18 ديسمبر، 2024 6:03 م

أزمة الليبراليين المستعصية!

أزمة الليبراليين المستعصية!

نزل علىّ خبر منع اصطحاب أجهزة الكمبيوتر والآى باد للمسافرين إلى الولايات المتحدة وبريطانيا كالصاعقة، ليس فقط لأن فراق الصحاب صعب، ولكن للاعتماد الكلى عليها فى العمل، سواء للتواصل مع الزملاء فى القاهرة، أو لكتابة مقالاتى الأسبوعية.

الرحلة المعتادة لدىّ شهرية لمدينة هيوستون تكاد تستغرق يوما للوصول، ويوما آخر فى العودة، وخلال الساعات الطويلة بين الطائرات والمطارات فإن القراءة والكتابة تجعلان الرحلة ممكنة، بل أحيانا ممتعة، فلا مقاطعة هناك، ولا إزعاج من أى نوع، وإنما لحظات تنوير بين الهواء والهواء، وعلى ارتفاع ٤٠ ألفا.

وهكذا لم يكن هناك بد من اصطحاب الكتب كما عرفتها من قبل، ووقع الاختيار على كتاب كنعان مكية الذى صدر باللغة الإنجليزية باسم «الحبل The Robe»، وباللغة العربية «الفتنة»، وأهدانى كليهما الكاتب نفسه.

كتاب آخر اقتحم علىّ خلوتى قبل السفر لباسم يوسف، النجم التليفزيونى الشهير، صاحب برنامج «البرنامج»، بعنوان «الثورة للبلهاء، الضحك خلال الربيع العربى». قمت بإنزال الكتاب على «الآى باد» لكى يكون وجبة القراءة خلال رحلة العودة عندما أتخلص من السيطرة الأمريكية على الأجواء. وكنت قبل السفر، وربما بالصدفة البحتة قد قرأت دراسة للدكتور عمرو حمزاوى عن مصر، نشرتها مؤسسة «كارنيجى» الأمريكية، تحت عنوان «شرعنة السلطوية فى الشرق الأوسط»، وأكثر من ذلك شاهدت حلقة تليفزيونية لمقابلة بينه وبين الأستاذ يسرى فودة، تبادل كلاهما الحديث عن نفس الأمور التى جاءت فى الدراسة، بنفس المعتقدات والتوجهات التى تقال، كما لو كانت الحقيقة المطلقة.

هكذا وجدت نفسى غارقا فى بحر الليبراليين ونظرتهم لأحوالنا وتاريخنا الذى عايشته خلال السنوات الأخيرة بما كان فيها من حوادث فارقة، ربما كان أهمها: الغزو الأمريكى للعراق فى ٢٠٠٣، وما اصطلح على تسميته «الربيع العربى». كلاهما عشناه جميعا، وجرى تصنيفه وتحليله من زوايا متعددة يسارية ويمينية، ولكن ربما كانت القضية الأهم مما عشناه ذلك الذى نعيشه الآن، وما سوف نعيشه فى المستقبل. هنا فإن وجهات النظر ليست «أكاديمية» منشغلة بتسجيل الحقيقة، أيا ما كان معناها، وإنما هى موقف سياسى من أحداث جارية، كما أنها أكثر من ذلك، فهى حكم على ما سوف يأتى. ويكون الحال كذلك كلما كان الليبرالى مشتركا فى الأحداث الجارية ومتحملا قدرا من المسؤولية عما جرى، ولأن فلسفته فيها الكثير من المثالية المرتبطة بالحريات العامة، والدعوة المستمرة للنظام الديمقراطى، فإنه فى النهاية يقف لكى يسجل ويشرح وينقد، ولكنه فى نهاية الأمر يقع فى أزمة مستعصية على الحل ما بين الرؤى والواقع.

وللقارئ المصرى الذى لا يعرف كثيرا عن كنعان مكية، فربما يكفى فى هذا المقام ذكر أنه عراقى شيعى ولد فى النجف، وعاش حياته الأولى طفلا وصبيا فى العراق حتى فارقها إلى الدراسة فى الولايات المتحدة والتى انتهى فيها إلى أن يكون أستاذا لدراسات الإسلام والشرق الأوسط فى جامعة «برانديز» بالقرب من بوسطن. وهناك وجد نفسه جزءا من العراقيين فى منفى صدام حسين، والذين وجدوا أن الجهاد ضد ديكتاتوريته وطغيانه من الممكن أن يجعل بلادهم ضمن البلدان المتقدمة المتمتعة بالحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية. وكان جهاد «مكية» فى البداية هو أن يكشف للعراقيين والعالم عن الديكتاتور الأعظم من خلال كتاب ذاع صيته بعنوان «جمهورية الخوف»، ومن بعده عدة كتب وروايات أخرى، آخرها «الحبل» الذى كان بمثابة الحكم على ما جرى بعد الغزو الأمريكى للعراق والذى كان الرجل، مع آخرين، شريكا فيه.

كان الغزو بالنسبة لهم فتحا جديدا وفجرا مشرقا للعراقيين، لكى يلحقوا بالعالم المعاصر، ولكن الواقع الذى يناقشه الكتاب بادئا من لحظة شنق صدام حسين، ثم العودة إلى الخلف من الطفولة حتى الغزو حتى ما حدث بعده- أمرا مختلفا تماما. حقيقة الأمر كانت ما لخصه «مكية» فى اقتطاف من «زبغنيو هيربرت»، افتتح به الفصل الأول الخاص بإعدام صدام حسين:

«كان يا مكان فى قديم الزمان.. كان هناك طاغية بعيون صفراء وفك مفترس، يعيش فى قصر ملىء بالتماثيل والشرطة. اعتاد أن يستيقظ ويصرخ عاليا. لم يكن بين الناس أحد يحبه. كان الحاكم مولعا بألعاب الصيد والرعب، غير أنه كان يتظاهر بالطيبة، وكان يلتقط الصور مع الأطفال والورود. وعندما مات، لم يجرؤ أحد على رفع صوره. ألق نظرة حولك، ربما ستجد أنك تحتفظ بقناعِه فى بيتك».

دون الدخول فى كثير من التفاصيل فإن الحكمة من المقتطف السابق، ومن الكتاب الرواية كلها، أن اكتشاف مكية كان أن الأوضاع التى كافح ضدها معتقدا أن زوال صدام سوف يكفى لكى تتحرر العراق، ويحصل العراقيون على الحرية- لم يكن حقيقيا، وأن المسألة فى النهاية أن فى بيت كل عراقى كان هناك قناع لصدام!

لم يكن الرجل غريبا عن الشعب، ويبدو أن الشعب لم يكن غريبا عنه. كانت المفاجأة التى واجهت ليبرالية كنعان مكية أنه خلال محاكمة صدام، وخلال إعدامه، كشف العراقيون عن أقنعة لم تلبث أن تحولت إلى بحار من الدم. لم تكن الحرية والديمقراطية فى متناول اليد، وصار العراقيون ألعوبة للأمريكيين وللمذهب الشيعى ولإيران، ولحفنة كبيرة من المتطرفين السنة والشيعة لا فرق. «الحبل» كان رواية عن الندم للمشاركة فى كارثة تاريخية ربما جسده أن الحبل الذى شنق به صدام اختفى لأن شانقيه كانوا يريدون بيعه لمن يدفع أكثر.

الأزمة هكذا تراجيدية للغاية، ولكنها تعبر لدى كنعان مكية عن حالة متقدمة بكثير عن الليبراليين المصريين المشار إليهم أعلاه، الذين استعصت عليهم الرؤية ومعرفة الواقع، وما زالت رؤيتهم تعبر عن تلك الحالة الميكانيكية للعلاقة بين «السلطوية» لدى السلطة و«الحرية» لدى الشعب الذى لولا «الخوف» والقهر ما وصل الحال إلى ما هو عليه.

الغريب أن لدى كل منهم حالة غنية فى الواقع، كان من الممكن لو استمعوا إليها لتوصلوا إلى نتائج مختلفة.. باسم يوسف لم يستمع أبدا بجدية لتحذيرات والدته، أستاذة الجامعة المحترمة، من الاقتراب من الجيش، ولا استمع عمرو حمزاوى لتجربته فى حزب الحرية، ولا فى مجلس النواب الذى طالب فيه بعزل «الفلول» عن الحياة السياسية، ولا شاهد يسرى فودة واقع الحالة الإعلامية التى لم تدفعه أبدا للتساؤل: لماذا حدث ما حدث؟!

بشكل ما فإن ثلاثتهم سواء كانوا فى مصر أو خارجها بعيدين بعد السماء السابعة عن الواقع وتفاصيله وتعقيداته. كانت العلاقات دائما بسيطة وقطبية، وهناك حمامات كبيرة لغسيل العقول بالدعاية، سواء كانت الدينية أو الوطنية، لم تكن هناك أبدا أزمة فى التواصل، ولا كانت هناك ظاهرة عميقة للتخلف، ولا كان هناك أحيانا إرهاب حقيقى قاتل ومروع، ولا كان هناك فى النهاية شرق أوسط لم يسأل أحد أبدا بجدية عن المسؤول عما آل إليه من تفجير، وهل كان ذلك نتيجة لولع أمريكى بالفوضى «الخلاقة»، أو لهيمنة سلطة عسكرية أو دينية، أو أن هناك مسؤولية كبرى واقعة على فشل مدنى لم يعرف كيفية الاقتراب من الأمة التى أعياها التخلف والتراجع، ولكن أحدا لم يقدم أبدا وصفة بديلة وعملية ومتوافقة مع العصر للخروج. لم يكن هناك شىء اللهم إلا حالة مروعة من الشكوى والبكاء على الأطلال الليبرالية والديمقراطية.

كان كنعان مكية أكثر شجاعة من أقرانه المصريين، ليس لأنه ندم على ما كان، وإنما لأنه على الأقل أدرك الحدود التى تصل إليها الليبرالية فى بلادنا، وأنها على أهميتها تحتاج قدرات ليبرالية لم ينجح الليبراليون أبدا فى توفيرها والذود عنها. مثل ذلك لن تجده لا فى كتاب باسم يوسف، ولا دراسة عمرو حمزاوى، ولا حلقات يسرى فودة.
نقلاً عن “المصري اليوم”