الطريقة التي جرى بها التعامل مع القانون الجديد جعلت الكثيرين يتصورون أن النظام يريد تقليص نفوذ القضاة وكسر شوكتهم، مع أن القضاة متهمون بالانحياز للنظام وأصدروا أحكاما قضائية ذات طابع أو مضمون سياسي.
العالم ببواطن الأمور في مصر يعرف أن القضاة يحصلون على مزايا مادية ومعنوية عديدة، وربما يكون هذا مقبولا ومفهوما لجهة طبيعة مهمّتهم التي تستوجب أن تتوفر للقاضي مزايا تبعده عن العوز والحاجة وتجنّبه الشبهات، ومثل كل مهنة بها نماذج شاذة وخارجة عن القانون، وفي حالة القضاة تظل ضئيلة مقارنة بغيرهم.
الحالات القليلة، عندما يتم النفخ فيها وتعمُّد تضخيمها توحي بأنها ظاهرة عامة وسط هذه الفئة، وتقود إلى انطباعات تشي بأن “القضاة مرتشون وفاسدون”، وهذا عكس الحقيقة تماما، فالأغلبية منهم على درجة عالية من النزاهة، ومعروف أن القضاء المصري عبر تاريخه الطويل مستقل ويملك صفحات وطنية ناصعة.
خلال الأيام الماضية، تم تسليط الأضواء بكثافة على القضاة، فبعد تجاوز أزمة الأحكام الجنائية على قيادات وأنصار جماعة الإخوان المسلمين العام الماضي، جاء الصدام بينهم وبين البرلمان المصري عقب قيام الأخير بإصدار قانون يمنح رئيس الجمهورية صلاحية اختيار واحد من بين كل ثلاثة يرشحهم القضاة لتولي رئاسة إحدى هيئاته (محكمة النقض ومجلس الدولة ومحكمة الاستئناف) بدلا من التصديق على مرشح وحيد يقدمه القضاة أنفسهم.
التعديل الذي أجراه البرلمان وصادق عليه رئيس الجمهورية الأسبوع الماضي يبدو هامشيا، لكنه أوجد شعورا عند الكثيرين بأن هناك استهدافا للقضاة، وأن قبضة الدولة قوية، وسوف يتم نزع الريشة الموضوعة فوق رؤوسهم، والتي جعلت البعض يرسّخ في ذهنه أنه ممنوع الاقتراب منه وهو قبل القانون الذي يقوم بتطبيقه. الطريقة التي جرى بها التعامل مع القانون الجديد جعلت الكثيرين يتصورون أن النظام يريد تقليص نفوذهم وكسر شوكتهم، مع أن القضاة متهمون بالانحياز لجهة النظام وأصدروا أحكاما ذات طابع أو مضمون سياسي.
الواضح أن المسألة لا تتعلق باستهداف من هنا أو عقاب من هناك ونابعة من خصوصية معيّنة ترمي إلى توسيع نطاق الاختيار وضبط أوجه خلل معينة، ولا علاقة لها بالأحكام وعمق التسييس فيها من عدمه، لأن الجزء الأخير معمول به في غالبية دول العالم، وفي مصر دوائر قضائية على علاقة بالنظام، كما أن ضروريات الأمن القومي تلعب دورا في هذا السياق، ناهيك عن أن القانون المصري “مطاط وحمّال أوجه” ويحتاج إلى ثورة تشريعية.
الأجواء العامة في المجتمع ساهمت بدور كبير في زيادة نسبة الاحتقان وجعلت قطاعا من المواطنين غير متعاطفين مع القضاة، فثمة شعور في المجتمع بأن هؤلاء يسيطرون على هذه المهنة ويتحول أبناء القاضي إلى قضاة أيضا، وبدا الأمر يشبه الاستئثار والاحتكار، ما أثار ضغينة الكثير من البسطاء الذين يحلمون بدخول هذا الفضاء لكن ظروفهم الاجتماعية لم تسمح لهم بذلك، وعبّر عن هذا المعنى أحد وزراء العدل السابقين عندما قال “ابن العامل لا يمكن أن يكون قاضيا”.
نعم تمت إقالة الوزير وإطفاء النيران التي أشعلها تصريحه المعبّر، لكن ظل العُرف المعمول به ساريا، فكان من الطبيعي أن يفقد القضاة التعاطف الشعبي معهم وكل تحركاتهم أصبحت قاصرة عليهم، كما أن هناك فئة داخلهم من الصعب الاستهانة بها للموافقة على تعديلات اختيار رؤساء الهيئات القضائية، وبالتالي ربحت الحكومة والنظام برمته من هذه الجولة مرتين. مرة بالانحياز للمجتمع الرافض لأسلوب الصفوة – القضاة وتلبية كل الرغبات وعدم الانصياع للاحتجاج الذي صدر عن القضاة، ومرة بتوسيع دائرة الاختيار بينهم وعدم الاقتصار على اسم محدد، قد يكون معارضا وتمنحه أقدميته فرصة اعتلاء أعلى منصب لأي من الهيئات القضائية، وهنا تزداد المشاكل خاصة أن التجربة كشفت بعض الثغرات المصاحبة لهذه الطريقة، كما أن الفترة المقبلة سوف تشهد إجراء انتخابات رئاسية تستوجب اختيار رئيس جديد لمحكمة الاستئناف لرئاسة اللجنة القضائية المشرفة عليها.
البعض من المراقبين يرى أن الغرض من التعديلات الأخيرة هدفه اختيار مشرف قضائي موال على الانتخابات الرئاسية المقبلة، لكن هناك من يعتقد أن هذه المسألة غير مؤثرة بقوة، لأن الحكومة تملك أدوات مختلفة لتحقيق أغراضها وبأي طريقة ومتى شاءت، ورئيس اللجنة الانتخابية مهمته إشرافية أصلا.
النتيجة التي يمكن الوصول لها من الجدل الدائر بين القضاة من جهة وكل من البرلمان والرئاسة وقطاع كبير في المجتمع تقول إن هناك إجراءات أخرى قادمة، من قبيل خفض سن التقاعد للقضاة من سنة 70 سنة إلى 60 سنة، وتسهيل إجراءات التقاضي، ورفع المستوى العلمي لمن يريدون الالتحاق بالقضاء لقطع الطريق على أبناء القضاة الفاشلين الذين يدخلون هذا المجال بالوراثة.
اللافت للانتباه أن القانون الذي أقره البرلمان جرت الموافقة عليه بصورة سريعة، كما أن التصديق عليه من رئيس الجمهورية تم كذلك، وهما من العوامل التي أثارت علامات استفهام وتكهنات لدى البعض، فالتعجيل غرضه التعجيز ومنع القضاة من اتخاذ إجراءات تصعيدية تشبه ما أعلن عنه بشأن التفكير في الامتناع عن دخول المحاكم، وعدم إحراج رئيس الجمهورية الذي رضي القضاة بالاحتكام إليه.
وفي حالة موافقة رئيس الجمهورية على رغبة القضاة وعدم التصديق على القانون، يكون رئيس الجمهورية قد وضع نفسه في مواجهة البرلمان الذي أصدر القانون وهو على يقين من سلامته، لأنه جاء بتوافق مع الحكومة، علاوة على أن إقدام الرئيس المصري على خطوة مثل إعادة القانون للبرلمان مرة أخرى لن تسمن أو تغني من جوع.
ولم يكن أمام رئيس الجمهورية سوى رفض القانون أو قبوله، وفي الحالة الأولى سيكون عُرضة لما يشبه الابتزاز من قبل هيئات مختلفة تعترض على قرارات البرلمان، ولأن القوانين المطلوب سنّها أو تعديلها كثيرة، فسوف تزداد الأزمة خطورة ويظهر البرلمان في صورة العاجز عن مواجهة صلاحيات رئيس الجمهورية. الأزمة الحقيقية ليست بين البرلمان والقضاة، لكنها في محاولة ضبط أوجه الخلل في الكثير من المؤسسات التي تأقلمت مع الواقع بكل سلبياته، وعندما يتم الاقتراب من الإصلاح تحدث مواجهة مريرة، لأن الشك في الأهداف والنوايا حاضر، فلا أحد يعرف هل التدخل في الوقت الراهن يرمي إلى تصويب الأخطاء أم توسيع صلاحيات جهة على حساب أخرى؟
في كل الحالات من المتوقع المزيد من الصدام لأن الهزة التشريعية الناجمة عن إعادة النظر في الكثير من القوانين يمكن أن تؤدي إلى الارتباك بصورة تتجاوز أزمة القضاة.
نقلا عن العرب