تحتاج العلاقات البشريّة الناجحة إلى بعض العلوم الإنسانيّة والنفسيّة، ويُمكن اعتبار فنون الحوار والإقناع ومناقشة الآخر والكتابة والتخطيط من أبرز الفنون والعلوم الضروريّة للتواصل مع الآخرين!
والحوار مع الآخر المُخالف من أصعب المهارات الإنسانيّة التي يفشل فيها بعض النخب الفكريّة والعلميّة والمجتمعيّة والسياسيّة.
والحوار رسالة السماء للبشر، وسلاح المُصلحين الأنقياء والساسة الأصفياء من جميع الديانات والمدارس الفكريّة، وهؤلاء الرسل والنخب الحقيقيّة حرصوا على محاورة الآخر بهدوء ورحمة ومنطق!
وتُقاس ثقافة ودبلوماسيّة وحصافة المُفكّرين والسياسيّين وكُتّاب الرأي بمدى قدرتهم على إقناع الخصوم والتفاهم معهم والوصول لأرضيّة مشتركة مع الاحتفاظ بالمبادئ والقيّم النبيلة!
وامتلاك مهارة الحوار ليست أمرا هَيّنا، وهي مهارة تقوم على النقاش الفكريّ الدقيق، والأدب مع المقابل، والقدرة على الصبر وضبط الأعصاب في المواقف الفارقة وعند وصول النقاش لمرحلة الانفجار!
ونحن في العراق انقسمت مواقفنا في العام 2003 (بعد الاحتلال أو “التغيير”) لعدّة فرق: فريق وقف ضدّ الاحتلال وعمليّته السياسيّة، وفريق وقف بجانب الاحتلال وأيّد العمليّة السياسيّة، والأغلبيّة وقفوا على التلّ، ولم يقتربوا من ملاعب كلا الفريقين!
واختلفت أدوات الفريق الرافض، فمنهم مَن استخدموا طريق المقاومة المُستهدفة للاحتلال وغير الضارّة بالمدنيّين، وهم الأكثريّة، ومنهم، وهم الأقلّيّة، مَنْ خلطوا الحابل بالنابل بنيرانهم، ومنهم مَنْ فضّلوا إظهار مواقفهم بألسنتهم وأقلامهم، وهذا الفريق اختلفوا في أسلوبهم ونقاشاتهم مع الآخر، وهم محور حوارنا الحاليّ.
لا شكّ أنّ المُخْتَلِف أو الآخر هُم إمّا تَابِع أو مَتْبُوع، والذي يَعنينا، نحن الذين فَضّلنا إظهار مواقفنا بأقلامنا وألسنتنا، بأنّنا نُحاول الحوار مع التَابعين والمَقُودين الآخرين، وتوْجيه خطابنا إليهم وإن كُنّا نتناوله أحيانا بذكر قادتهم!
الآخر العراقيّ ليس أرضا سهلة للزراعة الفكريّة المُثمرة وذلك بسبب الكمّ الهائل من التغييب العقليّ والسياسيّ المُتنامي عبر بعض المنابر الدينيّة والحزبيّة، وعشرات القنوات الفضائيّة، ومئات المواقع الإلكترونيّة، وآلاف الأقلام والأصوات المُغرضة!
وعليه فإنّ الخطاب الناجح المطلوب مع الآخر العراقيّ هو الكلام البسيط الواضح والمباشر، والصحيح والمُركّز، والمُؤطر بالخلق والحكمة في اختيار الكلمات، والقائم على الحجّة والحافظ للكرامة، وبخلافه سنكون أمام خطاب همجيّ لا يُوصل رسالته للآخر مهما كان مُتَفهماً!
إنّ الخلافات بين المُعارضين العراقيّين والسياسيّين المتورّطين بدماء العراقيّين ومَن معهم خلافات حادّة لا يُمكن معها أيّ حوار إلا بعد أن يَفصل القضاء المُحايِد بين الجميع، وهو الذي يُحدّد المجرم مِن البريء!
شعبيّا هنالك مَن آمن أنّ غالبيّة مَن يُمثّلونهم سياسيّا هُم مَن (الأتقياء والصالحين والمُنزّهين) بينما يَنظر إليهم الفريق الآخر خلاف ذلك!
فكيف تُقنع هذا المقابل بأنّه على خطأ؟
فهل تُقنعه بتسفيه مُعتقده السياسيّ والممزوج، غالبا، بالحزبيّة الدينيّة والسياسيّة أم تُحاوره بالحجّة والحكمة والكلمة الطيّبة الراقية والصبر والتحمّل؟
يُمكن أن نتّحاور مع الآخر غير الإرهابيّ بالحالة العراقيّة انطلاقا من نُقاط الاتّفاق، ومنها البلد الواحد وكراهية الظلم والباطل والإرهاب، والخلل الناصع بإدارة البلاد وغيرها من نُقاط التلاقي والتفاهم التي يُمكن أن تكون أرضيّة صلبة لمناقشة بقيّة نقاط الخلاف!
مَن يريد أن يُصْلح الحالة العراقيّة العَليلة عليه أن يبدأ بالمواطنين ويكسب ثقتهم، ويهدم الهُوّة معهم قدر الإمكان، ويوسع ميدان النقاش بمحبّة وصدق، وينزل عند مستوى تفكيرهم، وإلا فلا فائدة ولا ثمرة مِن أيّ حوار ونقاش مليء بالكراهية والتسفيه!
أصل خلافات العراقيّين ليست شخصيّة بل قضايا كُبرى تتعلّق بالوطن ومستقبله، وشَكْل الحُكم، ومَنْ يَحكمون وغيرها من القضايا الجوهريّة، أمّا قضايا المتورّطين بدماء المواطنين فهؤلاء كلمة الفصل معهم تكون للقضاء العادل!
إذا كانت الغاية من حوارات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعيّ نشر المزيد من الكراهية فهذه مؤامرة كبيرة ضدّ الوطن، وإن كان الهدف العمل لتقليل نقاط الاختلاف وتوحيد الجهود الشعبيّة خدمة للوطن فهذه هي الرسالة النبيلة التي يُفترض أن تكون بتعقل وقلوب صافية.
ولا يمكن للحوارات التعجيزيّة والسطحيّة والإقصائيّة أن تُؤدّي لنتائج إيجابيّة بل هي مِن أكبر أدوات العداء والكراهية!
على العراقيّين أن يَقتنعوا ويُؤمنوا أنّ الحوار مع الآخرين غير المتورّطين بدماء الناس مُتاحة بشكل كبير عبر الرأي والرأي الآخر، وأنّ الاستخفاف بالآخرين يدفعهم للعناد دفاعا عن رأيهم وفكرهم السقيم بنظركم، والصحيح برأيهم!
وأفضل طرق الحوار تلك التي تطرح الأسئلة العامّة وغير المباشرة، والتي لا خلاف عليها بين المتحاورين ومن خلالها يُمكن الوصول تدريجيّا إلى تفنيد وتقزيم مواقف مَن يَظنّه المحاور، (الآخر)، أنّهم فوق الشبهات والأخطاء!
مَن يُريد التغيير عليه أن يتقبّل الآخر، غير الإرهابيّ، وأن يُقنعهم بصحّة وصوابيّة أفكاره، وهذا الانفتاح على الآخر دليل قوّة وثقة كبيرة بالنفس والمبادئ، بينما الانغلاق من أكبر أدلة الاهتزاز والتردّد والخوف!
وهذا الانفتاح بحاجة إلى لباقة يوصل بها المحاور الناجح أفكاره بكلمات ناصعة ومُشرقة ومُركّزة!
لتكُن غايتنا بناء العراق والعمل لتخليصه من الحاقدين والكارهين والمتورّطين بالإرهاب والدم، وهذا يكون بالحبّ والحوار البَنّْاء وبلغة واضحة رقيقة مليئة بالحبّ والتسامح مع الآخرين العراقيّين!
dr_jasemj67@
ملاحظة:
نقلا عن صحيفة عربي 21