لم أكن أتوقّع يوماً .. بعد أن أتاحت الحقبة “الأميركيّة” خلع الأقنعة عن الوجوه , أن ألمس “لمس اليد” وأن أتفاجأ كما تفاجأ الكثيرون أنّ “الدين” أو الانتماء الطائفي متفوّق على الارتباط العرقي أو القومي وأسرع “استشراءً” منهما .. في الحقيقة لم يكن يخطر على بالي مثل هذا الأمر خاصّةً وأنّ التاريخ البعيد أو القريب شواخصه تنفي ذلك تقريباً وهنالك “عيّنات” معاصرة في الداخل العراقي قبل “الطوفان الكبير” للظاهرة الدينيّة مؤخّراً وإفرازاتها الطائفيّة تؤشّر لصالح تفوّق الارتباط العرقي أو “القومي” على الديني أو الطائفي .. فلا زلت أتذكّر حالات كثيرة تؤيّد مثل هذه المفارقة .. فبالأمس عندما كانت الفتن الطائفيّة في طريقها للتلاشي والانقراض في العراق خاصّةً نهاية سبعينيّات القرن الماضي نظراً لانتشار الوعي لوجود قوّة قطبيّة ساندة عندما كانت الأنظمة الحاكمة تدور في فلك القوميّة أو الفئويّة وهي الّتي كان يُتنازع عليها بين شدٍّ وجذب ولكنّها كانت تبقى دوماً في حدود ضيّقة جدّاً مع حضور قوي للتوازن التام بين فئات المجتمع كافّة , حيث كانت “الواسطة” فقط هي من تنبض هنا وهناك كمؤشّر لذلك الشدّ أو الجذب .. فلا بأس مثلاً وليس أكثر .. أن تكون زميلة صحفيّة معروفة آنذاك تنتمي “بالوراثة طبعاً” للديانة المسيحيّة عملت جهد ما تستطيع مستغلّةً تأثير شكلها الجميل واسمها اللامع لأجل مساعدة “ابن مدينتها” الفنّان “الموصليّ” الناشئ آنذاك , لتثبيته على سلّم الشهرة داخل العاصمة بالرغم من كونه “مسلماً” في حين لم تعر اهتماماً يوماً تلك الزميلة “المسيحيّة” أو ألحظ عليها سعيها بنفس الحماس لمسيحيّين أمثالها لكنّهم لا ينتمون عرقيّاً لعرقها أو لمنطقتها رغم أنّها كان بمقدورها فعل ذلك ..
لم يكن ليصل “السياسيّون” في العراق بعد الاحتلال إلى سدّة الحكم لولا الاحتلال أوّلاً ولولا قوّة “الطائفة” ثانياً وتأثيرها الكبير في الدعم الشامل لهذه الفئة القادمة مع الغزاة , بعد أن حظيت هذه الفئة باندفاع شديد نحوها من قبل “الاتباع” باندفاع ربما لم يحظ بمثله الإمام عليّ بن أبي طالب نفسه عندما وُلّي الخلافة ..
الـ “شيعة” اليوم “يتعاونون” فيما بينهم للانتشار في كلّ مفصل من مفاصل “الدولة” العراقيّة , ولا يهم أن يكون هذا “الشيعي” من العشيرة الفلانيّة أو تلك العلاّنيّة ولا يهم أن يكون أصله العرقي من “الدولة الفلانيّة” أو من أيّة منطقة من دول العالم طالما أنّه يشهد أنّ “عليّاً وليّ الله” .. فالانتماء أوّلاً .. وآخراً .. في الحقيقة هي ظاهرة بلغت الذروة في الاصطفاف الانتمائي لم تألفها حتّى أشدّ عصور الظلام والجهل والطائفيّة انحطاطاً .. إلاّ أنّ المثير .. والمثير جدّاً أن إفرازاً آخراً أفرزته الطائفيّة أشدّ خطورة من الانتماء الطائفي نفسه وأكثر فتكاً في المجتمع .. بل قد ساوى هذا الانتماء الجديد بين الأضداد في الانتماء الطائفي وجمع بينهم ! .. إنّه “طائفة المال والأعمال” ! ..
ألمال .. عنوان الملذّات .. ومفرّق الأمم والجماعات .. وجامعهم في نفس الوقت ! .. فقد روي ؛ أنّ أموال وجواهر “كسرى” وُضعت بين يدي الخليفة عمر بن الخطّاب وسط باحة مسجد يثرب “المدينة المنوّرة” جُمعت فوق بساط فرش ذو مساحة واسعة احتوت على كوم كبير من الذهب والفضّة والجواهر والنفائس وغطّيت بقماش لم يستطع حجب لمعان وبريق الذهب والجواهر من الومض من تحته .. ولمّا حضر عمر وجموع الصحابة والمسلمين والتفّوا من حول كدس الأموال ؛ دمعت عينا عمر بن الخطّاب وبكى ما أن سقطت عيناه على هذه الكنوز فقيل له ما أبكاك يا أبا حفص بدل أن تفرح .. قال .. بدت لي فتنة هذه الأموال تجري بين المسلمين وأسأل الله أن لا تفتّ هذه الكنوز في عضدهم فتضعف شوكتهم وتقلّل من شكيمتهم .. وفعلاً حدث فيما بعد ما توقّعه عمر ..
ثبت منذ القدم أنّ المال هو “الطائفة” أو “الانتماء” البديل اللاحق عن جميع الانتماءات الأخرى “القديمة” .. فهو وحده من سحب إليه جميع أفراد الفئة الحاكمة اليوم في العراق ما أن استقرّت على كرسيّ الحكم وسحب معهم الأتباع أنفسهم إلى بريقه ولمعانه .. فشيعة “العشر الأواخر” من السنين هم غيرهم أولئك الّين كانوا مع إشراقات الغزو الأوّل للعراق “مستقتلين” دفاعاً عن “المذهب” .. هم اليوم مستقتلين عن المال والجاه والمنصب لا عن المذهب .. وهذا ليس ديدنهم وحدهم بل هو ديدن جميع من سبقهم من طوائف وانتماءات أخرى على مرّ الزمن .. لذلك كان أئمّة التشيّع يدوّنون في شروط إدامة الالتفاف حول “المذهب” الّتي وُضعت كأساس له هو “لا دولة ولا حُكم ولا خلافة إلاّ بعد ظهور المهدي” .. فأولئك الأوّلون واضعوا مُحدّدات الانتماء يضعون نصب أعينهم على طول الخطّ أن “الأتباع” سينفضّون عن الطائفة ما أن يقع بين أيديهم الحكم , لذلك وضعوا شرط تعجيزي من المستحيل أن يتحقّق .. ولذلك وضعوا شرط “الظهور” كحالة وحيدة تبيح للشيعة الاستيلاء على الحكم “يعرفون أنّه شرط تعجيزي لن يتحقّق ولو انطبقت السماء على الأرض” وهو ما كان يريده أولئك الأئمّة ويريده أيضاً أئمّة اليوم .. فالسلطة تعني المال والنفوذ .. وتعني العزوف عن المراجع والآيات والحجج .. وهذا ما بدأ يلوح في الأفق في العراق مؤخّراً وأصبح أكثر وضوحاً مع بداية الانتخابات الحاليّة حيث بدأ التذمّر يسود مراجع التشيّع ليأخذ فيما بعد شكل الهجوم ضدّ أتباع الأمس ! ..
المال والسلطة هما حبل الإعدام الّذي سيلتفّ حول عُنق “الشيعيّة” .. وذلك ما لا نريده ولا أريده أنا عن نفسي شخصيّاً رغم عدم إيماني بجميع الطوائف لأنّها السبب الحقيقي لانهيار المجتمع العربي واحتلاله طيلة ألف سنة .. لأنّ نهاية التشيّع أو إضعافه في العراق يعني نهاية معارضة ضروريّة لعموم التركيبة الإسلاميّة .. ويعني أيضاً إزاحة شاهد مهمّ مؤمن بمُدوّنات ثابتة على الجريمة الكونيّة في سرقة الدين الحنيف من قبل فئة سياسيّة انتهازيّة حوّلته من خلافة إلى مُلك عضوض بخلاف ما أراده الدين الحنيف .. فإذا ما تعطّل هذا التوجّه المعارض “التشيّع” لا سامح الله فإنّ من الصعب أن يعيد تنظيم نفسه خاصّةً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ “الشيعة” أقلّيّة والضربة ستكون شديدة القسوة وشبه قاضية على مرتكزاتهم الظاهرة والّتي بنيت تحت ضغوط وأعباء حقب طويلة من السنين ..
إنّ آباء التشيّع واضعوا لبناته الأولى , واللاحقون , لا زالت مشاهد “الطائفيّة الماليّة السلطويّة” ماثلة وشاخصة أمام أعينهم بمشاهدها الدراميّة المأساويّة .. فهم شهود على مشاهد ذلك الانفضاض الماكر لجمع التشيّع من حول أشجع الشجعان وصفوة الأخيار الحسين بن عليّ عليه السلام وشهود عيان على ما تفعله السلطة وما يفعله المال .. فلم يغب لحظة عن بالهم تلك اللحظات الّتي وقع فيها المال ووقعت فيها السلطة بين أيدي من بايع الحسين بالأمس القريب فانقلبوا عليه قائلين للحسين قولتهم الشهيرة .. “قلوبنا معك .. وسيوفنا عليك” ! ..