هناك قواسم مشتركة عدة بين سوق عكاظ في مكة وأية معركة شهيرة في تاريخ العرب، مع بعد الشُّقّة بين الموضعين واختلاف الحدثين، فالأول يسوده الأمان وحرمة القتل، والثاني يحوم في سمائه طائر الموت يحط فوق هامة كل مقاتل فلا يغادره الا صريعاً أو جريحاً أو ظافراً يعود الى أهله فرحان جذلا، ولعل أهم القواسم بينهما الفخر والاعتزاز بالذات وبالعشيرة وعموم النسب والحسب، فكما اشتهر سوق عكاظ بالمفاخرة الشعرية، إذ كل ينتسب لعشيرته ويطير بها في سماء الفخر والاعتزاز ليسمو بها وتسمو به ويخلق لها المنعة الذاتية من أي طامع، فان المقاتل المبارز لا يبدأ القتال الا بأرجوزة يفاخر بنسبه وحسبه كجزء من الحرب النفسية لبيان خطره في الحرب وشدة بأسه ونكير سيفه، فشهرة العشيرة والفخر بها تسبق بنصالها الصدور والنفوس قبل أن تحلّ السيوف النحور والرؤوس، ولذلك يصح القول بان سوق عكاظ هو ساحة حرب أدواتها القوافي وبحور الأنساب والأحساب، وساحة المعركة سوق عكاظ سلاحه الأراجيز في الذات والأصلاب، وهذه الحقيقة يسجلها القرآن الكريم كما يرى بعض المفسرين في قوله تعالى في الآية 200 من سورة البقرة: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ).
ولكن العَلَمَ، وهو اسم على مسمى، ليس بحاجة الى سوق عكاظ أو نادي شعر، واذا أرجز في حرب أو قتال أو مبارزة، لأن الأرجوزة بذاتها جزء من أسلحة الحرب التي تبعث الموت الزؤام قبل حلول الأجل ونزول الكتاب، ولم يكن الإمام علي بن الحسين السجاد(ع) (33- 92هـ) على سبيل المثال الى شعر الفرزدق همام بن غالب المتوفى عام 110هـ، حتى يعرف الناس من هو في حسبه ونسبه، عندما سأل الشامي عنه الحاكم المرواني هشام بن عبد الملك (71- 125هـ)، بعدما رأى الحُجّاج قد فتحوا للإمام السجاد(ع) الطريق ليستلم الحجر فيما عجز هشام عن ذلك رغم أنه من السلطة الحاكمة، فأنكره الأخير وهو يعرفه حقّ المعرفة، فسمع الفرزدق حوار الشامي فأجاب بقصيدته الميمية من بحر البسيط ومطلعها:
هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأته … والبيتُ يعرفه والحِلُّ والحرمُ
هذا ابن خير عباد الله كلهمُ … هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العَلَمُ
هذا ابن فاطمة إن كنتَ جاهلَه … بجدِّه أنبياءُ الله قد خُتموا
ثم ينهي القصيدة وهي في خمسة وثلاثين بيتاً بقوله وهو موضع الشاهد:
وليسَ قولُكَ مَن هذا بضائره … العُرْبُ تعرفُ مَن أنكرتَ والعجمُ
وإذا كان هذا من شأن الإمام علي بن الحسين(ع) فدع عنك القول في نسب وحسب أبيه الامام الحسين بن علي بن أبي طالب(ع)، سبط محمد(ص)، وإذا كان قد تقدم الى جيش بني أمية بخطبته الأولى في معركة الطف بكربلاء في العاشر من محرم الحرام عام 61هـ، معرّفا بنفسه، لأنه يريد أن يرفع الغشاوة عنهم ويلقي الحجة عليهم لئلا يقول قائل منهم جهلناه فجهلنا حقه، ولذلك قال لهم بصريح القول: (أيها الناس انسبوني مَن أنا ثم ارجعوا الى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمّه وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله(ص) بما جاء من عند ربّه؟ أوَليس سيد الشهداء عمّ أبي؟ أوَليس جعفرُ الطيار عمّي؟ أوَلم يبلغكم قولَ رسولُ الله(ص) لي ولأخي: “هذان سيدا شباب أهل الجنّة” فإن صدقتموني بما أقول وهو الحق، والله ما تعمّدتُ كذباً منذُ علمتُ أنّ الله يمقتُ عليه أهله).
وحتى لا يترك لسهم اليقين من منزع، ويحكمهم بالحجة البيّنة، قال لهم: (وإن كذبتموني فإنّ فيكم من إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله(ص) لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي!).. ولكنهم سفكوه وقطعوا النحر الشريف من القفى!
مقالة الإمام الحسين(ع) هذه، وما أعظمها وأعظم رزيتها في الإسلام، ساقني إليها الجزء الأول من كتاب “الحسين نَسَبُهُ ونَسْلُه” للعلامة المحقق الدكتور محمد صادق الكرباسي الصادر حديثا (2014م) عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 366 صفحة من القطع الوزيري.
مقاييس أخرى
لمجتمع عرب الجاهلية على شرك معظمه حسنات، ولا يخلو من سيئات، ربما لبشاعة الأخيرة وفضاعتها شاعت كوأد البنات عند بعض القبائل، وعلى خلاف جميع الحركات الثورية التي تتصف بالاستئصالية للعهد القديم وثقافته ورجالاته، فإن الإسلام جاء متناغماً مع الفطرة الإنسانية، يعزز من صدارة الخير ويضفي عليه حسنات فوق حسنات ويشذّبه من بعض الهنات، ويحاول لفظ الشر رويداً رويداً وبيان عظيم خطره قبل اجتثاثه نهائيا ليس أقل تشريعياً حتى لا يترك منفذا قانونيا يدخل منه الشيطان.
وبيان شجرة النسب والتفاخر بالحسب، من الأمور التي تعاهدها عرب الجاهلية، وظّفتها الرسالة الإسلامية بما فيه صالح الناس أنفسهم في مشارب كثيرة، فكانت الحمية العشائرية واحدة من موارد التعبئة الجماهيرية في الملمّات وعند الحروب، وعلى المستوى الاجتماعي جنّدها الاسلام في اتجاهات مختلفة تصب كلها في بوتقة السلم المجتمعي وشدة لحمة الأمة بما يعضدها في كل نائبة، فعلى سبيل استخدم العصبية القبلية في القضاء على العصبية الجاهلية عندما قال: (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذ كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال(ص): تحجزه – تمنعه- من الظلم، فإنَّ ذلك نصره) فعند ظلم الآخر، تتحقق النصرة بنصحه وردعه وأخذ الحق منه وردّه لصاحبه، وعند المظلومية، تتجلى النصرة بالوقوف الى جانبه وأخذ الحق له، وفي الحالتين هو انتصار له على طريق شد أواصر المجتمع ودفع الغائلة الداخلية عنه، على خلاف ما كان سائداً لدى عرب الجاهلية الذي ينتصرون للأخ حتى وإن بان ظلمه، حيث تقتضي الأعراف الوقوف معه ومشاركة ظلمه، وهي أعراف بعضها ظالمة عادت وتسربت الى المجتمعات المسلمة بعدما هجرت قرآنها وتنكبت عن تعاليم العلماء الأمناء الراسخين في العلم.
ومن التوظيفات اللطيفة للنسب والحسب، قول النبي الأكرم محمد(ص): (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبةٌ في الأهل، مثراةٌ في المال، منسأةٌ في الأثر)، فتعضيد الأواصر الأسرية المحققة لبث المحبة وثراء المال طول العمر، من الموارد التي ينحو اليها الإنسان السوي وينشدها، وهو جزء من التعليم المطلوب للأبناء على مستوى العشيرة حتى يعرف بعضهم بعضاً ويشد بعضهم من أزر بعض، فكلما كانت العشيرة قوية كان المجتمع قوياً والبلد في منعة وأمان، وبهذا فإن الرسالة الإسلامية تقويمية وإصلاحية بمقاييس إنسانية اجتماعية تضع الجميع في مصاف واحد أمام شرع الله.
ولا خلاف بين اثنين أن صلة رحم النبي محمد(ص) في أهل بيته هي الوصية التي تركها للأمة كما أوضحها مقطوع البيان الصريح في القرآن الفصيح: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) سورة الشورى: 23، ومن القربى الإمام الحسين(ع)، الذي يغوص المحقق الكرباسي في هذا الباب لبيان سلسلة النسب والنسل، كجزء من الوفاء لوصية نبي الإسلام(ص) الذي هدى الناس الى صراط مستقيم.
الأنساب علم خطير
على الرغم من أن أجزاء دائرة المعارف الحسينية المطبوعة بلغت تسعين جزءاً من نحو 900 مجلد منذ عام 1987م وحتى اليوم، فإن المؤلف ظل محتفظا بمنهجه في تعاطيه مع أبواب الموسوعة الحسينية حيث يقدم لكل باب بمقدمة وافية من سنخ ذلك الباب ليضع القارئ على أول الطريق وهو يتوغل فيه، ولأن “الحسين نسبه ونسله” باب جديد من أبواب الموسوعة الحسينية الستين، فقد سلك به مسلك التأصيل وبيان الجذور ليستبين الجذع منه الفروع والأغصان حتى تأتي شجرة الباب أكلها من العلم والمعرفة والتبيين.
وتأسيسا على هذا المنهج، فقد جاءت العناوين وشروحاتها بعد التمهيد على النحو التالي: علم الأنساب، مكانة علم الأنساب، النَّسَب والحَسَب، معرفة الأنساب، الكتابة في النَّسَب، المصطلحات، العلوي والطالبي والهاشمي، الشَّرافة، السِّيادة، العِمَّة، لون العِمَّة، الأدعياء، السبطان. وبهذه العناوين يقود المؤلف شراع التوثيق في بحر نسب الإمام الحسين(ع) ونسله صعوداً ونزولا في طبقات عشر.
يرى المحقق الكرباسي أن علم الأنساب والذي من خلاله تُعرف علاقة الفرد بأقربائه الذين يجمعهم رحم واحد، فتعرف علاقة هذا الشخص بالآخر بالأبوة أو البُنوّة أو الأخوّة أو العمومة أو الخؤولة وهكذا، لم يقتصر على العرب فقط الذين كانوا يعرفون سلسلة نسب الخيول ناهيك عن الإنسان، وإنما عرفته الأمم الأخرى وأُنشئت لهذا الغرض الدواوين والنقابات والبنوك، وتشتهر الدول الغربية اليوم ببنوك المشجرات لعوائلها وأسرها، بل إن العلامة الكرباسي سجّل سبقاً علمياً في هذا الباب وفي موارد عدة، فعلى سبيل المثال وبعد أن أعيته سبل البحث والتنقيب والتوثيق في المصادر العربية والفارسية القديمة والحديثة للحصول على اسم والدة الشاه زنان زوجة الإمام الحسين(ع)، التجأ الى المشجرات الغربية ومنها استطاع بعد فترة طويلة من البحث والتثبت الحصول على اسم وسيرة (مانيانة بنت فلافيس البيزنطينية) (16 ق.هـ -46هـ) زوجة الملك الساساني يزدجرد الثالث ووالدة السيدة شاه زنان التي أنجبت الإمام الحسين(ع) زين العابدين علي بن الحسين السجاد(ع)، وبالتالي فإن المشجرات كشفت عن حلقة مفقودة من النسب لم تذكرها كتب السير، كما استطاع من خلال هذه المشجرات كشف عدد من سير أعلام وردت ألقابها في كتب التاريخ والتراجم دون أسمائها وسيرها الذاتية، مثل رأس الجالوت وهو زعيم اليهود في المهجر (هسداي الأول ابن بستان “بستاناي” بن حاناي “حانيناي”) المولود في بابل عام 24هـ (645م) والمتوفي بها سنة 98هـ (717م) والذي اشتهر عنه القول: (ما مررت في كربلاء إلا وأنا أركض دابتي حتى أخلف المكان، لأنا كنا نتحدث أن وَلَدَ نبي يُقتل بذلك المكان، فكنت أخاف، فلما قُتل الحسين أمنت، فكنت أسير ولا أركض).
ولعل من مصاديق علم الأنساب كما يعتقد الفقيه الكرباسي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة الحجرات: 13، فالتعارف مدعاة الى معرفة النسب، وعلة ذلك كما يضيف الكرباسي: (كي يُنسب الشخص الى قومه، ولا تختلط بسبب عدم معرفته لمسائل النكاح والأرث والوقف والعتق وغيرها).
وبشكل عام فإن النسب مأخوذ من نسبة الشخص الى الآخر كأن يكون الآخر أبا أو أخاً أو أمّا أو جداً وهكذا، والحسب مأخوذ فيه الفخر والمكانة الإجتماعية والوجاهة، والنسب أحد أوجهه إضافة الى كثرة الأبناء والمال. ولا يصح لكل انسان الخوض في هذا العلم من دون أدوات محكمة، فهو علم خطير له أربابه، لأن في الأنساب احقاق حق وإبطال باطل لمن لا يبيع آخرته بدنيا غيره، وفيه تضييع للأنساب والحقوق لمن اشترى سخط الخالق برضا المخلوق من أجل مال زهيد ودنيا زائلة، وقراءة للتاريخ نجد أن أدعياء النسب وبخاصة لرسول الله عبر ابنته فاطمة يكثرون عندما تحصل هزات سياسية واجتماعية ولاسيما في البلدان التي تكثر فيها الحواضر العلمية ومراقد الأئمة والصالحين والأولياء، بلحاظ أن الانتساب لاهل البيت(ع) عامل جذب اجتماعي وسياسي واقتصادي ووجاهتي، وقد شهدنا على سبيل المثال في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين كثرة الأدعياء بل ان الرئيس العراقي الذي اعدم عام 2006م بعد محاكمة طويلة، هو واحد من هؤلاء الأدعياء كما يؤكد المحقق الكرباسي في فصل “الأدعياء”.
ولاشك أن المظهر الخارجي للإنسان كاشف عن نسبه وحسبه في الكثير من المجتمعات، فالتمايز في المظهر والزي في أساسه لم يكن على خلفية المكانة الإجتماعية لرفع إنسان وحط من آخر، لأن الناس كلهم أمام الله واحد، وأمام الشرع والقانون واحد، بقدر ما هو تمايز في أصناف العمل والمهن، وتمايز في المناسبات العامة الخاصة، وتمايز في الشعارات والألوان والزي للتفريق بين مجموعة وأخرى من باب التثبت والمعرفة، ومن الطبيعي أن تكون ألوان العمامة والملابس وأشكالها وأزيائها من أبرز المظاهر الخارجية الدالة على ماهية الشخص نسبا أو حسباً أو ديناً أو مذهبا أو مهنة وأمثال ذلك، وفي هذا المجال يفصّل المحقق الكرباسي القول في اللباس والعمة وألوانها بما يتعلق بنسل الإمام الحسين(ع)، حيث جرت العادة أن يعتم من ينتسب اليه(ع) بعمامة سوداء أو فينة خضراء أو يتحزم بقماش أخضر أو يضعه على كتفه، واشتهر لبس السواد في أحزان أهل البيت(ع) وبخاصة العشرة الأولى من محرم الحرام على أن المؤلف يرى: (إن اللون الأسود أصبح شعاراً لآل الرسول(ص) منذ أن قُتل يحيى بن زيد بن علي بن الحسين(ع) على يد الأمويين سنة 125هـ وصُلبت جثته على باب مدينة الجوزجان- من أقضية خراسان- وبقي مصلوباً حتى جاءت المسودّة –أصحاب الرايات السود- فأنزلوه وغسّلوه وكفّنوه وحنّطوه ثم دفنوه).
أسماء وألغاز
لم يشذ هذا الكتاب عن أمثاله من أجزاء الموسوعة الحسينية التي فيها خزين من الأسماء مثل (معجم أنصار الحسين) أو (معجم خطباء المنبر الحسيني) وغيرهما، حيث عمد المؤلف عند تناوله طبقة الإمام الحسين وطبقة والديه وبقية طبقات الأجداد والجدات الثمان، الى بيان أصل الإسم ومنشئه وتحوله الى اسم علم يتداوله الناس للذكر والأنثى، لما فيه من فائدة جمّة، فالأسماء كثيرة وكثرة تداولها للعَلَمية تنسي الإنسان عن فهم معناها أو حتى السؤال عنها، وهذا ما لا يقبله المحقق الحاذق ولا يمر عليه مرور الكرام.
وفي هذا الحقل تظهر أمور، ربما تكون معروفة عند التداول، ولكنها غير مفهومة المغزى والمضمون وهي أقرب الى الألغاز والأحاجي منها الى المعرفة، ومن ذلك وصف العرب “الخبز” بأبي جابر أو جابر بن حبّة، وهو وصف مأخوذ من اسم جابر، وهو بمعنى: (اعادة الشيء الى ما كان عليه من الصلاح ومنه جبر الكسر، ومن هنا سمي الخبز بأبي جابر لأنه يجبر الجوع، وكُنيت الهريسة بأم جابر لما فيها من القمح الذي يجبر الجوع)، ويضيف الكرباسي: (ومن الوصف هذا انتقل للعلمية منذ الجاهلية ويراد به من يجبر القلب الجريح ويسد جوع البطون الخاوية، ويعين من لا معين له). ويُقال للخمرة السوداء “أم ليلى”، لأن من معاني ليلى النشوة بفعل الخمرة المعتقة الشديدة السواد أو غيرها، على انه يُطلق ليلى على الليل الطويل الشديد السواد أيضا.
ومن الأسماء الداخلة في طبقة الأجداد درهم ودينار، وهما اسمان غير عربيين قيل جاء من اللاتينية وقيل من الفارسية، وعندما سئل الإمام علي(ع) عن أصلهما قال: (إنما سُمّي الدرهم درهماً لأنه دار همّ مَن جمعه ولم ينفقه في طاعة الله أورثه النار، وإنما سُمّي الدينار ديناراً لأنه دار النار، مّن جمعه ولم ينفقه في طاعة الله فأورثه النار).
ومن تلك الأسماء ربيعة، وهو مؤنث الربيع: (وإنما قيل لأحد فصول السنة بالربيع لأنه ربعها، ثم استخدم في كل ما هو خصب ومُثمر بمناسبة المواسم، ومن هنا انتقل الى العَلَمية في الذكور، وربيعة هي الروضة).
ومن الأسماء الواردة هو اسم “كلاب” الدال على الشدة والسبوعية اتخذ اسماً عَلَماً، وكلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النصر بن كنانة، الوارد اسمه في طبقات أجداد الإمام الحسين(ع)، يضيف الكرباسي: (كان كلاب أول من سمّى الأشهر العربية الهلالية بالأسماء المعروفة الى يومنا هذا بدءاً بمحرم وانتهاءً بذي الحجة، وكان سيد قومه ووصي أبيه وعنده ودائع النبوة فاستلمها من أبيه وأودعها لابنه قُصي وكان يحمل النور المحمدي، وكان ظاهراً فيه حتى كان يُدعى: ذا الغرة، لنور كان يشرق بين عينيه).
ولأنّ الإمام الحسين(ع) كشخص ورسالة، عابر للقارات واللغات والأديان والأجناس، فقد اطلعت الأديبة والطبيبة السريلانكية، الهندوسية المعتقد، الدكتورة لكشينيسري دارماسنا على الجزء الأول من “الحسين نسبه ونسله” وعبّرت عما يجيش في صدرها باللغة التاميلية فكتب تحت عنوان “الحسين حاجة العصر”: (في زماننا هذا الذي تتعالى فيه شعارات التغيير وبالأخص في العالم العربي ضد الاستبداد والظلم وضمور العدالة، يمكننا أن نفهم الحسين ونهجه، ونتفهم نهضته. إن الإمام الحسين(ع) منذ 1400 سنة كان المحور الأساس للفكر النهضوي، ولاشك أن فكره لم ينحصر في فئة خاصة، ولم تكن النهضة تنحو باتجاه ارساء الحرية فحسب، بل هي حاجة كل عصر لانجاز الحقوق وتنجيزها في الجانب الإجتماعي وتطبيق العدالة الإجتماعية والاقتصادية واحياء حقوق الانسان كأمة وكفرد).
وحول المنجز المعرفي للمحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي، أضافت الدكتورة دارماسنا وهي من ولاية فافونيا: (أصابتني الحيرة والدهشة وأنا أكتب عن هذا الجزء من الموسوعة الحسينية المتعلق بالشجرة الطيبة والأسرة النقية للإمام الحسين(ع)، حيث أقف اجلالاً للدكتور محمد صادق الكرباسي الذي كتب مئات المجلدات عن شخصية واحدة، ويبدو أن عدد الأجزاء لن يقف عند حد معيّن. في اعتقادي ان الشيخ الكرباسي مثله كمثل صاحب الموسوعة، فحيث لم تكن نهضة الحسين محدودة بالمسلمين، فإن دائرة المعارف الحسينية بوصفها كنزاً معرفيا تتجاوز فائدتها العلمية دائرة المسلمين، وكما ان الحسين غير محصور بالمسلمين فإن الموسوعة الحسينية تسير على ذات المنوال).
لا يساورني الشك بأن موضوع نسب الحسين(ع) ونسله، من الموضوعات الشائكة، لاسيما وان المؤلف ألزم نفسه بذكر النسب في جانبي الجد والجدة، أي الذكور والإناث، حتى وصل بسلسلة النسب الشريف الى النبي آدم(ع) جد البشرية الحالية، والمجتمع العربي مجتمع ذكوري، وزاد من اهمالهم لذكر أسماء الأمهات والجدات تكاثر الإماء وما تخلفه الحروب، وحسب تعبير المؤلف: (وما إن دخلت الإماء في مجتمعاتهم خصّصوا الأنساب بالآباء دون الأمهات)، بل إن ذكر اسم الأم في عدد من المجتمعات العربية والإسلامية هو في عداد السُّبّة والشتيمة ومدعاة للمشاجرات والمناكفات وقد تسيل بسبب ذلك الدماء، فتُنسب الأم الى نجلها أو زوجها لتفادي النطق باسمها، وربما اعتبره البعض نوعاً من الاحترام والصون لها، ولكن في تقديري هو نوع من الظلم الذي لحق بالمرأة التي يُراد إخفاء اسمها بعد رسمها، وما يفعله المحقق الكرباسي في هذا الجزء وأضرابه هو انتصار للمرأة بإحياء اسمها وعدم الاكتفاء بالرجال من طبقات أجداد الحسين(ع)، وهذا الجهد المعرفي جانب من ابداعات المحقق الكرباسي في الموسوعة الحسينية، ينم عن تبحر واسع في علم الأنساب وفي غيره من العلوم.