد رفع الكلفة عليك بلا لزوم.
هل هذا الوصف حقيقي وملحوظ لدينا؟ إذا كان كذلك، فإنه يؤشر على “طريقة حياة” –أي ثقافة- تعاني من اختلالات عميقة وأزمة. وسوف يحيلنا دائماً إلى مقارنة نكون فيها خاسرين دائماً، مع أناس مثل اليابانيين مثلاً، الذين لا يمكن أن يلقي أحدهم قمامة في حديقة عامة أو شارع، أو يتعامل بلا تهذيب مع الآخرين، بدفع ذاتي غالباً من العادات الاجتماعية التي ترسخت فيه منذ ولادته. وسوف نتحدث عن التاجر الغربي الذي يقبل باستعادة سلعته لمجرد أنها لم تعجبك، بعد أشهر أحياناً، وهو يعرف أنك استعملتها، ويعيد لك الثمن وهو يحسُّ أنه لم يخسر في نهاية المطاف ما دام سلوكه لا ينفّر الزبائن.
من الواضح أن كل هذه الأنواع من الممارسات تؤشر على نمط اجتماعي ضار بأصحابه، وعلى فشل الجهات ذات السلطة والأدوات في تخليق اتجاهات اجتماعية إيجابية تُصلح هذه العيوب الفتاكة مع الزمن. وعلى سبيل المثال، ليس المواطن هو المسؤول عن المرافق الصحية اللائقة والشكل الجذاب والتعامل الراقي مع السياح في الأماكن السياحية. كما أن هناك فشلاً في وضع سياسات تصنع الوعي الضميري والوشائج بين المواطن والقطعة الأثرية التي يمتلكها هو وبلده. إنه لا يعرف الصلة بين ثقافته السياحية واحترامه للمكان والزوار، وبين العائد المادي الوطني الذي ينعكس عليه شخصياً، وعلى مواطنيه من العاملين في الخدمات السياحية. لذلك يشتكي لي عجوز ألماني وزوجته من أن عامل كازية تقاضى منهما عن ملء كامل خزان سيارتهما السياحية، ليضيء ضوء فراغ الخزان فقط لدى وصول فندقهما على بعد بضعة كيلو مترات داخل عمان الغربية.
والمواطن الذي ينتهك قوانين السير، فيتجاوز السرعة ويتجاوز خطأ ويدوس رقاب شركائه في الطريق، لا يستطيع أن يفهم أنه قد يقتل آخرين وييتم أطفالهم، بل وأطفاله هو. ومخطط النقل لا يريد أن يفهم قيمة وقت الناس والوفر في الوقود وكفاءة الطرق والحوادث وما شابه. والتاجر لا يدرك ضرر الغش على سمعته، وهكذا.
أزمة الثقافة التي تفتك بنا هذه، مسؤولية التعليم والإعلام والمثقفين وواضعي السياسات. ويبدو حاصل جمع عملهم “طريقة حياة” متوترة وأناسا فاقدي الصلة. فمن ينتبه؟!
نقلا عن الغد الاردنية