ما زلت أعتقد، بل أزداد يقينًا، أن ما يمرّ به العراق اليوم ليس مجرد أزمة حكم أو خلل في إدارة الدولة، بل أزمة أعمق تتعلق بالمفاهيم الثقافية التي تشكل وعي الأفراد والمجتمع، ومن ثم تؤطر سلوك الطبقة السياسية. إنها أزمة في الإدراك، قبل أن تكون أزمة في التنظيم.
لقد أخطأنا – أفرادًا ونخبًا – حين حولنا مفردة “المكوّن” من وصفٍ اجتماعي طبيعي إلى هوية سياسية مغلقة. فأصبح الانتماء الديني أو القومي أو المناطقي معيارًا للحكم والتوظيف والتمثيل، لا مجرد تنوّع مشروع داخل جسد الدولة. والحال أن كل الدول الحديثة – من الولايات المتحدة إلى الهند – تتألف من مكونات وقوميات وأديان متعددة، لكنها وجدت الطريق لبناء دول قوية، لا تُدار بالمكوّن، بل بالمؤسسات والبرامج والكفاءات.
في العراق، بقيت خرائط المكونات مرسومة على الجغرافيا: الجنوب شيعي، الشمال كردي، الغرب سني، والوسط مختلط، حتى أصبحنا نقرأ الوطن وكأنه فسيفساء مغلقة، لا وحدة وطنية. وبدل أن يكون التنوّع مصدر غنى حضاري، تحول إلى قاعدة للتقاسم ومرجعية لتوزيع المناصب والثروات، بما يُضعف الدولة ويُفخّخ مؤسساتها من الداخل.
إن مفهوم “المكوّن” لا يتعارض مع الدولة من الناحية الاجتماعية، بل يمكن أن يُثريها ويجعلها أكثر التصاقًا بجذور الناس، لكن الخطر يبدأ حين يُختزل الحكم بالمكوّن، وتُدار الدولة على أساس الحصص والانتماءات، لا على أساس المواطنة والكفاءة. الدولة، في مفهومها الحديث، كيان محايد يتجاوز الهويات الفرعية ولا ينكرها، لكنه لا يخضع لها.
لدينا فرصة فريدة إن أردنا فعلاً أن ننهض من هذا الركام: فالعراق ليس مجرد دولة في الشرق الأوسط، بل أرض الحضارات، من سومر إلى بابل إلى آشور، ومن الكوفة إلى بغداد العباسية إلى بصرة العلوم، ومن الموصل إلى أور. في كل شبر من هذه الأرض، وُلدت فكرة، ونُحت قانون، وتأسست مدرسة. هذه الذاكرة الحضارية لا يجوز أن تُحوَّل إلى تراثٍ جامد، بل يجب أن تُفعَّل كمنصة لتأسيس حضارة عراقية جديدة، تضع العراق في موقعه الطبيعي كمركز للعلم والتكنولوجيا والثقافة في المنطقة.
إنه لمن المؤسف أن بلداً بهذه الطاقة البشرية والفكرية والتاريخية، يُدار اليوم بلغة الصفقات، ويُحكم بمنطق الولاءات، بينما العالم من حولنا يتقدم في الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة وصناعة المستقبل. *نعم العراق بحاجة إلى ثورة مفاهيمية لا تُقصي أحداً، لكنها تعيد ترتيب الأولويات: من الهويات المغلقة إلى الهوية الوطنية، ومن المظلومية إلى الفاعلية، ومن الشكوى إلى البناء* .
ليكن المكوّن جزءًا من المجتمع، لا من الدولة.
ولنُعد الاعتبار للمواطن بوصفه فاعلاً لا خاملا، شريكاً لا تابعا ، مُستحقًا لا متوسلاً.
ولنحوّل تنوعنا من عامل نزاع إلى قاعدة نهوض.
فإن لم نُصحح المفاهيم، سيبقى العراق رهينة خرائط الماضي، ولن نبني المستقبل الذي نطمح إليه.