الوعي العراقي وقطبيته المعكوسة في تقييم الحُكّام
يعاني الوَعي العراقي منذ عقود ولا يزال مشكلة كبيرة ومعقدة في تقييم حكام بلاده، ربما بسبب روافده النظرية والعملية المتشابكة المفاهيم، والتي تعود أن يبني تقييمه للآخر على أساسها، خصوصاً إذا كان هذا الآخر حاكما بموقع المسؤولية. فهذا الوعي لم يقرر بعد أي طريق سيسلك لبلورة شخصيته وبناء بلده، لأنه ما يزال مترنحاً في مرحلة مشوهة وسَط بين البدائية والحضارة، والتريف والتمدن، والقبلية والتحضر، والتعصب والتحرر، والطائفية والعلمانية، وهو يميل منذ عقود بإتجاه البدائية والتريف والقبلية والتعصب والطائفية، وعلى أساسها وما يرتبط بها من صفات مقيتة كالرعونة والقسوة والقدرة على الكذب وإطلاق الشعارات والحاق الأذى بالناس وقمعهم ما يزال يقيم حكامه ويعطيهم صكوك النجاح والفشل، وليس على أساس ما إمتلكته شخصياتهم من عقل وحكمة وما قدمته من خدمة للبلاد وشعبها.
لذلك لا يزال الوعي الجمعي العراقي جاحِداً لمُبدِعِه، وأقصد الملك المؤسس الراحل فيصل الاول، مؤسس الدولـة العراقية من ثلاث ولايات إدارية بائسة كانت تابعة للدولة العثمانية، ولولاه ولولا حكمته لكانت واحدة منها اليوم تابعة لتركيا والثانية لأيران والثالثة تائهة في مَهب الريح، وقد وصفته بمُبدِع هذا الوعي، لأن تشكيله الحديث وكل ما إمتلكه من مفاهيم حداثة وتمدن وما بقي منها اليوم يعود الفضل فيها لمشروع فيصل النهضوي وأسلوب تأسيسه للدولة ولطبيعة القيم التي حاول إرسائها في المجتمع، والتي بدأت تؤتي ثمارها وكادت تؤسس لمجتمع سليم لولا مراهقات العسكر والأحزاب السياسية التي عطلت مشروع البناء وأجهضته قبل أن تكتمل عملية إصلاح وعي المجتمع وتنقيته من أدران ومخلفات القيم والمفاهيم البالية التي عادت للظهور في أقرب فرصة وطغت على وعيه الجمعي،بإستثناء قلة ماتزال تعافر بوفاء لتلك القيم الحضارية التي أرساها فيصل. ولكن لأن فيصل لم يكن دكتاتوراً ولا رَجُل شعارت وكذلك حفيده فيصل الثاني ومثلهم عبد الرحمن عارف، وإنما كان الثلاثة رجال أفعال وبناء حاولوا أن يحكموا بالعقل والمنطق والحكمة، وشهدت فترات حكمهم هدوئاً وإستقراراً وعملية بناء ونهوض مجتمعي، لذلك لايزال هذا الوعي العراقي الجاحِد يصف فيصل بالحجازي الذي أتى به الإنكليز ليحكم العراق! في حين لا يقول نفس الشيء عن إبنه غازي الذي كان متهوراً وفترة حكمه من أسوء فترات العهد الملكي، فقد كان مشغولاً عن أمور الدولة، إما بسباقات السيارات، أو بأداء دور المذيع في اذاعة صغيرة وضعها باحدى غرف قصره كان يطلق عبرها خطابات تحريضية ضد جارته الكويت وحلفائه الإنكليز مهدداً متوعداً، لكنه كان وما يزال بنظر العراقيين وطني وسَبع! أما عبد الرحمن عارف فيُقيّمه هذا الوعي ويصفه بأنه “رجل طيب فقير لا ينفع للحكم” لا لشيء سوى أنه كان حاكماً طبيعياً وليس مجرماً ومجنوناً كأخية، ولم يبطش بالناس أو يقمع حتى المخالفين له، ولأنه سَلّم السلطة دون دم حينما هاجم شقاوات البعث قصره بالدبابات، ورغم أن عهده هو من أكثر العهود الجمهورية هدوئاً واستقراراً وازدهاراً. أما فيصل الثاني الذي كان شاباً طموحاً بسيطاً استطاع خلال فترة حكمه القياسية التي سَبَقت إغتياله الآثم النهوض بالعراق وجعله بمصاف الدول المهمة التي يحسب لها حساب بالمنطقة، فمازال العراقيين يصفونه أنه”شاب وطفل مسكين” ويَدّعون الحزن عليه لهذا السبب وليس لأنه حاكم شاب طموح مفعم بالأمل كجده، فهم لا يريدون الإعتراف بهذه الحقيقة لأنها تفنِّد وتسَفِّه وتبطِل أحَد أهَم الأسباب التي أستنَد عليها تقييمهم له،وهو أن خاله كان الحاكم الفعلي وليس هو، ولذلك إنقلب العسكر ومن تواطأ معهم من الثورجية ومن صفق لهم من الرعاع.
بالمقابل لا يزال القدح المعلى لدى العراقيين لشخصيات غير سوية تدعوا للخجل أحيانا مثل قاسم وعارف وصدام والمالكي، رغم أنها تآمرت وخانت وإعتدَت وقتلت، ورغم أنها خرّبت بلادهم التي يدّعون حُبّها وأفقرتها وأجدَبتها وجَعلتها نهبا لسَقط المتاع، ورغم أنها أهانتهم وأذلتهم وجعَلتهم مَلطشة للرايح والجاي، ورغم أنها شخصيات ماشوسية مأزومة مَجنونة نزقة من بيئات مريضة تفوح منها ومن سَحناتها رائحة الدَم والبارود. والسبب هو أن هذا الوعي لا يستطيع ولا يريد أن يفهم أو يستوعب فكرة أن الحاكم موظف كأي موظف آخر في الدولة بل وأقل، لأن مدة خدمته قد لا تتجاوز بضع سنوات، له حقوق مثل غيره لكن عليه واجبات خدمية يجب أن يقدمها للمجتمع بحكم وظيفته التي إختاره الناس لها. فصورة الحاكم بالنسبة لهذا المجتمع ما تزال محكومة بأطُر مَلامح شخصية الزعيم القبلية البدائية للعصور الوسطى أو لعصور ما قبل التأريخ، ويجب أن يكون بمواصفاتها ليَصلح أن يكون حاكماً من وجهة نظر وعيه الجَمعي، أي أن يكون بصورة دكتاتور أرعَن بسِحنة مُكفهرة وملامح قاسية لا يَعرف الرَحمة ويَضرب بيَد من حديد ويُكثِر مِن الشِعارات الحماسية والخطب الرنانة، وغيرها من الصفات الكريهة التي وجَدَت ترجمتها الحَرفية بنماذج نزِقة كعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وصدام حسين ونوري المالكي وحتى البكر. وإلا فإنه سيكون من وجهة نظر هذا الوَعي المَريض غير مُناسب للزعامة والقيادة وبالتالي للحكم، حتى إن كانت كل الأدلة والبراهين والقرائن المَنطقية العِلمية منها والعَمَلية تقول العَكس!