22 ديسمبر، 2024 7:13 م

نشف ريق القلم من شدة الهول‬ ، عندما رأى ارضه ملطخة بالسواد ، تتخللها ثقوب مبعثرة تتصاعد منها اعمدة دخان‬ ، أين عساه ان يكتب ؟ ان يصرخ .. وقف تائهاً‬.. رأى فسحة بيضاء انطلق اليها .. وصل .. هَمَّ .. لامس البياض ..
‫فأتته طلقة .. فتتته رمادا .. واختلط جسده بأجساد اخوته .. وامتلأت الأرض ..
>
> قراءة في ديوان كحل الحاء للشاعر إيهاب سنجاري
> بقلم الكاتبة مهى هسي
> طفل في حي السراي يركض ويركض، وتكاد رئتاه أن تنفجر، يلقي أنفاسه في “كحل الحاء”، يسمع صوت التهام اللهب لقطرات العرق، كل يوم يفتح عينيه.. ليجد يوما آخر بانتظاره! يضحك، يضحك من أعماقه، يضرب الأرض بأقدامه فيما يمسح أنفه، ودموع خده بظاهر يده، يحمل الورقة والقلم ويكمل البحث عن ذاته في ورقة بيضاء ملطخة بالكحل! إنه السنجاري العراقي الغائب المغيّب الذي أخذنا معه في رحلة البحث عن ذاته في “كحل الحاء”.
>
> هذا الغموض الذي يلف العنوان يجعلنا في حيرة وتساؤل عن سبب اختيار حرف “الحاء”. فلماذا اختار الشاعر هذا الحرف بالتحديد؟ وما علاقة الكحل بالحاء؟
> يقول السنجاري:
> “عيناك .. حاء للحب
> نعوذ بالله
> من كل .. حاء حرب”
> جعل الشاعر “الحاء” رمزاً للحب وللحرب، ويظهر ذلك جليًّا في مضامين أشعاره التي جاء عددها ٦٠ قصيدة من الشعر الحر ، ولكن لا يتوقف عند هذا الحد فمن خلال الغوص في الأسطر نجد أن الحاء هي رمز الحياة أيضاً بل وكأنها هي “الحي”- حي السراي بذاته، فيستهل الشاعر ديوانه بقصيدة بعنوان “السراي”، فيقول:
> “السراي…حيٌّ
> يصدح فيه آذان الحب”
> ذلك الحي الذي تتصارع فيه “الحاءات” لتولد مجموعة حكايات أراد الشاعر سردها لنا ولكن بأسلوب شعري وجداني وخيالي، يفيض بالأحاسيس التي لم تجد بطريقة السرد وسيلة لتوصلنا إلى قلب ومشاعر السنجاري الذي يعاني من الفقد لوطنه، فإن الأشياء تَفقد قيمتها عند الشاعر بسبب الحرب فلا يجد إلا أن يعبر عن ذلك في نَغم راقٍ، يملؤه الشجن والحزن:
> “كان قاب أذني
> او أدنى
> سمفونية السلام
> شراب مسمعي
> ُيطرب الخطى رقصًا
> على افق الوطن
> الغائب ..”
> كما أنه يحن إلى الحي قبل الحرب وقبل الدمار ويسترجع بعض الذكريات فيحدثنا عن السوق والشوارع و”دارة السنا” التي جعلها عنوان قصيدة وكذلك ذلك المكان ال “هناك…” في قوله:
> “بقت الروح معلقة
> بخيط الحنين
> كطائرة ورقية
> في سماء
> الانتظار…”
> بالإضافة إلى الضياع والتشرد وذلك بدا واضحاً من خلال أغلب العناوين (الخشاش المفقود، ارتطام، فقد، عبث، زوال، سفر أزلي، ارتحال، غيهب، دهاليز…) وهي إن دلت على شيء فهو ‫معرفة الذّات والبحث عنها والتي هي الإشكاليّة الأشدّ صعوبة وتعقيداً التي يواجهها السنجاري، وذلك لأنّ الإنسان تركيبة غريبة ومعقّدة تجمع في ذاتها تناقضات عدّة ومشاعر مختلفة. وتتأرجح النّفس الإنسانيّة بين العقلانيّة والعاطفيّة، كما أنّها تخضع لعدّة عوامل حياتيّة وسلوكيّة ومحيطيّة قد تبعد الإنسان عن ذاته، والشاعر في هذا الديوان يصف الدمار الذي لم ينتج عنه الحطام والركام فقط بل الدمار الذي كحّل وطنه بالسواد وأمحى ملامح طفولته وكل ما يتعلق بذاته وترك مشاهد أثرت في نفسه. ‬
> ‫مهما بحث عن نفسه وحاولنا نحن الخوض في غمار تلك النفس الحساسة والشفافة، لن نصل إليه ولن يصل إلى ذاته إلا من خلال هذه الأشعار وقد وصف ذلك بذاته من خلال قصيدة “شاعرة” بطريقة غير مباشرة، فهو يخاطب الأنثى ولكنه في الحقيقة يخاطب أشعاره ويسأل “أيعقل خلق ملاك من علق؟” وهو الذي وُلد أو خُلق من الشعر … وكان ثائراً على الحياة والظلم والحرب والقهر:‬
> ‫”قال: أعطوني قوتي‬
> ‫ قالوا: كل من الخشاش‬
> ‫ والخشاش مفقود‬
> ‫ الوالي أولى بالقوت‬
> ‫ والشعب فقط… له الحق أن يموت”.‬
> ‫والموت جعل الشاعر أكثر إيماناً وحاجة للجوء الى الله وعبادته ولو عن طريق كل الاديان على اختلافها. فقد ظهرت خفية نزعته الصوفية في بعض الأبيات.‬
> ‫ولم تغب صورة الأنثى عن قصائد السنجاري، وقد كانت في كل مرة رمزاً للأرض والوطن والأم والحبيبة الشرقية المكحلة العينين والتي تبكي حتى يتشح وجهها بالسواد وهي التي تمثل النساء الأرامل والأمهات الثكالى في زمن الحرب.‬
> ‫وإن الحرب ما هي الا الحرب ويمكن تفسيرها من خلال مفهوم التناص مهما تغيرت الامكنة والأزمنة. وبالحديث عن التناص في القصائد، فإننا نجده يزيّن معظم الأبيات وقد أضفى الرونق والجمال وترك لنا لذة التحليل ، فذكر أخوة يوسف وصلاة الشدة والقيامة والنبي صالح ويونس وغيرها… ‬
> ‫”كحل الحاء” المقسم إلى قسمين: قصائد “عش الكحل” وقسم “وشوشات” وهي عبارة عن قصائد قصيرة جدًّا، هو ديوان شعر وفيه يختبىء ألف الف بيت شعر.