22 ديسمبر، 2024 3:53 م

لنشتغل للعراق ما دام العالم من حولنا كل يفكر بمصلحته لأن الدبلوماسية هي فن الممكن.. وكما يقول نوري السعيد: “خذ وطالب”.. فلنتعلمها كي ننتشل وطننا من سقوطه الحاد، في الهاوية
تصنع أمريكا، منفذي أهدافها، حيثما وجب أن تضع جزءا من ثقلها، كي لا تحتاج الى المجيء بنفسها، للإشراف على آلية تنفيذ تلك المصالح، إلا بقدر محدود؛ كأن تبعث سفيرا “لا ليقدم أوراق إعتماده” إنما لتسيير الشأن الملتبس، في دولة ما ترتبط بمصالح أمريكا، ولا تيعث جيوشا، إلا عند “الشديد القوي” مثل فيتنام وافغانستان والعراق، ثم كفت عن ذلك بعد ثلاث تجارب عسكرية فاشلة!
حين يلتبس الامر، في دولة تشكل حلقة من سلسلة الترابط النفعي في أمريكا، يتوجه “سفير فوق العادة” حسب المصطلحات الدبلوماسية، لا ليقدم أوراق إعتماده،  إنما يجيء معبأً بخطة عمل محكمة، تحسم الأمور من الداخل، لصالح أمريكا، مع عون وإسناد خارجيين، لمواطنين من تلك الدولة “فوق العادة أيضا” ويعود السفير الذي لم يقدم أوراق إعتماده حاسما الاحداث لصالح الارادة الامريكية.. وهذا ما حصل عندما نفي غورباتشوف، ثم أعاده السفير الامريكي الذي لم يقدم اوراق اعتماده، وحل الاتحاد السوفيتي فيما بعد، و… طاب الشأن الامريكي في روسيا.
منفذو المصالح الامريكية، في أرجاء العالم، هم مواطنون في تلك الدول، من صنع أمريكي، وفق الطراز الذي يناسب ثقافة مجتمعه “سوسيولوجيا – إجتماعيا” فيكون أقدر على إيصال الخطاب الامريكي، بلغة قومه، فيفهموا قوله، وبالتالي تتحقق الارادة الامريكية، بأيد محلية، في أية دولة لأمركا مصالح على أرضها.
أما في حالات تدخل الجيش الامريكي مباشرة، في فيتنام وافغانستان والعراق، فلها ظرفها الذي أرادته فرصة للإستعراض العسكري، وإلا فإسقاط صدام بثورة من داخل العراق، ينظمها جنرالات روس، كان عرضا قائما رفضته، كي تخرس العالم، بقواتها التي حطت في قطر، وسارت نحو صدام يوم 19 آذار 2003، وأسقطته يوم 9 نيسان، أي أن نظام “فائق البوليسية” قائم على المنطق العسكري، مدة 35 عاما، لم يأخذ بيدها سوى 20 يوما.
أما التداعيات التي تلت وجودها في العراق وفيتنام وإفغانستان، فهذا شأن جرى داخل الولايات المتحدة الامريكية نفسها.. مع شعبها، ولم يكن لتلك الدول الثلاث أي تأثير فيه؛ لأن حسابات البيدر الامريكي، غير حسابات حقول فيتنام وإفغانستان والعراق.
 
تركيا
تركيا مكملة القوس الامركي الاسرائيلي حول الشرق، يتمم دائرة الطوق، بضمان مأمون، وهذا ما نجحت أمريكا من خلاله، بتنفيذ سلسلة تمظهرات “القاعدة” منذ أسامة بن لادن، الذي صنعته بروح إسلامية متطرفة، أخرج روسيا من إفغانستان، ثم تخلت عنه أمريكا، وقبله صدام، كسر لها شوكة الثورة الايرانية، بحرب إمتدت 8 سنوات، دمرت إقتصاد العراق وبنيته الاجتماعية، ثم تخلت عنه أيضا.
في الحال التركية، لو أن رجب طيب أردوغان، سقط في ثورة الساعات، التي عصفت بتركيا، كان “داعش” كآخر شكل من تمظهرات “القاعدة” سيفقد ركنه الذي يسقطه بهدوء، فالعالم أيقن، أن “داعش” إنتهى من الحسابات الامريكية، حقق لها ما ارادتن وسقطت ورقته، وبمجرد تحرير الموصل، لن يبقى ذكر لهذا التنظيم ولا لسلفه الذي نسله من رحمه “القاعدة”.
لكنهم لا يريدون لدعامة مهمة للمصالح الامريكية، في الشرق، أن تسقط بيد عسكر إسلاميين، وفجأة تجد “داعش” ظهرها هواء.. لا يسنده سوى الفراغ؛ لأن حل “داعش” بهزيمة أمام القوات المشتركة، بضمنها أمريكا، التي صنعته وتهزمه كما فعلت مع سواه، إستعراض قوى ما زالت تحتاجه، مثل إسقاط صدام، رافضة العرض الروسي، بجنرالات يقودون ثورة من داخل العراق، تسقط صدام، وتجيء بمن يناسب أمريكا.. لكن حركت جيوشها لحرب 2003، كما اعادت أردوغان لترى رأيها فيه، بعد سقوط “داعش” نهائيا، فهي لا تسمح بخطوة غير محسوبة في مخططاتها، وإن حدثت تلك الخطوة، غير المخطط لها، تعرف كيف تجيرها لدعم منهجها وتستفيد منها.
 
وماذا بعد؟
إهتزت روح أردوغان طالبا اللجوء الى ايران والمانيا.. ايران رفضت وألمانيا لم تجب؛ فلجأ الى قاعدة “أنجرليك” الامريكية، في تركيا، وتحدث مباشرة مع أوباما، الذي أبلغه بالعودة، الى قصر الرئاسة وإدارة شؤون البلد فورا، لأن “الشغيلة” المخابراتية.. الامريكية والإسرائيلية، ستحسم رأي الشارع فورا؛ وفعلا أعاد الشارع التركي أردوغان رئيسا؛ لينكل بالإنقلابيين أولا، ومن ثم يحمل الفضل الأمريكي والاسرائلي ريثما يرون رأيهم به، كمنفذ أمثل لفقرات برنامجهم!
لا أستبعد ضلوع أمريكا في تحريض الانقلابيين، وتخليها عنهم، كما حرضت العراقيين، على إنتفاضة آذار 1991، ثم تخلت عنهم؛ لتداعيات ليست من صلب موضوعنا، لكن الامثال تضرب ولا تقاس.
يجيء ترجيحي لتأليب أمريكا الانقلابيين، من كون أردوغان بدأ مؤخرا بمد صلات تفاهم مع روسيا، التي لم يفكر باللجوء إليها، عندما داهمه الانقلابيون؛ ما يدل على أنه ظل يخطب الود الامريكي، حتى عند أحلك ساعات سلطته، لذلك لن يتخلوا عنه الآن، لكنهم بعد إنهيار “داعش” سيعيدون تنظيم الاوراق، في المنطقة، بالطريقة التي أعادوا تنظيمها بعد توقف الحرب العراقية الايرانية”، ولم يبق لصدام موضعا فيها.. وهذا ما سيربط مصير اردوغان بمصيري غورباتشوف وصدام حسين.
 
نحن وسوريا والمستقبل
إبتهج العراقيون والسوريون، فرحا بسقوط أردوغان ومجيء اسلاميين متطرفين ليسوا داعشيين، بإعتبار بعض الـ… اهون، لكن ماذا أفادت دولتنا.. كحكومة وشعب، من الدروس التي تمر، وبالنا مشغول عنها بالفساد وشحة الخدمات والمحاصصة.. ننوء بأعباء تشتت عقلنا عن التأمل بما حدث في الماضي، وما يحدث الآن؛ كي نؤسس دولة المستقبل، المنقاة من الشوائب السياسية والعسكرية، بمصفاة الاتعاظ من كل ما يحدث لنا وحولنا، من مصائب يشيب لها الولدان.
فهل عجز العقل العراقي، عن إستيعاب الدروس والاستفادة من موعظتها الحكيمة، ليعرف كيف يسوس شؤونه، على طريقة دول كثيرة، لا تعادي أحدا، إنما تضمن مصالح شعبها وأمنه ورفاهه، تدعمه بالتواصل مع الجميع، من دون حساسيات، غير مبررة.. ولنا في دول الخليج ومصر والاردن إسوة حسنة.
فليس من مصلحة أمريكا، دوام القلق في العراق، لكن عدم ركوز البنية السياسية، على قاعدة واضحة المعالم، وتشتت القرار السياسي، بين أحزاب وكتل.. معظمها لا يريد سوى مصلحته الشخصية والفئوية، على حساب المصلحة العراقية العامة.
ولنشتغل للعراق، ما دام العالم، من حولنا كل يفكر بمصلحته، من دون أن يستفز الآخرين؛ لأن الدبلوماسية، هي فن الممكن.. وكما يقول نوري السعيد: “خذ وطالب”.. فلنتعلمها كي ننتشل وطننا من سقوطه الحاد، في الهاوية.