18 ديسمبر، 2024 9:13 م

أرفعوا صوت التلفاز.. الواقعية والرمز بين المتن والعنوان

أرفعوا صوت التلفاز.. الواقعية والرمز بين المتن والعنوان

يشكل العنوان العتبة الأولى لأي نص أدبي، وهو مدخل استشرافي لولوج هذا النص، وقد يتحول إلى نص موازي للمتن الرئيسي إذا ما أحاط بالأوجه الرئيسية لقصدية هذا المتن، وعمل على تعضيده إيحائيا، ويتشكل من خلاله حالة من التضمين التي تمثل تلاقي بين المضمون في النص الموازي ومتن النص، الذي يتيح له سد فراغ دلالي، وحدوث تقابل موضوعي بينهما، كما يشير إلى ذلك الناقد محمد ياسين في كتابه (العتبة والمتن النصي) .
في رواية ( ارفعوا صوت التلفاز) للروائي علي الحديثي، والصادرة سنة 2017 حمل عنوانها بعد خطابيا تداوليا، لابتدائه بفعل الأمر (ارفعوا) هذا الخطاب المباشر، الموجه إلى الجمهور العراقي، كان بمثابة جرس إنذار أريد من خلاله الإشارة إلى بؤرة التأزم الحاصلة في المجتمع العراقي، الذي أدمن الحروب والأزمات.. كان العنوان عبارة عن مقاربة موضوعية وإيحائية هيرمونطيقية، تحمل بعدا رمزيا، أسست لترابط عضوي بينه وبين متن النص، الذي تميز بواقعيته المفرطة، التي أزاحت الستار عن واقع مأساوي عاشه الشعب العراقي في ظل الاستبداد والحروب والانتكاسات.. الرمزية التي حملها العنوان قد عبر عنها الروائي عبر عملية ارتداد عاشها البطل الرئيسي (صلاح) استذكر فيها قول مدرس لغة العربية في تشخيصه لحالة احد زملاء مقاعد الدراسة في المرحلة الثانوية، الذي كان كثير الكلام والمشاكسة، بسبب وضعه الاجتماعي السيئ (فقال لنا المدرس: هذا هو السبب في حركة شفاه مهند المستمرة، يهذرم ليشغل نفسه عن صوت القلق الذي في داخله، هو كمن يرفع صوت التفاز، كي لا يسمع أصوات الرصاص).
تبدأ الرواية بمدخل فلسفي تمثل نظرة البطل ( صلاح عمر علي) لرحلة الحياة، في محاولة من الروائي لتبرير نصه القدري، ومتوالية التداعي الحر التي عاشها هذا البطل الإشكالي، طيلة مراحل النص، من خلال رسم ملامح هذه الشخصية الجدلية عبر محددات عدة، منها ينطلق من نزعة فرويدية نفسية تجعل من الطفولة خارطة لفهم بعض أهم الخصائص في شخصية الإنسان ( العمر متحف، وجوهنا فيه تماثيل نحتتها يد الطفولة لتركنها في زوايا معتمة، وقد أسدلت عليها ستار السنوات) وكذلك الزمن الذي يعد مؤثرا في صناعة وتشكيل كيان الإنسان المعاصر، والمتحكم ببناء شخصيته وسلوكه الإنساني، كما أشار الناقد يحيى حقي (كانت المثيولوجية الاغرقية تصور صراع الإنسان مع القدر، لكن على الرواية الحديثة أن تعالج صراع الإنسان مع الزمن)..وقد أشار علي الحديثي إلى هذا المضمون في مدخله الفلسفي بقول البطل ( لا نملك شيئا نفعله سوى أن نرتدي ما حاكه الزمن).. بعد هذه المقدمة نلج أحداث الرواية التي تحمل صوتا واحدا هو صوت البطل ( صلاح) الذي كان راويا ضمنيا موازيا للأحداث، حسب تصنيف جيرار جنت، يعرف عن هذه الأحداث بقدر معرفتنا كقراء، أما الشخصيات الأخرى ( الأب ، ألام، نذير ، سجى، الكربلائي، …) فلم يكونوا أصوات بالمعنى الحقيقي داخل المتن، بقدر ما هم أدوات استُحضرت لتعضيد البناء الهرمي والعضوي للنص، فلم نعرفهم إلا من خلال البطل الرئيسي صلاح، الذي اخذ دور الراوي والشارح والمراقب والمعلق على سير الأحداث، والوضعين السياسي والاجتماعي الذي عاش في كنفهما، ومن خلاله سلط الضوء على تلك الشخصيات وتم التعرف على جزء من معالمها، بما يخدم سياق الأحداث وسببيتها.
حملت الرواية بعدا واقعيا انطباعيا، عبر مؤشرين: الأول كثرة الأسماء التي وردت فيها وطبيعتها، وكذلك أسماء المناطق والأماكن، والمؤشر الثاني، عبر مشاهدها التي كانت تمثل صورا حية من واقع عاشه العراقيون في يوما ما، اجتُزأت من هذا الواقع بلا رتوش او تجميل، فقد كان علي الحديثي أمينا في نقل الحقيقة، وشاهد عدل عما جرى في تلك الفترة، فلم نراه حاضرا في نصه سوى بكونه ناقلا لما جرى بوعي المثقف ألدارك المتحسس لما يدور حول، وفق أسلوب أرسطي تقليدي ( بداية وعقدة وحل) ليمنح النص طابعه الواقعي الانطباعي الذي اشرنا إليه..مستحضرا كماَ كبيرا من المشاعر والأحاسيس والانثيالات والتداعيات، ليودعها في بطل شاب فشل في دراسته الإعدادية ليلتحق بالجيش إبان حرب الخليج الثانية، ليعيش رحلة مضنية ساهمت عدة عوامل في تعقيدها، منها وعيه الاستثنائي وثقافته العالية، وكرهه للقتل والحروب، إضافة لحبه لسجى بنت الجيران، والتي شكلت علاقته بها محورا رئيسيا في الرواية وعاملا ايجابيا يدفعه للاستمرار وتخطي الصعاب في مجتمع عاش بين شاخصين (الاستبداد والحروب)، إلا أن عقدة النقص التي لازمته طيلة تلك الفترة الحرجة من حياته، تمثلت بعدم قدرته على دخول الجامعة أسوة بسجى وصديقه المقرب نذير، وقد عبر عن خيبة أمله في أكثر من موضع من النص.. وهنا فأن البطل صلاح جعله الروائي أنموذجا ألاف الشباب العراقي الذين سحقتهم عجلة الحروب والأزمات وماتت أحلامهم وهي في مهدها، في حديث له مع صديقه نذير يشير إلى عقدة النقص التي يعانيها:
(الآن اشعر بالغيرة منك….عندما اسمع كلية نذير وكلية سجى، اشعر باني كائن غريب عنكما….. كنت أغار من نذير ولكني بدأت الآن أغار من كل شاب يرتدي ملابس الكلية بل أكاد أغار من كل شخص يتلفظ بحروف الكلية).
صورت الرواية تفاصيل دقيقة لعينة صغيرة من المجتمع العراقي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، كانت هذه العينة مرآة للحياة العراقية بأكملها، فلم تكن رواية تاريخية أو سياسية، بقدر ما كانت نقطة ضوء سلطت على تلك المرحلة، لترينا الغير مرئي منها، والوجه الآخر لها، الأكثر إيلاما وحزنا، وتأثيرات الواقع السياسي على الإنسان العراقي، كونها تناولت التاريخ من بعده الاجتماعي، من خلال قصدية أرادها الروائي أن تحدث هزة في وجدان القارئ، والوصول إلى حقيقة راسخة وهي، إن الحروب لا تُخلف سوى الماسي، وقد أشار إلى هذا المضمون الناقد الجزائري سعيد علوش بقوله ( بحث الروائي في الماضي هو للتعرف على نفسه، أي يقوم بفرز ما يمكن أن ينسى للحصول على تمثيل أكثر وضوحا للحاضر).. إن شخصية البطل صلاح المثقفة جعلتنا نرى هذا الماضي بصورة أكثر وعيا ووضوحا، فقد كان حراكه طيلة البناء الهرمي للنص عبارة عن محطات مهمة عاشها الشعب العراقي في الماضي القريب، وشكل رحيل سجى التي غادرت مدينتهم المحمودية إلى كربلاء هربا من الحرب، وعدم عودتها مرة أخرى، أهم محطات النص وأكثرها دلالة، فرحلة صلاح المضنية في البحث عنها كانت رمزية متقدمة لرحلة جيل عاش تحت وطأة الخيبات والانتكاسات والأحلام الضائعة، غير إن لقائه بها والذي شكل خاتمة الرواية، بالرغم من ندرة حدوثه على ارض الواقع، إلا انه شكل أملا جميلا صنعه الروائي من منطلق نبيل ومسؤول، فلم يشأ علي الحديثي، أن يكرس ثقافة الهزيمة، بل أوقد شمعة في وسط ظلام حالك، ربما تكون الخطوة الأولى لرحلة الإلف ميل نحو الحب والخير والسلام، وصيرورة لعراق جديد ليس فيه عنوانا للموت والهزيمة .. فكانت الخاتمة صورة إنسانية معبرة، حين أهدى صلاح إحدى كليتيه لحبيبته سجى الراقدة في المستشفى، وهي على شفا الموت، ليصنع لنا ولادة جديدة، ولادة صعبة قد تكون من الخاصرة، لكنها تمثل املآ كبيرا طال انتظاره.

أهم محطات الرواية:

اللغة: كان معظم حراك البطل داخل النص، هو حراك ذهني مستندا إلى ذاكرة واعية، عبر تقنيات عدة استخدمها الروائي ( الارتداد والاسترجاع والاستذكار، المنولوجات الداخلية ، المشاهد الصامتة ) التي رافقتها لغة متوسطة سلسة غير معقدة ( هجينة)، تخللها الكثير من الألفاظ الدارجة باللهجة الشعبية العراقية، وانزياحات مثلت، أمثال شعبية وعربية، وأبيات شعرية، ومقاربات لآيات قرآنية، وأقوال عربية مأثورة …كاستشهاد صديقه نذير بقول عمر بن أبي ربيعة للتعبير عن رأيه في الحب:
سلاما عليها ما أحبت سلامنا
فان كرهته فالسلام على أخرى
إضافة إلى استخدامه التضاد في التعبير عن المشهد القائم، أي نقل الصورة بخلاف ما حملت الذاكرة الجمعية عنها، كما في مشهد رؤيته لأسد بابل ( اتسائل مع نفسي بم يفكر أسد بابل وهو يرى ملايين الوجوه تمر به بعدما غابت عنه الأنامل التي صنعته.. أيشعر بالغربة ؟ هل تراه يحتضن الرجل الذي تحته، خشية أن يفقد عطر ذلك الزمن؟).

القرين: شكلا كل من سجى ونذير قرينين لازما البطل وعملا على بلورة شخصيته ورواه، وإدارة جزء من صراعه مع أقداره داخل النص، فقد كانت سجى قرينا ايجابيا لصلاح، شكل وجودها في حياته عامل مساعدا مهما في تخطيه جزء كبير من مشاكله، ومثلت له أملا جميلا عاش لأجله ( لم أكن استوعب كيف أعيش بعدهما أنا طير يحلق بجناحين احدهما سجى والآخر نذير )..وأما نذير فقد عمل وجوده في حياة البطل على تخطيه الكثير من الصعاب أثناء خدمته في الجيش، ورحلته في البحث عن سجى، ونهايته السعيدة معها.

الإشارات الصوفية: حمل النص بعض الإشارات الصوفية، لتأثر البطل بابن العربي في طفولته، تمثلت هذه الإشارات، بشعور البطل بأنه اله صغير : (عندما سالت مدرسة الإسلامية يوما، أيحق لي أن أكون اله صغيرا ؟) .. وبرؤيته للوجود واعتقاده بوحدة هذا الوجود، كما في شعوره بأنه الخروف الذي يذبحه قصاب مدينتهم، ذلك المشهد الذي كان يتردد على ناظريه منذ طفولته، أو انه (الصمونة) التي تحرقها نار الفرن، في مقاربة لنار جهنم التي كان يرعبه تخيلها.

ثقافة المكان: كان للمكان تأثيرا نفسيا كبيرا على البطل سلبا وإيجابا، وحمل دلالة كبيرة أثرت على مزاجية البطل، وكشفت بعض ملامح شخصيته، وانقسم هذا المكان إلى دلالتين رئيسيتين حسب تصنيف جنت ..( مكان أليف) مثل مدينة البطل وعلاقته الحميمة معها وارتباطه المشيمي بها ( المحمودية صوت طفولتي الذي لم يخفت يوما، عندما اجلس على الرصيف ليلا، اشعر بحضن أمي، أرى خطوات مهدي وعباس واحمد).. ( مكان عدائي) كما في معسكر التدريب وكل وحدة عسكرية خدم فيها، وكذلك سجن الحارثية الذي أودع فيه لأيام قليلة، لكنها كانت طويلة بتأثيرها النفسي السلبي عليه.. ( النوافذ الصغيرة التي في أعلى الجملون، لم تكن لها من مهمة سوى أن تبقينا على قيد الحياة، المصابيح الثلاثة أو الأربعة الخافتة، كانت لهم، ليروا كيف نتململ من عقوبتهم).