رجل نصف مجنون يبحث عن إجابات كبيرة واستثنائية لأسئلة خالدة، متسولان احدهم على باب حانة، والآخر على باب مسجد، طفل رضيع وجد على باب مسجد، كائنات تعيش على هامش ذاكرة مدينة بائسة، في (فدق المهملين).. بأسلوب عدسة التصوير الذكية، وبطرقة الروبرتاج (تسال ، تحاور، تتفحص، تكتشف، تستنتج، تنزوي) وباستخدام تقنية السارد الضمني (الداخلي) الموازي للأحداث.. قدم لنا شهيد شهيد روايته (سارق العمامة) الصادرة عن دار سطور .. نص جدلي مؤدلج، حاول الكاتب من خلاله خلق ميثولوجيا دينية معاصرة لرجل نصف مجنون يدعي النبوة، وهو يعيش الساعة الخامسة والعشرين من عمره، بعد أن حقن بمادة سامة في مصحة للمجانين، عقاباَ لتجرئه على سرقة عمامة، ثمناَ لنبوة مفترضة، فوضى فكرية تطرفت إلى أقصى اليسار، ناتجة عن ردة فعل واعية، امتزج فيها الواقع بالخيال، لتطرح لنا رؤية مغايرة للمألوف، وعملية تبئير فلسفية جريئة وضعت في قوالب اجتماعية، تناولت جزئية مهمة من تاريخينا المعاصر، عن طريق خلق حالة من الموائمة بين استاتيكية الثيمة التي تناولها الكاتب، ومنهجه الفكري، وبين ديناميكيته وتعاطيه مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمجتمعه، وتأثيرها على أبطال روايته، استطاع من خلالها استحضار التاريخ بصورة أكثر تعاطياَ مع الحاضر وإرهاصاته، ليجعل من الزمن هو العنصر المحرك لفصول نصه، والهاجس الحسي والمادي الذي تحكم بسياق هذا النص المثير للجدل، الذي نزع في الكثير من محطاته إلى الصوفية، برؤى فلسفية مطروحة سابقاَ، استطاع الروائي بخبرته التي يبدو إنها نتاج دراسة دينية وفلسفية عميقة، أن يوظفها لتدوير هذا السفر الفلسفي الإنساني المتراكم، ويعيد صياغته بأسلوب أدبي، ويحوله إلى كائنات (تتحرك، تحب، تحلم، تتألم) .. ثلاث أبطال رئيسين كان لكل شيء متعلق بهم رمزيته وقصديته (أسمائهم، مهنهم،
تاريخهم، أفكارهم)، وظفهم لرؤية مثيرة للجدل قد تمثل جزء من الحقيقة أو تكون بعيدة عنها .. إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار إن الرؤية الأدبية هي ( وجهة النظر التي تعرض فيها الأحداث والوقائع والمواقف ) حسب تعريف الناقد جيرالد برنس.. لكن الكاتب بالرغم من تطرف رؤيته للواقع، ونظرة الارتياب اتجاه الآخر الذي يخالفه في قناعاته، إلا انه نجح في تجنب الوقوع فيما أطلق عليه الناقد البير جيمي (أدب الإخفاق)، أي فشله في تصوير الواقع، فقد كانت شخوصه تمثل جزء مهم من الواقع العراقي، تلك العينة الاجتماعية التي تمثل طبقة سحقتها الحروب والأزمات والانتكاسات، ولفظتها سنوات الجمر التي مر بها العراق في تاريخه المعاصر، فكانت له القدرة على صناعة شخصية بطله الإشكالي المؤدلج، المتمرد على واقعه والأطر الدينية والاجتماعية والسياسية المحيطة به، وقد وفق في ذلك، إلا انه ركز على الجانب الإيديولوجي للبطل وأهمل الجانب السيميائي فيه، إضافة إلى أن هذا البطل بدا للقارئ وكأنه انبعث من العدم ، فلم يمهد الروائي لحاضره بذكر جزء من ماضيه، وكأن بداية حياته كانت من تاريخ حلمه الافتراضي وحادثة سرقته للعمامة، التي كانت العتبة السردية للنص، والعكاز الذي تعكز عليه في الأحداث الدراماتيكية المتلاحقة التي أعقبته.. كان إيقاع النص هادئ يعكس أجواء البؤس والمرض والحرمان التي طغت عليه، ولم يتغير هذا الإيقاع حتى في أكثر أحداث الرواية احتداماَ وإثارة، أما اللغة فكانت نخبوية طغت عليها النزعة الفلسفية الصوفية، سردا وحوارا.
وهنا سأقف على أهم محطات النص:
1- أدلجة النص: كانت الرواية تمثل نصاَ فلسفياَ مؤدلجاَ، يحمل أفكاراَ ورؤى وطروحات تمثل وجهة نظر الكاتب وقناعاته المستمدة من التراث الفلسفي الإنساني، اتجاه القضايا التي طرحها ( وظيفة الأديان، علاقة المخلوق بالخالق، حتمية الفناء، القدر)، فقد كانت اغلب المشاهد ذات أبعاد رمزية تعبيرية، تمثلت باستحضار الشواهد التاريخية
والميثولوجية وجدلياتها الأزلية، كما في مشهد لقاء البطل في ليلته الأخيرة من حياته، مع أبي الحارث، نزيل الغرفة المجاورة له في فندق المهملين، والذي كان يمثل رمزاَ للشيطان، دار هذا الحديث حول إشكالية تاريخية ودينية وهي (مأساة إبليس ) كما أطلق عليها صادق جلال العظم في كتابه الذي حمل هذا العنوان، واصل الغواية، والخطيئة الأولى ..( أنا الفكرة الملعونة على امتداد التاريخ).
2- النزعة الصوفية: طغى على الوجه العام للنص نزعة صوفية، طرحت شكلا مغاير لما يجب أن تكون عليه علاقة الإنسان بخالقه، كان فيها البطل (خذروف) رقصة صوفية، يعيش حالة من الهيام المضطرب، مع اله رسم له في ذهنيته المتعبة صورة مغايرة عما إلفه الناس، يتكلم معه، يحاوره، يسأله ويحصل على إجابات مباشرة، يطلب منه أن يحقق له أمنيات غير منطقية .. يتكلم هذا البطل مع الحيوانات والأشجار والطفل الرضيع، كدلالة على وحدة الوجود، في حوار له مع الطفل اللقيط، يفصح فيه البطل عن طبيعة إيمانه بالله (أطمئنك بان هناك من لا يتخلى عنك، حتى وان تخلى عنك جميع البشر فانه سيكون معك.. الحياة لن تتوقف.. الله معنا).. وقد تأثرت هذه النزعة الصوفية بشكل واضح بفلسفة الحسين بن منصور الحلاج، الذي صرح لجلاديه قبل صلبه، بأنهم لن يجدوا تحت عباءته غير الله، كما في النص الآتي (ذلك الإحساس الذي أقنعني بان الله موجود في داخلي، وانه قد استقر في ذاتي، ولن يبتعد عني).
3- عنصر الزمن: يقول يحيى حقي ( كانت المثيولوجية الإغريقية تصور صراع الإنسان مع القدر.. لكن على الرواية الحديثة ان تعالج صراع الإنسان مع الزمن) .. كان الزمن يمثل هاجساَ حاضراَ في كل مفاصل النص، وأثر على إيقاعه بشكل كبير، فكانت الساعات والأيام تمر على البطل، وفق معادلة زمنية وضعت بين شاخصين، الأول لحظة هروبه من المصحة، والثاني قدرته على سرقة عمامة ثانية قبل انتهاء الأيام السبعة التي بقيت من حياته..(كنت أتمنى أن تمنحني الحياة
وقتا أطول للإفضاء بكل ما لدي، أمانينا لا يحالفها الحظ دائما، هذا ما يجعلنا نلجأ للتحايل على الزمن).
4- لغة الحوار: كان مستوى الحوار في حالة تناقض مع المستوى البيئي والثقافي لأغلب المتكلمين، فقد تفرد بمستوى عالي من الثقافة، وانطلق من منطقة وعي غاية في النضج والتعقيد، حمل في طياته أفكارا وطروحات رصينة، لا تتماهى مع مستوى المتكلمين الذين كانوا عبارة عن ( مهمشين بسطاء ومتسولين ولصوص)، واعتقد إن شهيد شهيد لجا إلى هذا الأسلوب للحفاظ على جدية النص، وقيمته الإيديولوجية.
5- تعضيد النص: استخدام الروائي تقنية ( التضمين) داخل النص، أي القيام بعملية زج شخصيات وقصص جانبية (ثانوية)، ساهمت في تعضيده وتماسك بناءه الهرمي، بطريقة تخدم الثيمة الرئيسية له.. شخوص يمثلون الجانب المظلم من الحياة، وقصص انتشلها الروائي من الواقع، وأضفى عليها بعد مأساويا، من خلال كشفه الدقيق لتفاصيل تلك القصص وتداعياتها المؤلمة على اصحابها، مثل قصص (أبي نؤاس، دكتور عذاب، أبي الحارث، قارئة الأقدار، الطفل الرضيع ). 6- رمزية الأسماء: استخدم الروائي مجموعة من الأسماء، لها دوالها الرمزية، وظفها حسب طبيعة وخلفية أبطال روايته، (طاهر) المتسول الطيب القلب النقي السريرة، ( عبد الله) اسم الطفل اللقيط الذي أطلقه عليه البطل كدلالة على غياب هويته ووحدته، ( أبي الحارث) كناية للشيطان، ( غريب) وهو الاسم الذي أطلقه البطل على نفسه، تعبيراَ عن غربته الحسية والمادية.