كان الطريق الى أربيل، المحافظة الشمالية، ومركز إقليم كرستان، مزدحم بمنشآت السفر الكبيرة، والصغيرة الـ ” جي ام سي “، وسيارات النقل الخاصة والأجرة بأنواعها، قال إبني وهو يحاول أن يعبر عن عدد المسافرين من خلال القوافل التي يراها على مد البصر: يبدو أن أحداً لم يبق في بغداد؟ .. فرد رفيقنا في الرحلة، مضيّفنا المقيم في أربيل، عليه ضاحكاً : عندما نصل الى مكتب الإقامة ستجد عراقيون من جميع المحافظات، وستعدل مقولتك حتماً.
كنت أرى أن سر هذا التزاحم، محصوراً بجمرة القيظ، وأزمة الكهرباء، فالناس يفرون الى حيث النسائم العليلة، والشلالات العذبة في شمالنا الحبيب، الذي كان يوماً منفى المعارضين، وسطوة برده، العقوبة التي تلوح بالأفق، مستذكراً قول الشاعر الشعبي الكبير، ملا عبود الكرخي :
لاتلقلق يحبسوك … وللشمال يسفروك
وفي مكتب الإقامة، أخذت تراودني الأرقام المليونية التي طالما يراهن عليها السياسيون، في إحكام سيطرتهم على الشارع، لكن الحيز المكاني في كل الأحوال لايتحمل هذا العدد حتى لو كان الوقوف فيه عمودياً، ولا أريد الخوض في هذا الموضوع أصلاً، بقدر ما أحاول أن أصف الأعداد الكبيرة التي تتدفق الى أربيل، غير أن فكرة الحر تراجعت كسبب لهذه الحشود، وأنا أشعر بقيظ الشمس، ووخمة المكان، وقفت في أحد الطوابير الطويلة، ودارت نقاشات عقيمة، عمرها 14 سنة، وأخرى حوادث حصلت وتحصل، لقضاء الوقت، أردت أن أغير مجرى الحديث، بعد أن شعرت بالسأم من الطروحات الشبيهة بطابورنا الذي لم يتحرك، تأفأفت، ثم قلت : الحر لايختلف عن بغداد، فلماذا يأتي الناس الى هنا إذاً ويتحملون مشقة الطريق والسيطرات، وهذه الطوابير؟.
إنفتحت قرائح السياح، ليبدي كل واحد منهم، وجهة نظره، قال الأول : متعة، ففي أربيل شلالات، متنزهات، مولات، وشوارع مفتوحة.
قال آخر : بل أنا أبحث عن الأمن المفقود في مدينتي، ففي أربيل يتلاشى الخوف، تصور أنني لا أتحرك خطوة الا واتمتم بأدعية الحفظ، والإستعاذة من أشياء كثيرة تلاحقنا، في ما هنا تخف عني حالة التوتر وأشعر بالإطمئنان.
ثالث، أعطى رؤية أخرى، قائلاً : العراقيون في أربيل، لايختلفون في طباع، ولايتنازعون على طوائف، ولا تسمع أحاديث في السياسة وغيرها تعكر صفو المكان، برغم أنهم من مشارب عدة، بصراحة المواطنة هنا تقوى وتتعزز كلما إبتعدت من المركز، والأحزاب، والدولة.
إنسحبت قليلاً، وأنا لا أريد سوى المتعة، والعودة بسلام الى دار السلام، تاركاً صراعاً في داخلي، عن أسرار هذ الرحلة، وما ستتركه في نفسي من متغيرات، فيما كنت أشق طريقي بصعوبة، وجهد ممل للحصول على بطاقة الإقامة المؤقتة، ليبقى السؤال الآتي : لماذا بقينا نراوح محلك سر، ونبحث عن سعادتنا المفقودة في مكان آخر؟.