17 نوفمبر، 2024 11:41 ص
Search
Close this search box.

أزمة تاريخية في ولاية ماكرون الثانية!

أزمة تاريخية في ولاية ماكرون الثانية!

هبط الآلاف من طلاب الإعداديات والكليات عفويا الى شوارع باريس قرب بناية المجلس الوطني أثر القاء الشرطة “عبوات الفلفل” المسيلة للدموع والخانقة على المتظاهرين ومن معهم من نواب الجمهورية المساندين لهم في رفض قانون “اصلاح التقاعد” بعد قرار الرئيس ماكرون استخدام المادة 49 ,3 لتمريره عبر البرلمان عوضا عن التصويت عليه. وقد رفع المتظاهرون الشباب لافتات كتب عليها ” انظر الى ساعتك الرولكس، انها ساعة التمرد ” وشعار آخر هو ” ماكرون، بورن، كفى للاحتقار!” وقد صرح بعض الشباب والشابات للإعلام بأنهم نزلوا الى الشارع وجاؤا الى هذا المكان لدعم المتظاهرين والنواب المعارضين لهذا القانون وgيقفوا بوجه العنف البوليسي غير المبرر ضدهم في دولة ديمقراطية.

لقد ترددت كلمة الديمقراطية كثيرا خلال الأسابيع الأخيرة بمناسبة طرح قانون إصلاح التقاعد الذي أراده الرئيس ايمانويل ماكرون وسمعت كثيرا على لسان النواب في كل الأحزاب السياسية ومن الاعلام والصحفيين والنخب المهتمة بالشأن السياسي وكلها تجمع على ان فرنسا تعيش أزمة تاريخية لم تشهدها منذ عهد الجنرال ديغول بسبب استعمال الرئيس ماكرون المتكرر للمادة الدستورية 49,3 والذي بلغ أحد عشر مرة وذلك لعدم وجود غالبية برلمانية تدعمه. وبدل من المرور بالتصويت البرلماني وهو الفعل الأساسي والديمقراطي الذي يستند عليه تشريع القوانين في الديمقراطيات قام الرئيس نفسه وليس رئيسة الوزراء “ايزابيل بورن” باتخاذ قرار تمرير “قانون اصلاح التقاعد ” الذي تعارضه غالبية بين 80-91% من الفرنسيين بحسب الاستطلاعات وقد يكون هذا القانون هو أحد أسوأ القوانين التي عرفتها فرنسا منذ أكثر من خمسين عاما وحصد أكبر معارضة شعبية له. لقد قوبلت رئيسة الوزراء اثناء إعلانها تمرير القرار في الجمعية الوطنية بموجة غضب واسعة ورفض من البرلمانيين الذين بدأ البعض منهم ينشد النشيد الوطني بينما رفع آخرون لافتات وملصقات ضد القانون لتصبح هذه الجلسة تاريخية وتسجل في المشهد السياسي الفرنسي وعهد الرئيس ماكرون كواحدة من نقاشات البرلمان الفرنسي الأكثر اشكالا في تاريخ الجمهورية الخامسة. لقد رأت غالبية من الفرنسيين بضمنهم نواب كثر ان استخدام المادة 49,3 لتمرير أحد اهم القوانين التي تمس بقوة حياة الفرنسيين لم يكن موفقا وليس ديمقراطيا ولا شرعيا لأنه لم يأخذ استحقاقه الكافي من النقاشات داخل البرلمان وبدا لكثير من النواب ان الرئيس ماكرون أراد تمريره هو شخصيا بعجالة وبطريقة غير شفافة باستعمال تعابير لغوية معينة الغرض منها تسويق القانون وهو ما أثار حفيظة وغضب عدد كبير من النواب الذين نهضوا في القاعة للتعبير عن رفضهم للطرق غير الديمقراطية المتبعة في ظل ولايتين للرئيس ايمانويل ماكرون. وبعد رفع الجلسة بدأ البرلمانيون المعارضون بالتحشيد القانوني لسحب هذا القرار اذ عبر رئيس كتلة برلمانية صغيرة عن الاجماع بتقديم ملتمس الرقابة” ولحقت به كتلتان برلمانيتان أكبر للقيام بنفس الأمر. كما دعت هذه الكتل نواب حزب التجمع الجمهوري للالتحاق بها ليكون هناك العدد القانوني من الأصوات اللازمة لإسقاط حكومة رئيسة الوزراء ايزابيل بورن ومطالبتهم بعدم تغيير موقفهم الاولي الرافض للقانون لأسباب شخصية بعيدة عن المصلحة العامة وفي تعارض واسع مع مطالب غالبية الشعب الفرنسي. ليس ذلك فحسب بل ان النقابات الكبرى والتي تصدرت التظاهرات العارمة التي شهدتها باريس والمدن الفرنسية منذ أسابيع قد اعتبرت تمرير القانون بهذه الطريقة نبذ فاضح للديمقراطية وقال رئيس نقابة السي جي تي التي تعتبر اهم النقابات وأكثرها عددا، ان الرئيس لا يسمع ولا ينصت.. لكن التحشيد سينتقل الى مرحلة ثالثة وسنواصل تعطيل الاقتصاد حتى سحب هذا القانون.

ان تمرير “قانون اصلاح التقاعد” هو أيضا سبب لأزمة اجتماعية واسعة بدأت مبكرة مع الولاية الاولى للرئيس ماكرون لتستفحل اكثر خلال فترة كورونا بسبب سوء إدارة الوباء وتفجرت منذ أسابيع مع نزول 2,8 مليون شخص في تظاهرات بدأت في العاصمة باريس وشهدتها كل المدن الفرنسية وصلت الى المئات وحشدت جمهور كبير ضم جميع الفئات العمرية وخاصة الشباب والعمال والموظفين. تبدو تسمية الإصلاح جاذبة للوهلة الأولى لكنها تخفي في تعابيرها ومصطلحاتها المختارةقانونا لتفكيك وإلغاء كثير من المكتسبات التي حصل عليها الفرنسيون بعد نضال كبير وعلى امتداد أكثر من قرن من الزمان وبالأخص زيادة سن التقاعد المعمول به حاليا عامين إضافيين وهو ما يرفضه الفرنسيون بالإضافة الى اختفاء ما تم تسويقه من الحكومة على انه زيادة عامة في الراتب التقاعدي ليضيع في بين التفاصيل.

قالت رئيسة الوزراء ايزابيل بورن في كلمتها امام الجمعية الوطنية بأن بلادنا بحاجة الى الإصلاحات وهو ما لا يختلف عليه الشعب الفرنسي ونوابه لكن الواقع ونوعية الإصلاحات المطروحة تظهر ان هناك رغبة كبيرة في خصخصة وترشيق الدولة وتقليص النفقات وتوفير فائض “للخزينة” عبر البذل بسخاء لكابينات الشركات الاستشارية الخاصة على حساب القطاع العام والعاملين فيه والخدمات العامة الأساسية في الصحة والتربية والزراعة والجيش وغيرها من قطاعات الدولة وبطريقة يراها الشعب وعدد من نوابه في البرلمان غير مبررة ومحدودة المردود . وقد كشف أحد النواب مؤخرا امام الجمعية الوطنية ان هناك الكثير من النواب ولأسباب تتعلق باستثماراتهم المالية في الشركات الكبرى هي التي تمنعهم من التصويت لفرض الضرائب على شركة توتال وتمنع التصويت على إيقاف زيادة أسعار المحروقات والبعض الاخر هو الذي يريد تمرير قانون اصلاح التقاعد بسبب امتلاكه أسهما في شركات التأمين وفروعها التابعة للبنوك.

يقول أحد أساتذة القانون انه كان بإمكان الرئيس طرح القانون على التصويت في البرلمان وذلك أفضل من ان تكون هناك ازمة سياسية واجتماعية تعطل قطاعات واسعة من البلاد وفي حال فشل التصويت يسحب القانون ليعدل مستقبلا، ورأى جان لوك ميلنشون المرشح الرئاسي السابق لحزب فرنسا غير الخاضعة انه كان بإمكان الرئيس القيام باستفتاء شعبي على القانون وهو اجراء ديمقراطي يستعمل غالبا لتفكيك الازمات بشكل سلمي وديمقراطي.

تبدو الازمة السياسية والاجتماعية التي تعيشها فرنسامنذ أسابيع، مواجهة بين اقلية رئاسيه تريد فرض رؤيتها الاقتصادية التي ترتبط بكبرى الشركات العالمية وغالبية الشعب الفرنسي الذي يرفض المثال الاقتصادي “الليبرالي المتوحش” ويعتز بالمثل الاجتماعي للدولة الذي تحقق عبر كفاح طويل للنقابات والأحزاب من اجل حقوق العمل والعاملين. لقد خاض الرئيس ماكرون معركة خاسرة مع الشعب الفرنسي الذي لن يتنازل عن مكتسباته بدليل هذا التحشيد الواسع والمستمر والتظاهرات الكبرى التي لن تتوقف الا بسحب هذا القانون. لقد توحد الشعب الفرنسي بكل مكوناته يرفض الحكم بالمادة 49,3 ويذكر الرئيس بالمبادئ الديمقراطية لأسس الحكم والأيام المقبلة حاسمة في حياة القانون او دفنه الى الابد.

أحدث المقالات