أدناه مقامة اليوم

أدناه مقامة اليوم

مقامة النوارزمية : فصلُ النورِ وحُجَّةُ الخوارزمِ .

حدثنا شيخنا أبو الفنون فقال : سِرْتُ في هذا الزمانِ الذي تَهادى فيهِ النورُ عن القُلوبِ , وغَدَتْ فيهِ الخوارزمياتُ تُطاردُ الفنَّ في كُلِّ الدروبِ , فإذا بي أَرى العُقولَ في حَيرةٍ وجدال , بينَ سُلطانِ الآلةِ وسِرِّ الجَمالِ , فَهَلْ ما تَنسُجُهُ الشاشةُ يُسمَّى فَنّاً , أمْ يَبقى الفنُّ مَنسوجاً بِالرُّوحِ , ولو كانَ مُنهالاً منَّا ؟وقالَ أبو الفنونِ:  وبينما الأسئلةُ تتسارعُ كالأكوادِ وتتشابكُ كالأورادِ , ظَهَرَ لنا مشروعٌ مِن صَميمِ القَلَقِ الإنسانيِّ , وهو ما سُمّيَ بِـ (( النوارزميةِ )) التي تَجمعُ النورَ الأبديَّ والخوارزميةَ في فُلكٍ سَرمديِّ , لِتُعيدَ للرَّسمِ والبَيانِ توازنَهُ المَفقودَ , وَوَعيَهُ المَشهودَ , وَمَعناهُ المَعهودَ , فانعَقَدَ المَجلسُ في دِيارِ ديالى الأثيرةِ , بجَمعيةِ الدكتور تحسين طه أفندي الكَبيرةِ , واجتمعَ فيهِ الحَشْدُ من أربابِ البلاغةِ والقلمِ , والفَنِّ والريشةِ , مُصغينَ إلى رُؤيةِ الأستاذِ الدكتورِ سَقاهُ اللهُ مِن مَنهَلِ العِلمِ صافي العَذْبِ والوَلَفِ , فما كانَ الدكتورُ داعياً إلى نَبْذِ التقنيةِ العَمياءِ , ولا مُنادياً بِرَفْضِها في صَميمِ الأحشاءِ , بلْ دَعا إلى ترويضِها بِالوعيِ الجَماليِّ المُطْلقِ , لِيَبقى الإنسانُ هو المِحورَ الذي لا يَخْتلِقُ , ولِيَظلَّ الفَنُّ فِعْلاً من أفعالِ الرُّوحِ الحَيَّةِ , لا نَتيجَةً من نتائجِ الخوارزمياتِ الآلِيَّةِ.

حدثنا أبو الفنون, راوي الزمانِ, عن حالِ العصرِ وبيانِ الأكوانِ, قال : أَلفيتُ نفسي أَطوفُ في زَمنٍ عَجيبٍ , غَدَتْ فيهِ التَّقنيةُ للرُّوحِ قَريبٌ , فاجتاحتِ الخوارزمياتُ دِيارَ الإبداعِ بجيوشِها المَرْمَوقَةِ , وتَشابكتِ الأكوادُ على الأفكارِ المَرمُوقَةِ , حتى باتَ السَّائِلُ يتساءلُ بِلَسانِ الهَمِّ والقَلَقِ : هَلْ ما تَصنعُهُ الآلةُ يُحسَبُ في سجلِّ الفنِّ الخَلُقِ؟ وأينَ مَنزِلَةُ الرُّوحِ الإنسانيةِ الوَقورِ , مِن هذا الفيضِ الرَّقميِّ الجَسورِ؟ ثم أضاف أبو الفنونِ :  فتَسارَعَ القومُ بَعدَ المَقالةِ بِالخَواطِرِ, وتَنادَوْا بينَ مُتفائلٍ وخائفٍ ومُكابِرٍ, فَفَريقٌ تَملَّكَتهُ الرَّهبَةُ من سَيلِ الذكاءِ المُصْطَنَعِ الطاغي, وخَشُوا هيمنتَهُ على الإبداعِ الباقي , وفريقٌ آخرُ رأى في الآلةِ يداً مُساعِدةً وخَزائِناً مَمدودةً , لِتَسْخيرِ إمكاناتِها الواسعةِ لِصالِحِ الرُّوحِ الإنسانيةِ المَوعودةِ , وَلإطْلاقِ الخَيالِ إلى مَدياتٍ سابِقةٍ وخَلفِيَّةِ , فيا لَهُ مِن جَدَلٍ مُحتَدِمٍ , في زَمنٍ قدْ أضحى فيهِ الإبداعُ إمّا نوراً بَصيراً , أوْ خوارزميةً تَحسِبُ وتُديرُ وتباركَ الذي جَمعَنا على هذا الحَديثِ , في مَحْفِلٍ بَيِّنٍ لا يَشوبُهُ البَخيثُ.

فلمَّا عَظُمَ الهَمُّ واشتدَّ الجدالُ على المَدى , في مَحْفِلُ ديالى ونَشأةُ الرُّؤيةِ , نَزَلَ الرَّكْبُ مَنزلَ الدكتور تحسين بَغيةَ الهُدى , في صَرحِ الفنّانينَ المُشَرِّفِ الشَّأنِ , مُصغِينَ إلى مَقالَةٍ زَلْزَلَتْ أركانَ البُنيانِ , خُطبةُ الأستاذِ الدكتورِ ذي الباعِ الواسعِ في العِلمِ والمَعرفةِ والجَنَفِ , أذ جاءَ الدكتورُ بِبِكرةٍ سَمَّاها ((النوارزميةَ )) المُشرِقةَ الوَجْهِ , وهيَ لَقاءُ النورِ الأزليِّ بالخوارزميةِ المُنيرَةِ لِلوَجهِ , هيَ المُوازَنةُ بينَ الإلهامِ الصَّاعِدِ مِن أعماقِ النُّفوسِ , وبينَ المُعادلةِ الهندسيةِ التي تَخْضَعُ لِكُلِّ دُروسِ , طَامِحاً في إِعادَةِ التَّوازُنِ إلى الفنِّ الذي مالَ وَجنَبَ , وإلى إحياءِ وَعيِهِ الذي كادَ أن يَذهبَ.

ولم يكنْ دعاؤهُ إلى عَدَمِ القَبولِ بالآلاتِ والمَعادِ , أو إلى رَفضِ التَّقنيةِ في حَضرِ البلادِ , بَلْ كانَ نِداءَهُ إلى مَركزيةُ الرُّوحِ وتَرويضُ التَّقنيةِ  بِسَوطِ الوَعيِ الجَماليِّ الرَّفيعِ , لِيَظلَّ الإنسانُ هو القُطبَ الذي يَجمَعُ ولا يَضيعُ , فالفنُّ عندَهُ ليسَ نِتاجَ صَناعةٍ رَقْميةٍ بارِدَةٍ , ولا خُطواتٍ مَنطِقيةٍ مُتَوالِيةٍ شَاردَةٍ , بَلْ هو فِعلٌ رُوحيٌّ يَصدُرُ عن جوهَرٍ, ونَفْخَةُ إبداعٍ تَسْكُنُ في أعمَقِ مَخْبرٍ.

ولمَّا انقضَتْ مَقالةُ الحكيمِ , وانقسم النَّاسِ بينَ الفَزعِ والأملِ , وماجَ المَجلسُ بالفَهمِ السَّليمِ , انبرى الحُضورُ في جَدَلٍ لا يَنقَضي , بينَ خَوفٍ مُتَرَسِّخٍ ورَجاءٍ مُفْضي , فَريقٌ تَملَّكتهُ هواجِسُ الهَيمنَةِ والغَلَبَةِ , وخَشيَ أنْ يَصيرَ الإبداعُ أسيرَ بَرْمَجَةٍ ورَقَبَةٍ , وأنْ تَفقدَ البَشَريةُ زِمامَ قُدْرَتِها , وتُسلِّمَ الفنَّ إلى الآلةِ في حُجْرَتِها , وفريقٌ آخرُ رأى في الذَّكاءِ الاصطناعيِّ سبيلاً مَفْتوحاً , ورُوحاً جديدةً للعَقلِ مَمنوحاً , يَسعى إلى تَسخيرِ هذهِ القوَّةِ الهائِلةِ , لِإطلاقِ الخَيالِ إلى مَدياتٍ شاسِعَةٍ ونائِلَةٍ , جاعِلاً من الآلةِ خادِماً لِلإنسانِ ومُعينَهُ , لا سَيِّداً يُحرِّكُهُ ويُهيمنُ على يَمينِهِ ويَمينَهُ , وختامُ القَولِ,  فيا لَها من رُؤيةٍ جمعتْ بينَ النورِ والخوارزمِ , رُؤيةٌ تُنيرُ لنا دَربَ التَّحدّي في هذا الزَّمنِ المُلغَزِ والمُبهَمِ .

أحدث المقالات

أحدث المقالات