من دون شك إن المتتبع لمسيرة وعمل تجربة حركات وأحزاب الإسلام السياسي الشيعي بالعراق وفي مقدمتهم حزب الدعوة الإسلامية منذ استلامها مقاليد السلطة بعد عام 2003، سيتأمل في الثمن الفادح الذي دفعه ومازال يدفعه الشعب العراقي بسبب التعثر الواضح في مسيرة هذه التجربة، بل يدرك الجميع أن الأحزاب الإسلامية الشيعية في العراق تعاني من أزمة منهجية عميقة تشل عملها، وتعوق وصولها إلى الغاية. وهو أمر عبر عنه الكثير من قيادات تلك الأحزاب، وبالتالي سنصل إلى نتيجة مهمة جدا وهي (أنهم يجيدون صناعة الخراب أكثر مما يجيدون صناعة البناء). في الوقت نفسه لا ينبغي أن نغفل في تحليلنا لهذه التجربة السيئة التي نحن بصددها بأن أغلب قيادات هذه الأحزاب تلقوا تعليما جيدا عن الفقه الشيعي وذلك لفترات غير قصيرة في أعمارهم، بل أن بعضهم له تاريخ من تبني الفكر السياسي الشيعي واعتناقه ثم تحول بعد ذلك إلى رمز وعنوان، فأصبحت خصوصيته الفريدة بأنه (قيادي إسلامي شيعي). هذه الصفات الثلاثة تحديدا أسهمت في تشكيل هويته الفريدة التي تُميز بينه وبين النسخ الجديدة من السياسيين الشيعة الذين يشاركونه في الفعل والأثر وكذلك العناصر المكونة للهوية.
وبالعودة للصيرورة التاريخية في مراحل تطور الفقه السياسي عند الشيعة، وما هو موقف التنظيمات الإسلامية السياسية الشيعية من الدولة الوطنية، نلحظ الاختلاف والفارق الكبير ما بين الماضي وبين اليوم. فالسلطة في المجال الإسلامي الشيعي هي (ولاية)، بيد أن أهم مرحلة من مراحل تطور الفكر السياسي الشيعي كان في بداية القرن الرابع الهجري، حيث شهدت هذه المرحلة إقرار الدستور ووضع مبادئ تقييد سلطة الملوك والحد من صلاحياتهم المطلقة، بالإضافة إلى أن من أهم مميزات هذه، وهي تطبيق الحرية والعدالة والمساواة والحقوق العامة ومبدأ الفصل بين السلطات. ومن ثم مرحلة عصر الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث يعتبر الخميني أول فقيه في التاريخ الشيعي ينجح في تأسيس دولة.
فهل طبقت الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية هذه المبادئ، وهل نجح قادة هذه الأحزاب في تأسيس دولة بالعراق مثل إيران؟
وإذا عدنا إلى المرجع الديني الشيعي والمفكر والفيلسوف (محمد باقر الصدر) الذي يعد أبرز مؤسسي حزب الدعوة الإسلامية ومنظري أفكاره، فقد أكد الصدر في كتابه بعنوان (الإسلام يقود الحياة) ص10″ إن النظرية الإسلامية ترفض الملكية أي النظام الملكي وترفض الحكومة الفردية بكل أشكالها وترفض الحكومة الأرستقراطية وتطرح شكل للحكم يحتوي على كل النقاط الإيجابية في النظام الديمقراطي مع فوارق تزيد الشكل موضوعية وضمانا لعدم الانحراف فالأمة هي مصدر السيادة في النظام الديمقراطي وهي محط الخلافة ومحط المسؤولية أمام الله في النظام الإسلامي، والدستور كله من صنع الإنسان في النظام الديمقراطي”.
وفي لحظات مثالية وبحسب رأي الصدر تتحكم الأكثرية في الأقلية، بينما تمثل الأجزاء الثابتة من الدستور شريعة الله تعالى وعدالته التي تضمن موضوعية الدستور وعدم تحيزه. فالشريعة الإسلامية عبرت عن العدالة بكل وضوح والتي تمثلت في وضع مبدأ الملكية العامة وملكية الدولة.
فهل استطاع حزب الدعوة الإسلامية عند تسلمه بل اختطافه للسلطة في العراق أن يترجم مبادئ وأفكار محمد باقر الصدر؟
والحقيقة المهمة التي سادت الفكر الشيعي تتمثل في خلافة الإمام (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه وأرضاه، حيث يعدون فترة حكمه المثل الأعلى للحكم الإسلامي الكامل وأنه ينبوع للحكمة السياسية.
فهل تعلم أباطرة الإسلام السياسي الشيعي بالعراق شيئا من سيدنا علي بن أبي طالب؟
وإذا اعتبرنا أن قيادة العراق من قبل الإسلام السياسي الشيعي بعد عام 2003، هي نقطة انطلاق هذه الأحزاب نحو تفعيل دورها في محيطها الوطني والإقليمي، فمن المهم الإشارة إلى أن هذه المرحلة تزامنت مع ظهور برامج ورؤى جديدة للتعاطي مع القضايا الإسلامية الخطيرة والمهمة في منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا كان يجب على قادة العراق الشيعة أن يقومون بدورهم في عملية التغيير، حيث برزت إلى الحياة الاجتماعية مفاهيم وأساليب وسلوكيات جديدة أو تكاد تكون جديدة داخل المجتمعات الإسلامية، خاصة وأن هذه المجتمعات لها ارتباط قوي بالدين الإسلامي.
وتأسيسا لما تقدم، يتضح النقص الواضح في الوعي، والجمود والتلبد، بالإضافة إلى التخلف التنظيمي وتخلف الثقافة السياسية في تجربة حكم الإسلام السياسي الشيعي بالعراق، وبمرور الزمن سوف يضحى الإسلاميون الشيعة في العراق مجرد أسرى لصورة تاريخية بائسة من القيادة، بعد أن حولوا مبادئ الإسلام العظيمة كالشورى والعدالة والأمانة والطاعة إلى شعارات مجردة.
لقد أصيبت تجربة الإسلام السياسي الشيعي في العراق بداء (الكلام) الذي لا يولي اعتبارا للواقع العملي، بل ينشغل بالتغني بالمبادئ الجليلة، ونتيجة لهذا استطاع قادة هذه الأحزاب أن يريحوا ضمائرهم من خلال شعاراتهم وأهدافهم، تلك الشعارات والأهداف التي أصبحت من شدة ضخامتها مبهمة، وبالتالي فقدت تحولت تجربة الإسلام السياسي الشيعي في العراق إلى مدرسة كلامية فقط لا تسعى للتغيير.