يعاني المشهد العراقي من عدم وجود اي مقومات للاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي بسسب تراكم الازمات منذ اكثر من عشر سنوات من تسلط النخبة الحاكمة وافتقارها الى اي منهج يهدف الى تأسيس مشروع للدولة وأخذت تحترف اللعب وبمنهجية مدعومة من خلفيات عديدة في ترسيخ السلطة وادامتها وتمكنت من اغراق الشارع العراقي بالمشاكل المتوالية التي تفتعلها لتحويل الراي العام واشغاله بغية بعثرة المعارضة والحد من صعودها وهذه من الستراتيجيات التي تنتهجها السلطات للتحكم بالشعوب فتقوم بابتكار الازمات وتعويمها ثم تقديم الحلول والمناورات المعسولة, يبدا الامر من قيام السلطة بادواتها باحداث مشكلة أو موقفا متوقعا لتثير ردة فعل معينة من قبل الشعب فيطالب هذا الاخير وبلا تمحيص بالاجراءات التي تود السلطة ان تمررها بمقبولية وهنا تقوم السلطة بتشريع القوانين على حساب حقوقه وحريته وبذلك يختل التوازن في العقد الاجتماعي بين الشعب والحكومة المنتخبة التي من المفروض انها تمثله, وللتغطية على الافلاس السياسي تقوم السلطة بادامة الازمات ولا سيما المالية لكي تفرض الضرائب وتقوم بالتحكم بالجانب المعاشي للفرد والعائلة والمجتمع واهمال مسار الخدمات والاعمار ثم وبالتدريج يتم تقبّل التراجع على مستوى الحقوق الاجتماعية وتردي الخدمات العمومية وانخفاض مؤشر التعليم والتثقيف ثم تنقل السلطة المستوى الاستراتيجي في اللعبة الى مرحلة اعلى فتقوم بالعمل بطريقة نمطية يكون خلالها الشعب غير قادر على استيعاب ما تؤسس له السلطة من الاليات والطرق المستعملة لاستعباده وجره الى جهل مقدس وفكر احمق من اجل اكساب القرارت المكروهة القبول كانه دواء مؤلم ولكنه ضروري .
والاحداث التي تجري على ارض السواد والبلاء تبعث في النفس سقما عظيما وأساً شديدا ليس بسبب ما هو ظاهر فيها وما يتبعها من تداعيات فحسب بل بما تحتويه من خواء الفكر وعشوائية المنهج وعقم التخطيط والطامة الكبرى تكمن في الانجرار للحدث وكانه المفصل والخيار الوحيد في حياة الشعب “ليكون أو لايكون” فتقوم العامة بالانقياد المضلل له وتتبعها الخاصة ايضا الا النفر القليل منهم, ثم ياخذ الحدث صداه الاعلامي عبر الخط الثاني من شخصيات الاطراف التي حركت الحدث فتتصاعد خطابات التنابز والكراهية والتأجيج والتهديد وهي بذلك توصل رسالة قاسية الى الفرد والمجتمع بان عيشته وان كانت غير راضية فهي على المحك بين هذا الطرف او ذاك وان احلامه وان كانت ساذجة فقد جثمت عليها تلك الاطراف واصبحت مرهونة بعناوينها ورموزها وبمدى التخالف والتوافق الذي يدور في حلقات السلطة والترف والغنائم ويستعظم الانجرار الى الحدث وكان هناك فتنة ستقع ويراد وأدها ويتجاهل الجميع بان اصل الفتنة واسبابها الغير مباشرة قد وقعت فعلا عندما بدأت العامة بالموالاة الصاغرة لأي شخصية تتزعم تيارا او حزبا فتضيف عليها القدسية والضرورة والموالاة لترتبط بالاصول التي اعتقدها ووجد نفسه عليها وما دامت تلك العقيدة حبيسة النفس وذاتها فلا مخافة منها ولكن المحظور يقع عندما تتحول الى تيارات وحركات واحزاب اصولية تعتمد في وجودها على الزعيم او المرجع او الفقيه ثم يتم التأويل والتلفيق لجعل الشرعية اداة طيعة بيدها تستغلها كما تشاء واينما تشاء ومتى تشاء, ولذلك تصبح الاحداث وكانها لعبة من الالعاب الستراتيجية التي يلعبها الشباب الفتية فالحكومة تعامل الشعب وكانه طفل دون الثانية عشر يلعب مع اقرانه ولا يمكن التدرج بمستويات اللعبة الا من خلال الشخصيات البطولية فيها فتتمكن السلطة من العقول وتتحكم بها لعدم وجود من ينتقدها ويتظاهر على اللعبة نفسها بشخوصها وستراتيجياتها ويصبح الشعب مدمنا على الاحداث النمطية التي تجري علية وكانة يتحرك من خلال الاداة التي تتحكم في مجريات اللعبة ليصبح جزء لا يتجزء منها .
العقول العراقية “النخبة” وخلال عقود مضت قد أُستهدفت بشكل جعلها تميل للاخضاع والمهادنة وقد أُبلست وانحسرت المساحة التي تتحرك بها للتفاعل مع الجمهور الا من منفذ واحد هو السلطة وعناوينها ولذلك تراجعت الافكار التحررية والتنويرية وتنامت وبشكل مفجع الجهالة الوطنية والامية الفكرية فطغت على المجتمع ممارسات التخلف بدلا من التمدن وصار التجهيل عنوانا بديلا حاضرا عن التحضر مما ادى الى تعاظم طبقة الاسلام السياسي التي تخاطب العاطفة بالبلاء والصبر والسذاجة والخرافة وليس بالمشاريع والبرامج والاهداف والمنجزات وستاخذ الطبقة القبلية السياسية دورها لتكون الجانب الذي يعضد الاسلام السياسي ببراغماتية جاهلة وبالمقابل سيتلاشى اي دور واعي للطبقة المتوسطة التي من المفروض ان تكون في الطليعة اما واقعيا فهي مقيدة ولاتمتلك الشجاعة وغير فاعلة وتنتظر من يخلصها من الاصولية العقائدية والاثنية التي تكالبت بشخوصها وبشكل متعجرف وبلا مبالاة لتغدق المجتمع بخطابات الكراهية والعداء والفرقة وتثير الممارسات الشمولية كصولات الفرسان والتهديد والوعيد بصبغ الشوارع بالدم وبكل همجية بدون احتساب المخاطر والتجارب التي انتهت الى مصير مجهول وقاتم وبدون حتى طرح انجاز واحد وفي اي مسار وبدون حتى اي مراجعة تصحيحية, وفي المقابل ايضا لم تستطيع تلك الاحتجاجات ان تاخذ دورا قياديا لتؤلف معارضة حقيقة لها منهج ومشروع واضح وبقت رهينة الشمولية الشخصية وتبعثرت وتشظت ولم تركز فعلا على الاحاطة الجمعية واخذت تتناثر مرة تحتج على مفردة هامشية من هنا واخرى من هناك وثالثة على مطالب خاصة ..ألخ وكذلك اخذت تمارس الاحتجاج بطريقة بعيدة عن المضمون وباسلوب استعدائي مما يبعد الطبقة المتوسطة عن تأييدها فكريا ولكن في الوقت نفسه تتحالف معها تعبويا بسبب الضعف والوهن الذي اصابها وفي كل هذا الخضم من المتناقضات تصبح النظرية الديمقراطية هي الاطار الذي يضفي الشرعية القانونية لكل الممارسات والاحداث وبدون رادع قانوني او اخلاقي فمع ان المحتجين قد تمادوا في حق التظاهر الا ان المحتج عليهم قد تمادوا ايضا وبشكل خطير في فشلهم وممارساتهم التي ضيعت البلاد والعباد .
الجميع يبدو متفق على ان اللعبة قد شارفت على الانتهاء لانها اصبحت مستهلكة وانهم على دراية كاملة بضرورة تسويق العاب جديدة وبسيناريوهات محدثة كالتسويات والمصالحات ولا غالب ولا مغلوب ولكن بدون تبديل في الشخصيات الخارقة وانما هناك شخصيات جديدة ستلعب دورها لاضافة التشويق والتكتيك وقد تغيرت تبعا لذلك المحركات والمؤثرات الخارجية لاستدامة الزعامات واضفاء الشرعية الاقليمية بعد تراجع التأييد الشعبي وتنامي الغضب الغير ممنهج في الاوساط التي لا ترتبط بقيادات من الوسط السياسي والتي يبدو انها تنتظر الى ان يتهيأ الحدث الصادم بعد الانتخابات التي وبكل تاكيد ستديم مكاسب الكيانات ورموزها وعناوينها, وكل المشاريع التي ستطرح من الوسط السياسي ستكون بلا شك ازمة جديدة وستكون محور للصراع سواء كان مباشرا او غير مباشر, والسبب هو نمطية وهيكلية الدستور والرئاسات والسلطات والزعامات والتي قد خرجت عن مضمونها فاصبح الشيعي ينتخب الشيعي ليمثله وهكذا السني والكردي بدلا من ان يختار الفرد العراقي من يمثله عراقيا وليس طائفيا وكانت النتيجة متوقعة للجمهور الذي اصابه الخذلان والسأم من كل ما احتوته العملية السياسية منذ 2003 والى الان, فما الذي يمكن فعله لكي يُختزل كل ذلك الاحتراب في معادلة واحدة يمكن من خلالها تثبيت اول خطوة بالاتجاه الصحيح, هنا يبدأ دور النخبة الخاصة والتي يبدو ان بعضهم اصبح مهادنا وبعضهم يطرح افكار اكثر تحررية من الواقع واخرون قد اغلقوا كل الخيارات واخذوا يحلمون بتأسيس وطن قومي لشيعة العراق واخر للسنة وثالث للكرد ويرسمون حدود تنظيرية بدون آليات واضحة وبدون اي مشروعية, ويبقى الخيار الاوحد هو في نهوض معارضة نخبوية من خارج المنظومة الحكومية وأدعيائها لتؤسس محور قوي يستقطب الجمهور لتحييد السلطات الحاكمة باتجاه تأسيس مجلس من الخبراء والاستشاريين يأخذ على عاتقه اقرار (قانون ادارة الدولة) بعيدا عن التناقضات الدستورية والسلطات بمختلف مسمياتها دينية او قومية او قبلية وسيحدد القانون الصلاحيات الادارية والتنفيذية والتشريعية لكل العاملين في الدولة من اصغر موظف الى اعلى منصب فيها وسيحدد المسارات المهمة لرسم المنظومات القانونية التي تؤطر الانظمة الداخلية لمنع تداخل السلطات ومنح المؤسسات الامنية والخدمية سلطات اعلى كالمرور والشرطة والبلديات وسيكون تنفيذ هذا القانون لمدة سنة على الاقل ومن ثم يُستفتى الشعب بشكل الحكم والنظام الانتخابي الملائم في العراق وارساء قواعد النظام اللامركزي لكي يستطيع الشيعة والسنة والكرد من ادارة مناطقهم ولكن من ضمن مشروع الدولة العراقية, الشعب بات بأمس الحاجة الى حلول تنفيذية تنطلق من صولات فكرية وليس حلول تنظيرية تنطلق من صولات دعائية والعاب لا ياتي منها الا الخراب .