18 ديسمبر، 2024 8:45 م

أزمة الناصرية .. أزمة العراق . الحلقة الثانية والأخيرة

أزمة الناصرية .. أزمة العراق . الحلقة الثانية والأخيرة

لم يدرك القادمون من مدن اللجوء والأزقة الخلفية في قم وطهران ودمشق والسيدة زينب والقرى الهامشية، عمق الاسرار لمدينة الناصرية وتشكلها الروحي الفالت من قبضة الخوف والتسلط ، جاءوا بعربات افكارهم الصدئة ليعبثوا على نحو مايفعل القراصنة من نهب وامتهان دون قراءة ملامح التاريخ، مدينة استيقظت قبل بغداد في ثلاثينات القرن الماضي لتطلق أول حزب ثوري في العراق (الحزب الشيوعي) في مسارات تتنشق عطر التاريخ وتمضي وسط النيران بإيقاع أنشودة السماء ..( وقلنا يانار كوني بردا وسلاما على ابراهيم)، وتمضي بعنادها لتكسر شوكت الخوف من سلطة حزب البعث في ذروة قوتها 1979 في تظاهرات معارضة في الجبايش والفهود .
لاغرابة أن تعلن المدينة تمردها وثورتها المستدامة بعد أن استبد بها الفقر وفساد الاحزاب وعصابات السلاح المنفلت والاستهتار العلني بمقدرات المدينة، وتقاسم مايزيد على ثلاثة الآف ترليون أي مايربو على ثلاثة ثلاثة مليارات دولار موازنات سنوية للبناء والتطوير والتنمية المخصصة للمحافظة، ماعدا المشاريع المركزية التي تنفذها الوزارات وتخصيصات تنمية الاقاليم والمحافظات .!؟
هذه الارقام تعد كبيرة ومهولة بالنسبة لمدينة منتجة للتمور والزراعة بتنوعها وبيئة الأهوار الجاذبة للسياحة وغيرها من الموارد التي يمكن تحققها في حال وجود إدارة ناجحة ونزيهة .
الصراعات السياسية بين الأحزاب التي تهيمن على الناصرية كانت تنتهي بعقد صفقات فيما بينها سواء على المواقع الإدارية التنفيذية وكذلك مجلس المحافظة ومسؤولية عن التخطيط والاشراف ، وهذا الحال يحدث في بقية المدن العراقية بما فيها العاصمة بغداد ، وحين يحل مبدأ التحاصص بالمنافع بين الاحزاب وإرضاء الاطراف النافذة من ميليشيات وشخصيات مؤثرة، يسقط دور الرقابة ويهدد الاعلام الخارج عن سلطتهم، وهكذا تمضي سنوات على فساد يتراكم وتخلف متواصل وعلاقة عدائية بين الطبقة السياسية المهيمنة وشعب محروم وكلما طالب أو احتج يواجه بالقمع والملاحقة والتشويه والإساءة . وبينما كانت تتكدس ملايين الدولارات المهربة الى دول اللجوء التي جاءوا منها أو استثمارات للشخوص والاحزاب في ايران ولبنان وبعض الدول العربية والغربية ، كانت تتراكم أحاسيس الغضب والوعي الجريح بحجم الخسارة التي أصابت أهالي الناصرية .
تراكم الأزمات بالتوازي مع تغول الفساد شكل لازمة الاحتجاج الشعبي الذي صار يشارك فيه معظم أبناء الناصرية وكذلك الاقضية والنواحي التابعة لها، بعد أن سقطت شعارات الطائفة والمذهب التي خدعت الناس ودفعتهم للتحمل نحو خمس سنوات او أكثر ، ومثلما تنضج الثمار كان الغضب ينضج في جيل الألفية الثالثة الذي استهلكت سنوات العشرين الأولى من عمره في بؤس حقيقي وحرمان من العمل والوظيفة والعيش بكرامة ومحاولة التفلت من يأس يغلف رؤيته للمستقبل ، جيل يواجه بإنغلاق ثقافي وسلطة الممنوعات من الموسيقى والسينما والمسرح والغناء، ولم تنفتح أمامه سوى دروب الجريمة والمخدرات والحشيش، تفتح من أجل تغييبه معامل (الكرستال )الحبوب المخدرة ، ويتعهد كبار النافذين باستيرادها من الجار الشرقي، بهدف تحويل قطاعات الشبيبة الناهضة الى قطعان بهائم تساق وترضخ وفق رغبة من يملكون سلطة الدين والدنيا !؟
حكومة بغداد المركزية لم تقف على حقائق ماحدث في الناصرية ، كما هي تغفل معرفة مايحدث في مدينة الصدر ببغداد وبقية أحياء العاصمة أو مدن معذبة مثل ديالى وصلاح الدين والموصل والديوانية والكوت والنجف وكربلاء، استبداد سياسي وميليشياوي لايخضع لدستور أو قانون أو منطق انساني واخلاقي مايجعل المدن تنفجر بالاحتجاج والثورة وتقدم الضحايا شهداء من أجل الخلاص وتحقيق مطاليبها بالعيش والحرية بعد أن فقدت الأمل بحلول تقدمها مراكز السلطة للدولة المفككة أصلا ، نعم لاتستطيع حكومة بغداد سوى بدفع المشاكل الى الأمام، ترحيل الأزمات بوعود كاذبة واستبدال المحافظ ، والفشل بإيجاد حلول عملية لأزمة بنيوية متفاقمة .
الناصرية التي زارها مؤخرا بابا الفاتيكان تعني أنها مركز للديانات وهي مهد الحضارة السومرية، بيئتها الثرية المتنوعة مابين السهول والاهوار والصحراء وآبار النفط والغاز ، وتاريخ مشاركتها للانسانية بالابداع وافواج ورجالات الفكر والثقافة والأدب والفن والجمال الذين خرجوا منها لإغناء العراق، مدينة ينبغي أن تغادر الجوع والفاقة والحرمان وتابوات الاحزاب الظلامية ،وتتحول الى مركز للعيش الرغيد والثقافة والجذب السياحي والتطور والتقدم ودولة القانون والنظام ، وهذا ماكانت تحلم به أرواح ودماء الشباب التي أريقت في ساحة الحبوبي وجسر النصر في انتفاضة تشرين الخالدة .
[email protected]