22 نوفمبر، 2024 10:16 م
Search
Close this search box.

أزمة المواطنة في المجتمع العراقي

أزمة المواطنة في المجتمع العراقي

ليس في العالم بلد عمره الحضاري سبعة آلاف ، سنة وليس في العالم بلد تكونت على ضفاف رافديه حضارات متعددة ، وسادت فيه ثقافات متراكمة ، وليس في العالم بلد رغب الناس في السكن والعيش فيه منذ أقدم الأزمان ، كما هو العراق …
إذ تعاقبت عليه الهجرات والنزوح من كل أطراف الدنيا ، وتنوعت جذور أعراقه وثقافاته ، فكل شبر من هذه الأرض له حكاية أو قصة تحكي جزءاً من تاريخه لذلك لا يمكن أبداً أن يُختزل هذا التاريخ في نظرية قومية أو دينية أو مذهبية ، ولا يمكن أن يعامل مواطنوه على أساس خيار الخصوصية للسلطة الوقتية التي تحكمه فكما أن تضاريس هذا البلد متعددة ومناخه متنوع فإن مكوناته الديمغرافية متعددة ، والثقافات التي استقرت في عمق تاريخه لا تزال تقدم بعضاً من معطياتها لحاضر هذا البلد ومستقبله .
إن للمواطنة في بلدنا جذر تاريخي وتجربة اجتماعية وإن أقصى ما يحصل فيه من تصدعات فلعوامل خارجة عن إرادته وافدة عليه وإذ انتابها تصدع فهو لوقت قصير إذ أننا نلحظ أنه بعد كل فترة تأزم تتأثر بها ضوابط وكوابح المواطنة ازاء شرور ثقافة الكراهية سرعان ما يرممها العقلاء والحكماء من العراقيين ويعود الناس في هذا البلد ليعيشوا لحمة المواطنة وربيع الوحدة الوطنية كحقيقة قائمة حينما يعضّدها الفقهاء والمفكرون السياسيون وأصحاب الرأي الذين يسعون إلى تنوير المجتمع بأن الوحدة الوطنية ضرورة وجود وحقيقة تاريخية يساعدهم في ذلك توزع العشيرة العراقية الواحدة على المذاهب الفقهية وكثرة المصاهرات فيما بينهم والتضحيات المشتركة بما في ذلك تضحيات هذا المكون لصالح ذلك المكون والثقافة المشتركة التي تسود بين المكونات وهي ممكنات اندماجية قد لا توجد في أي مجتمع من مجتمعات الدنيا .
إن المواطنة والسعي لتحقيق الوحدة الوطنية بانموذجها السامي هي ضمانة هذا البلد من أن يتحول إلى دويلات أو إمارات ترتكز على خصوصيات اثنية عرقية أو ثقافية ، وعلى ذلك فعذر هذا البلد ليبقى متماسكاً أن تكون الضرورة الملازمة له ضرورة تحقيق الوحدة الوطنية ولعلي هنا أرصد خصوصيتها العراقية وأوجزها بالتالي :
1. علينا أن نعترف بأن انفتاحنا على مفهوم الوطنية يجب أن يتم على أسس العقلانية النقدية وربطها بشبكة من التنظيرات والتطبيقات لتساعدنا على تكامل الفهم وسلامة التنفيذ وإن هذا النتاج الفكري لا يختص بقومية ولا بأيديولوجية ولا دين ولا فكر فلسفي ، إذ أن ارتباط الإنسان ببلاده وأرضه وموطنه موضوع غريزي يشترك فيه عموم الناس ويساعد على تنميته في كل عصر وزمان الألفة والاعتياد والمستدام ، إذ أنه أمر عام بين الناس كافة ولا صلة له بالأديان والآيديولوجيات من حيث كونه شعور عام .
2. إن مبدأ سيادة الدولة كما هو مفترض في بلداننا قد استند إلى مفاهيم فكرية أنتجتها معطيات منظومة حقوق الإنسان الإسلامية على مبدأ إلهي [كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ] كحق الإنسان في الحياة وحقه في اعتناق عقيدة وحقه في التعبير السلمي عن أفكاره ومتبنياته فمبدأ سيادة الدولة في تراثنا الفكري لم يعط للدولة سلطاناً كاملاً وإنما دعاها لأن تكون المنفذة للأحكام الإلهية وقيمها الإنسانية فالوعي التاريخي للعراقيين يكاد ينعقد على إعطاء الدور المهم للإسلام لمفهوم سيادة الدولة بوصفه مشروع الأمة الحضاري والمعيار في صياغة الفهم النظري لحل الكثير من المشكلات التي تعترض مشروع المواطنة والوحدة الوطنية .
3. إن المتنورين في المجتمع العراقي يرون جواز استثمار الديمقراطية والانتخابات والاستفتاء العام ، كآليات ينتج عنها اختيار الناس للقوانين التي تنظم حركة المجتمع أما على سبيل الاجتماع أو الأغلبية الساحقة ، وهنا يظهر مفهوم المواطنة أو تحقيق الوحدة الوطنية قيداً على نواتج اختيار الأغلبية حتى لو استخدمت صناديق الاقتراع لغرض اكتشاف الخيار الفكري والقانوني لشكل الدولة وصلاحيتها ، إذ ستفرض المواطنة ضرورة عملية ستردُّ على ما أنتجته الانتخابات وبه تحفظ حقوق الأقلية التي ربما رفضت هذا الخيار ، فلو تم اعتماد نمط الآلية الديمقراطية المحضة لوحدها فإن (النصف + 1) هو الخيار الراجح بينما لو اعتمدنا مركب ( الديمقراطية + المواطنة ) فلابد من تسوية توازنية تحفظ حقوق الأغلبية بالقدر الذي تحفظ به حقوق القلة الانتخابية ووفق هذا السياق فإن على الأغلبية الفائزة بأصوات الناس أن تراعي حقوق الأقل حظاً بصناديق الاقتراع كمقيد للسلطة والصلاحيات ، وفي الوقت ذاته فإن على الأقلية الانتخابية أن تبقي ولاءها للوطن وليس لمرحلة تاريخية أو سياسية فتشارك بجدية وإخلاص في بناء الوطن والدفاع عنه وتطبق طوعاً القوانين والأنظمة حتى تلك التي شرعها معارضوهم في السلطة .
4. أما على الصعيد الثقافي فإن الكل معنيون بتأسيس ثقافة مواطنة وتطويرها على أساس الولاء لعموم الوطن والكل معنيون باستئصال ثقافة الكراهية وسلوكيات التعصب واستبعاد كل أشكال التطرف وتحريم استخدام العنف لأي غرض سياسي أو فكري وإشاعة ثقافة الاندماج والتكافل وارساء مفاهيم الاعتدال الموضوعي والوسطية الفكرية والسياسية والابتعاد عن طرح الأهداف والمتطلبات التعجيزية أو غير الممكنة عملياً والتي تخدش في طرحها مفهوم الوحدة الوطنية .
5. ولعلنا بحاجة قصوى إلى أن يوظف الدين بما يملك من تأثير بالغ على النفوس لإعادة تأهيل الإنسان على وفق قيم المواطنة الكريمة وأن نفصّل بين تجليات الانتماء للمذهب وشرور تحول هذا الانتماء من منهج فكري ومدرسة اجتهاد إلى كتلة اجتماعية – سياسية ، منكفئة على ذاتها تقصي شريكها الوطني وتستحل ماله ودمه وعرضه ، فلابد من التفريق بين الاعتزاز بالمذهب والانغمار بالطائفية وهذا ما يتطلب منا رسم العلاقة الصحيحة والمتوازنة بين المؤسسات الدينية ذات الفاعلية والنفوذ والتأثير الواسع بالناس وبين السلطة السياسية إذ أن علينا أن نبرز كل النصوص الدينية التي تشجع على أن تسود روح المواطنة والوحدة الوطنية وتحفز هذه الروح على بناء تطلع غريزي وفطري عند الإنسان لكي تكون أكثر عقلانية في تعامله مع مفردات الحياة وفق المفهوم الإسلامي كونه مشروع حضاري وإنساني لا يلغي خصوصيات الآخرين .
6. من الواضح أن أي شعب عندما ينتقل من قيم الدكتاتورية إلى الديمقراطية تحصل فيه اختلالات بنيوية عميقة على كافة الصعد ( السياسة – الاقتصاد – المجتمع – تشكلاته المؤسسية ) وتتمخض عن ذلك صيغاً دستورية تكون قطعاً مثاراً للجدل والتجاذبات حتى تستقر أما بالاقتناع بضرورتها أو بسبب ضواغط اجتماعية على أن لا يلغي ذلك مبدأ ثابت هو وضوح الصيغ الدستورية التي تدفع وتشجع وتنظم مسألة تعايش التنوعات الاثنية والعرقية وإندماجها ومن المفترضات الأساسية أن علماء الدين والمفكرين والمثقفين والأدباء والسياسيين قد أعدوا لإجراء دراسات معمقة تعتمد التحليل النفسي والاجتماعي للشخصية العراقية لنقل خلاصة تجربتها ونتائجها لتتحول إلى ( قواعد دستورية ) لضمان الوصول إلى قطف ثمار الوحدة الوطنية وهذا بطبيعة الحال ليس عملاً سريعاً وليس وصفة سحرية إنما هو مخاض عسير وجهود خلاّقة لتحريك السائد من الأوضاع التي خلفتها مراحل الانتقال من قيم الديكتاتورية إلى الديمقراطية .
 
وعلى كل ذلك .. فالعراق بحاجة إلى مشروع وطني عراقي تثبّت فيه المبادئ العظمى للمواطنة العراقية ، العراق بحاجة إلى مشروع يتخطى كل عوائق التوحد في هذا الوطن ، مشروع يتخطى كل عوائق الاندماج الاجتماعي والسلم الأهلي والتكافل ضد الفقر والجهل والمرض والتخلف ، والتضامن لأجل الرقي والتنمية والعدالة والازدهار واحترام كل الخصوصيات المندرجة في الكلّ الوطني من أجل خلق عراق موحّد آمن مستقر.

أحدث المقالات