تمارين ” هرمجدّون *”
– السياسة بمثالبها وأمراضها ، تفرغ المصطلحات من مضامينها فتستبدل الأخلاق كسلوك متحضّر ، ب” البراعة ” النفعية ، والقيم كمعيار ، بالثمن كامتلاك ، والصدق كجرأة ، بالرياء كضرورة .
– ممارسة السلطة بأركان ثلاثة : حفرة للمتمردين ومتراس للشعب وهراوة للمعارضين
– المأساة فيلم وصورة ، وأعداد الضحايا مجرد أرقام ، تحضيراً للحدث الأعظم .
– فشل السياسية طريقاً لنجاحها ، والسياسي الأكثر فشلاً هو الأثبت موقعاً والأكبر ثروة في : براعة الفشل .
– لاقيمة لمصطلح يفقد مضمونه .
– بدأت السياسة من العراق ، وتموت في العراق ، مصحوبة بقيم ومفاهيم أخرى .
” نهاية التاريخ ” نهاية الإنسان التاريخي ” نهاية المأساة ” تلك نهاية ثلاث شغلت علماء الإجتماع والمفكرون وتداولوها بحثاً وتنظيراً .
حديث “النهايات ” كان قد افتتحه المفكّر الأمريكي فرنسيس فوكوياما الذي رأى إن التاريخ تصنعه الصراعات ، ولما كانت الرأسمالية قد حققت انتصاراً كاسحاً لم يعد فيه من مجال لصراعات متكافئة أو بتصور كلّ طرف فيها انه يمتاز بالتفوق حسبما عرفته الحقب الماضية – خاصة في ظلّ ماعُرف بالحرب الباردة – رغم إن المنتصر لايبقى هو ذاته ولا المهزوم كذلك ، لكن النتيجة التي انتهى إليها الصراع، جعلت الأطراف المنافسة تفقد إمكانية التكافؤ ناهيك بالإنتصار على الرأسمالية بمنتوجها الحضاري وتفوقها الهائل ، لذا يتوقّف التاريخ ” بمفهومه القديم ” مجسّداً لحظة الإنتصار الكونية تلك ، وبالتالي لن يعود إلى سلوك الطرق ذاتها في تسجيل الأحداث والتحولات الكبرى التي اكتمل عقدها بإنتصار الرأسمالية على اعتباره نهائياً شاملاً ومستمراً ،أما مايتبع ذلك ، فلايتعدى كونه أشبه بمتكررات لحوادث لاتدخل كفصول رئيسة ومهمّة في التاريخ كما كان عليه الأمر طوال العصور الماضية .
استتباعاً لذلك ، فإن الإنسان الذي يدخل في صلب الأحداث ويغير في مساراتها ، معرّض ” للإنتهاء ” كذلك بصفته المذكورة ، وبالتالي فالإنتصار الرأسمالي سيحوّل في شكل الصراع إلى أنماط أخرى لن تكون بين الدول والأمم هذه المرّة ، بل بين الإنسان والمكتشفات العلمية التي ستضفي على الحياة إيقاعات جديدة ورفاهية أكبر ، لكن الإستحواذ عليها أو احتكارها ، ستحتاج بدورها إلى قدرة مستدامة ليس في صنع الحضارة وحسب ، بل في السيطرة على مناسيب الحياة وتوجيهها ومن ثم التحكّم في مساراتها ووضع منهجياتها .
ارتقاء الحضارة إلى ذرى متسارعة في تقدمها،سينهي بدوره ما اصطلح على وصفه بالمأساة ، ليس بمعنى إن السلام سيعمّ بين البشر وتنتهي الحروب والإضطرابات ، بل في تحوّل المأساة إلى مجرد صورة منقولة على وسائل الإعلام تشاهد كما فيلم سينمائي أيّاً تكن مقدار بشاعتها وقسوتها،فالصورة الإعلامية قد ضخت ما يكفي من كلّ أنواع المآسي الواقعية منها أو المتخيلة ، وبالتالي جعلت البشر يصابون بنوع من المناعة ضدّ التفاعل مع المأساة ، وهو ما يعطي مصداقاً للقول في هذا الصدد ، إن قتل إنسان فرد بسكين مثلاً ، قد يحتاج إلى تجاوز موانع إخلاقية كثيرة خاصة في المرّة الأولى ، لكن قتل آلاف من البشر بكبسة زرّ واحدة ، لايحدث ردّة فعل كبيرة عند القائم به ،فالمأساة التي يخلقها هنا ، هي مجرد صورة قد تترك تأثيرات لحظوية بنسبة ما ، لكنها ليست كمثل جسد حيّ نقوم بطعنه ، وبما قد يحدثه ذلك من تأثير في القاتل قد ينعكس على مجرى حياته بشكل كبير ، وربما لهذا تلجأ بعض الأكاديميات العسكرية المتخصصة إلى بدء تدريباتها في القتل بواسطة البندقية كي يبقى المقاتل بعيداً عن الهدف نسبياً ، ثم يتعلم القتل بالمسدس ليكون أقرب ، وأخيراً بواسطة السكّين بعد تمرّسه بتمرينات القتل .
واحدة من سلبيات الحضارة – أو ربما إيجابياتها المستقبلية – إن ثورة الاتصالات التي جعلت من العالم قرية كونية واحدة على مايُقال ،دفعت الشعوب على أن تكون مشاركة في الجريمة ، بل وقد يدعو بعضها إلى المزيد أو يشجع حصول المأساة في شعوب أخرى لمجرد الإثارة أو للتخلص من ” الأفواه الزائدة ” التي باتت تعيق تطور الحضارة أو تشكّل خطراً عليها ، خاصة بعد أن تجاوزت تلك الأفواه مانسبته 80% من مجموع سكان الأرض.
وهكذا تتحول أعداد الضحايا من البشر تدريجياً، إلى مجرد أرقام إحصائية لاقيمة لها بذاتها، أما المدن المدمرة والركام الداخن والأشجار المحترقة ، فلا تختلف كثيراً عما تنتجه هوليود من مشاهد وأفلام ، لكن الأمر هنا أكثر إثارة باعتباره يحدث على الطبيعة والأبطال فيه يموتون حقيقة وليس مجرد تمثيل يعودون بعده إلى أداء أدوار أخرى ،لكنهم هنا مجرد قتلى لاينالون سوى الموت المجاني والقبور المجهولة ، من دون الشهرة والأموال الطائلة مما يحصل عليه الممثلون ، إنها لعبة الحرب ونهاية المأساة التي تدفع باتجاه “هرمجدون” فاصلة يجري الإعداد لها والتدرب على حصولها بطرق عديدة ومشاهد متكررة درجة الإدمان .
لكن النهايات لن تتوقف ، فكل نهاية تتبعها أخرى ،وإن كانت لاتعني انتهاء الفعل ذاته ، بل تحوله إلى أشكال جديدة كما أسلفنا .
سلسلة من النهايات تشي باقترابها ، يأتي في مقدمها :السياسة – الثقافة – المصطلح – القيم .
السياسة كسلوك طالما اعتاشت على مصطلحات ثلاثة : حفرة للمعارضين قد تأخذ شكل تهمة ملفقّة أو فخّ ينصب بدهاء لإيقاع مايخشى من تنامي قوتهم على السلطة ، وحفرة لوعود من سلطة تطلق كلاماً وتدفن واقعاً ،تلك هي أولى مرتكزات السياسة في الأنظمة الفاسدة ، أما ثانيهما فهو المتراس ينصبه الحاكم بوجه شعبه ويتوثب من خلاله لتوجيه الضربة لكل من يحاول الإقتراب منه حتى لوجاء طالباً أو شاكياً أو راجياً ، فالسلطة بمثابة متراس كل مابعده يقع في ” أرض مقدسة ” لايجور النظر إلى ماتحويه أو التفكير بمساءلة صاحبها المالك.
الهراوة بدورها كانت الركن الثالث في ممارسة السلطة نظراً لما ترمز إليه في ممارسة القمع ، إنها سلاح يلحق أذى جسدياً دون القتل غالباً، لكنها ذات تأثير معنوي دائم الحضور ، ولايفوقها في ذلك إلا السوط الذي يعتبر من رموز العبودية لما يسبب استخدامه من انعكاسات نفسية كبيرة إضافة إلى مايوقعه من آلام مبرّحة في الجسم ، من هنا يأتي الحرص على استخدام السوط لتعذيب السجناء بتهم سياسية للإشارة إلى أن هؤلاء مجرد عبيد يُعدّون جزءاً من أملاك السلطة بإمكانها التصرف بهم كما تشاء ، تمنحهم الحياة إذا أحسنوا خدمتها وتقتلهم عند مطالبتهم بالحرية ، ورغم ان الهراوة والسوط من الأدوات البدائية في استخدامات السلطة التي أدخلت وسائل قتل وتعذيب أكثر نجاعة وفاعلية ، الا أنهما مازالا حاضرين بصفتهما الرمزية .
مسار الدولة عبر التاريخ ، يشير إلى أنها شهدت خمسة أطوار رئيسة تتكون حسب ” ثيمتها ” الأساس من :
– دولة الجماعات (ملكيات المدن ، الملكيات الكبرى ، الإمبراطوريات ) .
– دولة الأديان والمعتقدات (إمبراطوريات ، خلافة ، سلاطين ، ممالك ) .
– دولة الطبقات (جمهوريات ثورية ، آيديلوجيات قومية) .
– دولة المجتمعات (ملكيات دستور ية ، جمهوريات ديمقراطية )
ولما كان الشكل الأخير هو الديمقراطي الوحيد من بينها ، وبعد أن أدّتْ التطورات اللاحقة إلى تحوّل الشعوب من مجتمعات إلى مجتمعيات (1) فيما يشبه العودة إلى المنطلقات الأولى للتشكّل المجتمعي ماقبل الدولة، لذا تواجه الديمقراطيات بدورها واقع تحولاتها البنيوية المتعلقة بواقع الدولة ذاته ، لكن فيما يحاول المفكرون وعلماء الإجتماع إعادة تعريف لمعنى الدولة الجديدة ومن ثم مهماتها تبعاً لذلك ،ينبري القادة السياسيون لإعادة انتاج الدولة بتعديلات إجرائية تعيد (إلتهام) الشعوب على مقاس طالب السوربون .
هكذا فعل بوتين الذي لا يُنكر عليه إنه إستطاع إنهاض روسيا وإعادتها من ثم إلى هيبتها بعد أن كادت تتهاوى ، لكن إنجازاته اتخذت ذريعة لنمو نوع جديد من الدكتاتورية يمكن تسميته بـ “الديموكتاتورية” وهو نظام يزاوج بين أب دكتاتوري وأمّ ديمقراطية ليستولد مخلوقاً هجيناً يحقن بمغذيات تستلهم الشعارات الثورية الكبرى ويُقدّم من ثم باعتباره إرادة شعب ونزولاً عند حكمه،فإذا كانت الدولة الشيوعية بصيغتها القديمة قد طرحت دكتاتورية الطبقة ” البروليتاريا” شعاراً ، ودكتاتورية الحزب ممارسة ، فإلتعديل الجديد يقتضي طرح دكتاتورية الشعب شعاراً ، ودكتاتورية الشخص ممارسة ، وهكذا يستطيع ذلك المولود ” الديموكتاتوري” أن يفصل مجدداً بين الشعب – برغبته – والجماهير بالتفافها، فالشعب (2) هم عموم المواطنين الذي قد يخرج من بينهم مطالبون بالحرية، أما الجماهير ، فهي تلك الجموع المنتمية إلى أو المؤيدة أو المحبذة لمجيء ذلك المولود والمقتنعة بضرورته أو المنتفعة بوجوده، لذا تصبح هي صاحبة الدولة وحاضنة الدكتاتورية .
صحيح إن ذلك “الهجين ” بذاته ليس جديداً، فقد عرفته الأنظمة العربية المتساقطة أو التي مازالت صامدة ومارسته على نطاق واسع، لكن الحرص على إظهار الأمّ لم يكن يعنيها كثيراً حيث تأتي النتائج 99% لصالح الأب “الدكتاتور” وحده، أما التجربة البوتينية، فلم تتجاهل الأمّ (الديمقراطية) بل حرصت على إبقاء صورتها في المشهد العام، شرط أن تكون صامتة عاجزة، تفعل طبق مايقال لها أو ما تؤمر به .
لقد أصبحت تلك التجربة، مدرسة جمعت بين خمس دول مختلفة أنظمتها عقائدياً (شيوعيان وإسلاميان وقومي) لكنها اتفقت على شعار مشترك (دولة مقدّسة – شعوب مدنّسة) فجميعها تؤمن أن شعوبها لا تعرف الديمقراطية ولا تستحقها كذلك، إذ إن صيغة كهذه، من شأنها أن تفعّل المؤامرات وتمزّق وحدة البلاد، وهاهي التجارب ماثلة في مقدار الخلافات العميقة والأزمات المستعصية في البلدان التي انهارت دولتها المركزية (العراق ، مصر ، ليبيا ، تونس) ألم يقل أديب روسيا الأكبر دستويفسكي على لسان بطل إحدى رواياته: (الحرية عبء ثقيل، أعطها لإنسان غير مهيأ لها، يردّها إليك شاكياً من ثقلها) وعلى ذلك يريد حكام الديمقراطية الجدد، استرداد الحرية التي نالتها شعوبهم ، لكن ذلك لن يكون متيسراً إذا لم يجر تعديل يضمن لهم البقاء في الحكم بصيغة (أمّ ديمقراطية وأب دكتاتور) لذا عليهم أن يكون جزءاً من معسكر يحيطهم بسياج حام ، أو أن يتخذوا من الإجراءات ما يكفل لهم ذلك ، وعلى هذا اجتمع معسكر مؤلف من :
الصين : قيادة حزبية بتوجهات فردية.
روسيا : قيادة فردية ب” ديموكتاتورية” حزبية .
إيران : قيادة دينية بهيمنة فردية
العراق: قيادة محاصصاتية بثيمة/ قراطية ( ثيمة من (تايما) وتعني في اللاتينية الشيء الذي نضعه أي الموضوعة ) والثيمة هنا هي الشخص الذي يتحول إلى الموضوع المحوري للديمقراطية .
سوريا : دكتاتورية فردية بغلالة حزبية .
أما الصنف الآخر، فقد تمثل برئيس مصر محمد مرسي الذي أعلن سلسلة من الإجراءات أمسك بموجبها بالسلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية ) وبالتالي ضمن التحكّم بنتائج أية إنتخابات مقبلة ، فيما سيرّت جماعته مظاهرات صاخبة تأكيداً لمبدأ ال” ديموكتاتورية ” .
إشتقاقاً من ذلك ،قد تكون السياسة هي المرشح الأبرز لدخول نادي النهايات قبل غيرها،وقد يكون العراق هو الموقع المكاني الأكثر وضوحاً لظهور تلك النهاية ، فالسياسة بتعريفها الذي مازال معتمداً باعتبارها فن إدارة الممكن في ظلّ المتغيرات ، آلت في العراق مثلاً إلى مايمكن تعريفه ب ” فن إدارة الفساد في ظلّ الثابتات ” بل لقد صار الفساد ” مدرسة ” يمكن أن تتخرّج منها أجيال من ” المبدعين ” في فنّ كهذا ، فالفساد ثروة بذاته ، وكما تورث الثروات ، كذلك يتوارث الفساد ، لذا فبقاء الأوضاع على حالها ، يمكن أن يدخل كذلك في ” نهاية المأساة ” ، وهو مايتعزز حضوره باستمرار عبر ماتورده وسائل الإعلام من فضائح الفساد ،الأمر الذي بات كفيلاً بجعل الشعب يدمن تلك الحالة ومن ثم يصاب بالمناعة عن مقاومتها لأنها أصبحت جزءاً من حياته .
ليس ذلك نعياً للسياسة كما تمارس في ظلّ ” الديموكتاتوريات ” ولا نقداً لها كذلك ، بل هو وصف حرّفي يشمل مفاصل بنيوية أساسية بكلّ تفاصيلها وآلياتها .
الفساد حينما يتحول إلى داء عضال ،يصبح السؤال عن ماهيته وانعكاساته العملية والأخلاقية ، هو بمثابة إدانة أكثر من كونه بحثاً عن إجابات يفترض أن تقدّمها الثقافة التي دخلت بدورها طور الإحتضار ، خاصة بعد أن تخلّت عن الإنسان ، فلم يعد محورها ومنطلقها الأول ولا في مقدار ماتحمله المشاعر من دفء مبعثه فضاءات الجمال والقيم ،بل بدأت الثقافة بالإنزياح نحو عوالم القتل ودهاليز السياسة وبهرج الصورة ، لذا لاغرابة في رؤية مثقفين “يبرعون ” تحليلاً وتبريراً لدكتاتور أمعن قتلاً في شعبه ، أو لإرهابي يفتك بأطفال .
الحديث عن الفساد ، ليس إيراد مصطلح يعني إقدام موظف أو مسؤول على جمع المال بطرق غير مشروعة ، ربما تلك أبسط مظاهر الفساد وأسهلها ، لكن الأخطر في الموضوع أن يصبح الفساد مصدراً للكفاءة ومكوناً للقيم وباعثاً للنفوذ والموقع الإجتماعي في الوقت عينه .
في كلّ ماشهده التاريخ البشري، لم يحدث مرّة أن انقلبت المعايير على هذه الشاكلة ،فقد تعارفت الشعوب على أن التبعية بعمالة صاحبها أو عبوديته ، والفساد بسقوط صاحبه الأخلاقي وعدم جدارته بحمل الأمانة ، هما رذيلتان
خطيرتان يعرضان أصحابهما للمحاكمة بوصفهما جريمتان مخلّتان بالشرف ، وبالتالي تلتصقان بحاملهما كفاقد للأهلية وإن أدّى العقوبة ، كذلك هي المرّة الأولى في التاريخ ربما – أو إحدى المرّات النادرة إن شئنا الدقّة – التي يصبح فيها الفشل في المهمة ،مقياساً للنجاح فيها ، وكلما إزداد السياسي فشلاً ، إزداد نفوذاً في الموقع وتراكماً في الثروة ،ضمن معادلة شديدة الغرابة .
لم يسبق للواقع السياسي العراقي حتى في أشدّ عصوره ظلاماً وانحطاطاً ،إن شهد انحساراً شاملاً وشبه تامّ – أقلّه بالمقياس الاجتماعي – للقيم المعيارية كما هي اليوم ، فقد كانت المعايير ترتفع أوتنخفض تبعاً للحالة والظروف المحيطة ،لكنها بقيت تسجّل حضوراً نسبياً بشكل ما ، لذا لم تكن التبعية واجباً والفساد مهارة يكشف مرتكبهما عن وجهه بشكل سافر كما صارتا إليه .
العرض أعلاه يقود إلى الاستنتاج إن السياسة التي بدأت في العراق قبل أكثر من ستة آلاف عام ،قاطعة سلاسل طويلة من المنحنيات والمراحل والأطوار ،تشهد بدايات موتها إبتداء من العراق ، ذلك يعني موتاً إلحاقياً لمفهومين آخرين هما: المصطلح السياسي ، والقيم الأخلاقية .
المصطلح بتعبيره عن مفهوم محدد ، يعتبر من أهمّ أدوات الفكر وأكثرها قدرة في الإظهار عن مكنوناته ،لكن المصطلح إن لم يستخدم بدّقة ، فإنه قد يثير من الإلتباس مايحرف الفكرة عن مضمارها وينقلها من ثم إلى معان أخرى ليست هي المقصودة ، ولأن السياسة من أكثر المصطلحات استخداماً – كما الأخلاق والقيم والإستقامة والحقّ والفكر والشعب والأمة وماشابه – لذا فإن الإشكالية التي رافقت كلّ من المصطلحات المذكورة ، تظلّ قائمة في كونها – المصطلحات – متطابقة في التعبير مختلفة في التفسير ، إذ لايكاد يتفق إثنان على معنى جازم لأي منها ،ورغم ذلك بقيت هناك ملامح جامعة – وإن بعمومياتها – تربط بينها كمفاهيم مطلقة .
لكن المصطلحات ذاتها ستشعر بالغربة عن نفسها عندما تستخدم لمفاهيم أخرى مختلفة تماماً عمّا ألفته أو كانت عليه ، فالسياسة التي ينبغي أن تكون “مهنة ” المبدعين نظراً لأهميتها وانعكاسها المباشر في حياة الناس وتحديد مصائرهم – أفراداً ومجتمعات – تحولت إلى مهنة العاطلين غير المهرة ، لكن المتشابهين مع إقطاعيي العصور المظلمة : تخمة دون شبع وكسل دون حركة وفائض دون حاجة ، وكما كان تأثير أولئك على الناس كارثياً لتسببهم في الجهل والتخلف وانتشار الرياء والمذلة والخضوع والخرافات وكل ما شأنه أن يحطّ من قيمة الإنسان ويذهب بعقله وإرادته ، كذلك تقود سلوكيات هؤلاء إلى النتائج ذاتها .
إلحاقاً بذلك ولشيوع هذا النوع من السياسة بكلّ مثالبها وأمراضها ، تفرغ المصطلحات من مضامينها فتستبدل الأخلاق كسلوك متحضّر ، ب” البراعة ” النفعية ، والقيم كمعيار ، بالثمن كامتلاك ، والصدق كجرأة ، بالرياء كضرورة أما الخدمة العامّة ، فتتحول إلى استخدام خاصّ ، والأداء الوظيفي من واجب إلى امتياز يدخل صاحبه في مصاف إقطاعيي العصور المظلمة أسوة بممتهني (1) السياسة .
لكن ذلك يمثل مساراً في العراق وليس قدراً ، إذ من طبيعة الأشياء أن تخلق نقائضها ، ومن أهمّ تلك النقائض، تراجع دور الأحزاب العقائدية بانحرافها المتأصل وفسادها المستحدث ،خاصة حينما يرتفع السؤال / الإدانة : لماذا الأحزاب(2) ؟ خاصة بعد التجارب الدامية التي قدمتها الأحزاب الآيدلوجية ( الماركسية – القومية ) وما أقدمت عليه الأحزاب والحركات الإسلامية بعد تسلّمها السلطة .
(1) : مايلفت الإنتباه في مصطلح (مهنة و امتهان ) أنه قد يكون مشتقاً من الإهانة للشيء أو الإستهانة به، والمصداق في ذلك إن ليس كل من مارس مهنة ما ، يكون جديراً بها بالضرورة ،بل قد يكون وبالاً عليها ، عكس مصطلح ( حرفة و إحتراف ) الموحي بالدقّة في العمل والمهارة في الأداء ، لهذا يمارس الرياضيون مثلاً ، ألعابهم كهواة بداية ، من دون إنتظار أجر مادّي ، وفقط من يبرع منهم في مجاله ، يكون جديراً بالإحتراف ليجعل من تلك الهواية “حرفة ” أي عملاً يحرص باستمرار على إتقانه وتطوير مهاراته في إدائه .
(2) :الأحزاب الديمقراطية في الغرب ، هي بمثابة جمعيات سياسية / مدنية ، طريقها إلى السلطة واحد لايتغير ( الديمقراطية ) عكس الأحزاب العقائدية ذات الهرمية التنظيمية واللوائح المركزية الصارمة والسلوكيات المتشددة سواء كانت في المعارضة أو في السلطة التي تسعى للوصول إليها واحتكارها بأي ثمن .