22 نوفمبر، 2024 11:58 م
Search
Close this search box.

أدران الكلام  في مقال سعد الدغمان/ حق الرد

أدران الكلام  في مقال سعد الدغمان/ حق الرد

قبل نحو تسعة أشهر نُشر لي فصل بعنوانسنوات الجنديةمن روايةسيريةفي موقع كيكا؛ وبعد وقت قصير من نشره تفاجئت بجريدةالصحيفة العربيةالتي يترأس تحريرها القاص عبد الرضا الحميد بإعادة نشر فقرات من الفصل دون الاستئذان مني أو الاشارة الى الجهة التي اقتبس منها، وقد تلاعب المحرر بترتيب الفقرات على هواه مما أزعجني ذلك، ولم أكتب للصحيفة آنذاك بشأن الأمر لأنني مشغول بأمور حياتية أهم من تلك المسائل، وها هو الكاتب سعد الدغمان يقرأ تلك الفقرات المقتطعة من الفصل ويُسقط عليها أراء متناقضة أقرب الى الاختلاط بالمنظور منها للقراءة  الفاعلة البناءة  بمقاله المنشور في موقعكتاباتعدد  الجمعة الموافق 18 كانون الأول 2015 تحت عنوان: ” كاظم الحلاق سنوات الجندية وأحكام القدر، فتارة يحاكمها باعتبارها قصة قصيرة  وتارة يقول إنها سيرة روائية ويقاضي فيها موقفي الأخلاقي من الحرب وتارة أخرى يصفها بيوميات أو أشياء من هذا القبيلسأرفق الفصل كاملاً في نهاية ردّي هذا لكون أن محرر موقع كيكا الصديق الروائي صموئيل شمعون أعاد تصميم الموقع واختفى الفصل من الأرشيفإن من أصول الكتابة النقدية قراءة العمل كاملا ثم الكتابة عنه، أنا كتبت رواية كاملة تحتوي على أكثر من خمسين فصلا نُشر بعضها في جريدة الزمان وكيكا ومجلات ثقافية ومواقع أخرى لا مقاطع مبتسرة،  ومع ذلك سأوضح رأيي بشأن ما جاء في مقال سعد الدغمان.

 كما أشرت انني مشغول جدا وغير متفرغ للمهاترات الثقافية والكتابات السطحية المجانية التي تعتاش على إبداع الآخرين.. و لا لتضييع الوقت الثمين بما قال فلان أو ما كتب علان، ثمة كتب مهمة عديدة عليّ قراءتها كما أفلام سينمائية أرغب في مشاهدتها وكتب شرعت في تأليفها وأريد انجازها ونشرها قبل أن تحين ساعة موت جسدي المادي وأغادر هذه الأرض التي أعشقها على الرغم  من أنها أذاقتني الكثير من المعاناة والعذاب  لدرجة البكاء أحيانا..، لكن ها إني أجد نفسي مضطرا للرد على  سعد الدغمان وأنا شبه متأكد بأنه قد قرأ فقرات الفصل تلك في أرشيف غوغول مؤخراً عبر البحث عن اسمي لكونه لم يذكر الجهة التي قرأ فيه مادتي،  ولا أدري ما الذي ذكّره بالفصل ليكتب عنه الآن لأنه نشر قبل شهور عديدة؟ ولا أدري ما النفع من تحبير سطوره وبذله للجهد والوقت الغالي، أو ما دافعه من كتابة المقال؟ هل يريد مني مثلا أن أتوقف عن اكمال روايتي  حتى تحين اللحظة التي يبارك فيها أفكاري ومواقفي وطريقة سردي لأكون مقبولا من طرفه؟ في الواقع أنني لا أعرف من هو سعد الدغمان ولم اقرأ له شيئا من قبل، هل هو ناقد أدبي(بنيوي)!؟ هل هو محلل سياسي محسوب على النظام السابق؟ هل هو كاتب خواطر نقدية يجامل بها الأصدقاء والمعارف؟ هل كان يعمل داعية لتجنيد الشباب كي يلتحقوا بالجيش حينذاك تحت ذريعة الحرب الوطنية؟ حقا لا أعرف!

 قبل أكثر من سنتين تناولني أحد الكتّاب بترّهات في الموقع  نفسه لا عن كتاباتي إنما عن حياتي الشخصية، وحينما رددت لم ينشر أياد الزاملي ردّي مما جعلني استاء جدا وأشعر بالغبن، مفكّرا بأنه فعل ذلك  بدافع من الاخوانيات أو المحاباة لصاحب الترّهات، غير ملتزم بقيم وأعراف حق الرد في الصحافة مما جعلني أنشرهصابرا على الأذىعلى صفحتي في الفيسبوك وقتذاك. أتمنى أن يكون الأمر مختلفا هذه المرة  ويقدّر أياد موقفي ومشاعري وتنشر كلماتي هذه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. إدناه سأتناول فقرات مقال سعد الدغمان  فقرة فأخرى..

يقول: ” فيما أورده كاظم الحلاق من فقرات احتوتها سرديته(سنوات الجندية)،مصيرنا يسوقه القدركتبها كاظم الحلاق بطريقة السرد المجرد من الفنية التي لابد ان تحتويها القصة كمكون أدبي يشمل أركانا أربع هي: القصصية، والجرأة والوحدة والتكثيف، ويضاف لها عنصري الزمان والمكان والفاعل، لتكتمل الجوانب الدلالية والشكلية والبصرية ولتكمل الاركان المذكورة المكونات الداخلية وتحيط بالتقنيات الخارجية، ومن المؤكد ان لا يتم اغفال العناصر البنوية التي تميز القصة“.

أقول: إنني قرأت الكثير من الكتب والمقالات النقدية التي تتحدث عن بناء القصة القصيرة ومقوماتها لكنني لم أرَ أحد المنظّرين يشير إلىالجرأة”  كسمة أو عنصر من عناصر السرد  لكون ان الجرأة تخص صفات الأشخاص الذين يسرد عنهم  وليست إحدى مقومات السرد أو عنصرا من عناصر القصة

أيضا يشير إلى كلمة الفاعل فما الذي يقصده؟ هل يعني الشخصية الرئيسية؟ الكتب النقدية تتحدث عن عناصر كثيرة في الرواية كالمنولوج والحبكة والتشويق والوصف  فضلا عن عناصر أخرى كالتكثيف والخيال والزمان والمكان كما يذكر الدغمان..

 يتحدث النقاد أيضا عن الشخصيات في العمل الأدبي ولا يتحدثون عن الفاعل، كتب النحو تتحدث عن الفاعل والمفعول والصفة إلخ  قد تحتوي الرواية على  شخصية رئيسة وشخصية ثانوية أو أكثر، وشخصيات أخرى فاعلة أو هامشية تتوزع عليها الأفعال والأحداث. من المؤكد أن الأمر يختلف في القصة القصيرة حيث التركيز ربما على مشهد واحد في حياة الإنسان أو غير الإنسان.

هذا من جانب ومن جانب آخر في الفقرة أعلاه  ان سعد الدغمان يحاول أن يكون ناقدا أدبيا ولا يعرف كيف يكتب العدد فيقول: ” يشمل أركانا أربعوالصحيح أركانا أربعة لأن العدد يخالف المعدود من ثلاثة إلى عشرة.

يقول سعد في الفقرة التالية:

عمد لذكر تفاصيل اعتقاله وأصدقاءه من قبل ضابط الشرطة على الطريق ، وكان تناوله للموضوع تجسيداً لتحكم الأقدار بمصائرنا كبشر دون أي تدخل منا ، ومن ثم جاء ليسرد معاناته بما لاقاه من قبل أجهزة الأمن من تعذيب ليكرس صورة طالما تحدث عنها الكثير لكنهم لم يذكروا بأنه أخطأ ولابد له من عقاب ، أي إن الحلاق كان قد اخطأ بهروبه من الجيش وهو واجب وطني بغض النظر عن صيغة أو نظام الحكم ، ومن يخطأ لابد له من عقاب ، إلا أن كاظم أغفل نقل الحقيقة وذهب ليقول انه تعرض للاضطهاد ليوحي للقارئ بأنه لم يرتكب جرماً، وهو تظليل مارسه الحلاق بعيداً عن الحقيقة التي يجب أن يواجه القارىء بها اعترافا بالخطأ كفضيلة“.

 ويُخطئ سعد الدغمان هذه المرة في الإملاء حيث يكتب في السطور الثلاثة الأخيرة المتقدمة :” ومن يخطأ لابد له من عقاب..” والصحيح  ومن يُخْطئ.. لأن الماضي أخطأ..

 لقد قلت ما معناه  في فصل سنوات الجندية  وها أنا أكرر بأنني لا أومن بالحروب أيّا كان نوعها ولا بقتل الآخرين بطريقة الحرب أو غيرها لهذا تحملت ما تحملت من مشقات وعذاب لكي أتجنب  فعل القضاء على حياة إنسان آخر طالما ثمة في اليد وسيلة للتجنب، من وجهة نظري ان حياة الإنسان غالية ولا تقدر بثمن سواء من الجانب العراقي او الإيراني لذا تخليت عن القتل وهجرت العدوان لكي أعيش بسلام وأدع الآخرين يعيشون بسلام، مقدرا فرصة الحياة التي لا تتكرر بسهولة، كما لعدم إيماني لا بحزب البعث ولا بالحروب التي خاضها ولا الإيمان بالأدران والاسقاطات المشوّهة التي ينادي بها الدغمان.

إن الحرب التي شنها حكام البعث ضد إيران لم تكن حربا عادلة بل مقامرة ومغامرة عدوانية أرادت كسب تأييد أمريكا والقضاء على الثورة الاسلامية الوليدة ضد نظام الشاه المخلوع. تلك الحرب التي يدين سعد الذين فروا منها ويصف فعلهم بالمشين ولا يتصف بالرجولة كما الحروب الاخرى هي التي أدت الى انهيار اقتصاد بلدنا وقتلت خيرة الشباب العراقيين ودمرت وهجرت ملايين العوائل وأفضت في النهاية الى اسقاط صدام.. لذا أقول يشرفني جدا( أقولها دون ذرة من الندم حتى الأنفاس الأخيرة من حياتي) انني هربت منها ولم أقتل أحداً ولم أكن أداة للقتل  بيد أحد لا فيها ولا في حرب الكويت. فهل من الرجولة غزو دولة عربية جارة ونهب خيراتها والاعتداء على أعراض أهلها وسرقة ممتلكاتهم وأموالهم وتشريدهم؟!

كلام سعد الدغمان  ممكن أن أسمعه من أي رجل أمن  ينتمي لنظام الحكم السابق  وليس من شخص قد يكون له اهتمام بتذوق الإبداع والنقد الأدبي، إنني اتساءل هل يكمن الجرم في الهروب من عسكرية نظام حكم فاسد دمر بلدا كاملا بأرضه وأناسه وخيراته وجعله فريسة سهلة لمن هبّ ودبّ؟ أم أن الجرم يكمن في المشاركة في حرب غير عادلة وقتل الآخرين تحت ذريعة أن الحرب كانت حربا وطنية وكانت يفترض بي أن أشارك فيها؟

 في الفقرة التالية يغيّر الدغمان طريقة استقباله للنص فيصفه بالسيرة الذاتية او اليوميات عوضا عن مقاضاته له في بدء مقاله كما في نهايته بانه قصة قصيرة ويدافع عن حكومة البعث وينصّب ذاته بديلا عن القراء ويقع في التناقص مع نفسه؛ فمرة يقول بأن الأدب يجب أن يتسم بالخيال وأخرى يقول بأن الحلاق لم ينقل الحقيقة وظلل الآخرين، وكأنني مؤرخ أو ناقل للواقع بشكل حرفي، فأية حقيقة يريدها الدغمان من سيرتي الروائية؟ إنها رواية يمتزج فيها الخيال بالواقع حسب ضرورات السرد والبناء والتراكمات اللاشعورية، ومن حقي أن أصف فيها ما عايشته واختبرته مبينا موقفي منه. كما يتحدث بالاسلوب نفسه عن الدفاع سلطة البعث كأي ضابط أمن وليس كمتذوق للفن.

 ويُخْطئ في النحو مرة أخرى إذ يقول في بداية الفقرة التاليةلا تعدوا كونها سطور إلخوالصح أو الصحيح لا تعدو عن كونها سطورا .. إلخ

الحقيقة لم استمتع بما كتبه كاظم الحلاق من سيرة ذاتية أو يوميات ، وهي لا تعدوا كونها سطور توحي بالتحايل أو التململ من أداء واجب أو خدمة مفروضة على الجميع بحكم قانون سائد حينها ، وأن عملية الالتفاف على القانون لا تستهويني أبدا كما لا تستهوي القراء ، وعدم دمج الحقيقة مع النص أو الاعتراف بالخطأ هو بحد ذاته عملية استغفال للقارئ بقصد كسب وده تجاه معاناة خلقها الحلاق لنفسه ولم تكن مفروضة عليه ، أي لم تكن السلطة حينها مسؤولة عنها بقدر ما هي نتيجة لتصرفات الحلاق نفسه لابد أن يصل إليها بتصرفه هذا“.

إنني أسال سعد الدغمان كيف أنني خلقت المعاناة لنفسي؟ هل أنني أوجدت نظام الخدمة العسكرية الطويلة التي هربت منها والتي شلّت ودمّرت أجيالا من الشباب واقحمت حياتهم في حروب لا منتهية  ودون مغزى وضيعت عليهم فرصة الاستمتاع بالحياة كبقية شباب العالم؟ أوليست الخدمة العسكرية كانت الزامية في العراق والذي لا يلتحق بها يكون مصيره السجن أو الموت؟!

يواصل سعد خلطه للأمور وتناقضاته فيما أدناه إذ يقول:

أستحضر كاظم العناصر فشملت قصته المكان الذي دارت حوله الحبكة ( وحدته العسكرية) وداخل أمكنة أخرى للدلالة على إتمام المعنى العام ( البصرة ، العمارة ، الكويت ، مزارع أم قصر، الحدود) ، وبين هذه الأماكن دار الحوار الذي اختصره مع نفسه يحدثها الهرب من الجيش وهو فعل مشين في العامة وقيم الرجولة، أراد الحلاق تصويره بأنه شرعي ليرضي أهواءه معللاً تصرفه بما نسبه للسلطة أو النظام ، لكنه كان واقعياً حين افرد للحوار مع والده مساحة بين فيها ما ذهبنا لوصفه بأنه فعل مشين على لسان والده حين قال : (أخبرت والدي بما عزمت عليه، أيّ الفرار من الجيش، لامني كثيرا.. قال لا أحب أن أراك بهذا الوضع، كن شجاعا واقتنع بقدرك، إنها حرب وطنية ولا يهم مَنْ هو القائد، دافع عن وطنك ولا تقم بهذه الأفعال السخيفة. لكني لم أصغ إليه)، وهنا دفع كاظم الحلاق عبر كلام والده القصة لتنحو منحاً واقعياً وليس سردياً بنقله واقعاً معاشاً وحقيقة ثابتة يعلمها الجميع ، وهي المفترض أن تكون من باب سيادة الواقع على أدوات القصة وفرضه لما هو كائن ، لا الحلم أو التصور ، كون الأدب الذي يضم القصة كإحدى مكوناته هو نتاج الواقع المعاش لا الأحلام“.

ويناقض نفسه مرة أخرى بشأن ما قاله  في السطور الأخيرة من الفقرة اعلاه بما يلي إذ يقول:

تداخلات النص السردي بين المتوقع والحاصل عكس عدم تمتع الحلاق بأسلوب الخيال الذي من المفترض أن يضفي على القصة صفة التشويق ليستمتع بها القارىء“.

أقول لسعد إن الهروب من تلك الحرب هو قمة الرجولة المتسمة بالالتزام الاخلاقي والروحي وإن إيمانك بها ودفاعك عنها هو رمز للمهانة وقبول للخضوع والمذلة التي ينأى عنها الرجل الحقيقي.. أما عن رأي الأب الذي اعجبك لأنه تماشى مع عقليتك البعثية فإنني وضعته على لسان الأب  كمقابل لوجهة نظر الابن من أجل خلق التوتر في السرد والابتعاد عن وجهة النظر الأحادية.

وفي النهاية ها إنني أثبّت الفصل الروائي كما نشر في موقع كيكا في الشهور الاولى من سنة 2015، وأترك الحكم للقراء إن كان يتمتع بفن وجمالية السرد أو يخلو منهما:

 

سنوات الجندية

فصل من رواية

 

الحرب تكنس الوطن

في عام 1985 أصحبت سجينا ومريضا نفسيا، كان وقتا قد كنست الحرب فيه الوطن بأسره، انتشرت اللافتات السود على بيوت( الشهداء) بالأسماء وتواريخ وأمكنة الموت. كانت الطريقة الوحيدة لتجنب الخدمة العسكرية الإلزامية في سن الثامنة عشرة هو البقاء في الدراسة، خارج الدراسة  للشباب والرجال العراقيين اختياران: الالتحاق بالعسكرية ومواجهة الموت في المعارك أو تجنبها بالهروب وحمل صليب الخطر. فكنت كلما اقترب موعد الخدمة العسكرية  أكثر ازداد هلعي واشتدت كآبتي.

كان إلى جوار  محل الحلاقة الخاص بي عيادة لطبيب نفسي  يأتي للحلاقة بين حين وآخر فنشأت بيننا صداقة ما. لم يكن الطبيب يحب الحكومة وكان يسخر من أناشيد الحرب وصور الرئيس وهو يعلق أنواط الشجاعة على ( الخراف)، هكذا يصف الضباط. جاء أحد الأماسي إلى المحل فرحت أبثُ له شجوني ومعاناتي وكراهيتي للعسكرية. قال هناك حل للخلاص من الحرب، لكنه حل يتصف بالمتاعب الطويلة إذا ما أردت الإبقاء على حياتك. انتابتني فرحة كبيرة بمجرد سماعي ذلك، قلت ما هو الحل؟ قال وابتسامة مشجّعة تطوف على أسارير وجهه: إن تمثل دور المجنون. قلت له كيف؟ قال سأزودك بالتقارير الطبية وأشير فيها بأنك  مريض بالبارانويا وأنك تراجعني منذ سنتين. كانت لدي بعض المعرفة والقراءات في حقل الطب النفسي  ومذكرات الجنون، فحدثت نفسي أنه بوسعي فعل ذلك. أردف أن المريض بالبارانويا لديه فكرة ثابتة  أنه مطارد من قبل الآخرين، أي أنه يعتقد بأن  الناس يتجسسون عليه ويلاحقونه، وفي الحالات الخطيرة والمزمنة يشعر بأن هناك أجهزة تلتقط أفكاره أو أن التلفزيونات تتحدث عنه أو ثمة كاميرات سرية تراقبه  حتى في مكان عمله. قلت وماذا بعد؟ فأجابني: يتصف سلوكه وتفكيره بالمنطق رغم تلك الشكوك المبالغ بها، قلت وإذا ما اكتشفوا أنني أمثّل ربما سيدمرون لي عقلي. قال كيف يكتشفون ذلك، المسألة تتعلق بداخل عقلك فقط، لا أحد يدري ماذا يدور هناك، وأرجو منك أن تحافظ على هذه المسألة ولا تطلع أحدا عليها. قلت إنني أخاف من أن يستخدموا الصدمات الكهربائية وبذلك أفقد وعيي إلى الأبد، قال في مثل حالتك  لا تحتاج  للصدمات، وحتى وإن فعلوا، أظن أن ذلك أفضل لك من أن تموت في ساحات القتال بينما الديكتاتور وأصدقاؤه وقادته العسكريون يستمتعون بالمباهج الدنيوية. بعد أن أتممت  حلاقته، أغلقت المحل وذهبت معه إلى عيادته.

 جلس هو بعويناته السميكة وجسده الضخم وراء مكتبه، فتح سجلا ودون بعض المعلومات عني، ثم سألني ألا تشعر بالخوف، ألا تشعر بكوابيس مرعبة تطاردك، ألا تشعر  حين تجلس في المقهى بأن هناك من يتنصت عليك ويسجل أحاديثك ؟ نعم أجبت، مضيفا أن كل شخص يشعر هكذا في العراق. قال لا تقلق أن المريض بالبارانويا يشعر بالمشاعر نفسها لكن بدرجة مبالغ فيها، وهكذا زودني بالتقارير. أيضا زودني بدواء الآرتين، العقار الذي عادة ما يوصف للمصابين بمرض الباركنسون ويُحدث هلاوس وتغييرا في الشخصية إذا ما تناوله شخص غير مصاب بالارتعاش. قبل أن أغادر اقترح عليّ أن اقرأ بعض الكتب عن الأمراض النفسية والعقلية.

أن تفضّل الجنون متطلعا نحو وهم يائس، باحثاً عن أي شيء يمكنه أن يهدئ العقل، وبادعاء الجنون كنت قد وجدت الوسيلة، ويصبح الجنون رغبة، ليس هناك من أمل بالخلاص من الحروب وقتل الآخرين والموت إلا بالجنون، فقدان الوعي وتحمل حقنالمودكيتالموجعة التي يبقى أثرها في جسدك لعدة أيام، كان الإغراء يكمن في أن أتلبس وعياً آخر، حياة هي أبعد ما تكون عما فكرت وحلمت في المستقبل.

وحينما أنهيت دراستي التحقت بالخدمة العسكرية  في بداية شهر اكتوبر1985، أولا في معسكر للتدريب في ضواحي بغداد، بقيت فيه مدة شهرين ثم نقلت إلى معسكر آخر في محافظة الناصرية حيث انعزلت عن الجنود وتركت لحيتي تنمو وأخذت أنام قرب أكوام الزبالة. شكَّ الجنود والضباط  في سلوكي وفي أكثر من مرة سمعتهم يقولون إنني أمثّل دور المجنون، ولدي من رجاحة  العقل ما يفوق عقولهم جميعا، إلا أنّني كنت أقوم بأفعال تستدعي الضحك والغرابة وربما التعاطف.

 ذات يوم وجدت كلبا مريضا قرب الفصيل الذي التحقت به، وضعت سترتي العسكرية عليه وحملته إلى غرفة العقيد الآمر، الجندي الذي يحرس الباب كان قد ذهب للحمام أو لجلب شيء ما، فتحت الباب وحررت الكلب هناك فانطلق يعوي باتجاه العقيد، شعر الأخير بالارتباك بينما وقفت متسمرا في مكاني، قلت له: إنه كلب مريض ويحتاج إلى معالجة، أليس أنه يخدم في وحدتك؟ قال أنت الكلب الذي يحتاج للمعالجة فأرسلني إلى مستشفى الناصرية العسكري لأحصل على إجازة  سبعة أيام وأعود إلى مدينة العمارة لأعمل في محل الحلاقة الخاص بي. هناك حينما زرت صديقي الطبيب اختصاصي النفسية وأبلغته بما حصل أخذ كرشه يهتز من كثرة الضحك.

مكثت أقل من سنة  في ذلك المعسكر، لم أقم بأيّ عمل عسكري سوى النوم وتناول الطعام وتسلم المرتب الشهري البائس الذي لا يكفي حتى لأجور النقل أثناء الإجازة والعودة منها، لقد أقنعت الضباط  بجنوني كما الجنود فأخذوا يتجنبون مساءلتي أو الإساءة لي ومحاولة إيذائي. في الفجر أحفر في الرمل وأتسلل من تحت شبك الحديد  أثناء التدريب الصباحي وأذهب مشيا إلى وسط مدينة الناصرية لأجلس في إحدى المقاهي لشرب الشاي أو تناول الطعام أو ارتياد المكتبة المركزية لاقرأ في كتاب ما ثم أعود قبيل المساء. لكن تلك النعمة لم تدم، بمنتصف شتاء 1986  نقلوني إلى فرقة مغاوير 23  في منطقة ديانا بشمال العراق.

قرية ديانا

أتذكّر اليوم الشديد البرودة  الذي وصلت فيه إلى قرية ديانا في شمال العراق حيث تخيم القطعات الخلفية لوحدتي الجديدة. لقد الحقوني بفرقة مغاوير 23 أنا الذي لم أقم بأيّ تدريبات بدنية! في ذهول رأيت أخيرا مهابة الجبال التي كنت أراها في الصور؛ إلى الشمال كان جبل سكران، كرده كو وكردمند، إلى الجنوب جبل حساروست وجومان وقاطع دار السلام. ثمّة طريق ضيق معبد بالاسفلت ينعطف بمحاذاة الجبال؛ من منطقة ديانا إلى قاطع حاج عمران حيث تبدأ سلسلة الجبال الإيرانية. وقفت هناك وأخذت أتطلع الى انفساح الطريق المضبب وأنا أمسك كيسا بلاستيكيا مليئا بالتقارير الطبية والعقاقير النفسية، مرتديا بنطالا عسكريا وسخا بثقوب عند الركبتين، وقميصا خفيفا فوقه سترة عسكرية بفراء من الداخل وبيرية سوداء دون علامة وحذاء خفيفا. كان عقلي يضج بآراء ونظريات العالمين النفسانيين سيجموند فرويد وكارل ويونغ. وأنا أتطلع إلى أعالي هذه الجبال الضخمة تراءت لي مثل كائنات مستقلة منذ ملايين السنوات، شعرت كما لو أن جسدي جسر يمتد بين هذين العالمينرموز النفس التي خاض بها فرويد بجسارة بينما فتر وتراخى تلميذه وصديقه يونغ والجبال والسامقة.، كم هو مكان رائع لو أنه خارج منطقة الحرب! أمضيت المساء في غرفة أحد نواب العرفاء في القطاعات الخلفية حيث قدم لي صحنا من الحساء وصمونا عسكريا كبير الحجم، فتناولت الطعام بالتذاذ، وبعد أن فرغت قال لي نائب العريف عليك أن تستيقظ في الثالثة فجرا لكي تذهب مع سيارة الأرزاق حيث القطاعات الأمامية، إلا أنّني لم أرغب في النهوض المبكر فبقيت في الفراش  حتى التاسعة صباحا، ثم استيقظت  وغسلت وجهي وتناولت صمونة مع شاي ساخن وودعته.

أخذت الطريق مكافحا بالصعود فوق الهضاب المخضوضرة  القريبة من الجبهة، متنقلا بعض الأحيان بسيارات عسكرية. عند غروب الشمس وصلت إلى ( قلم) وحدتي، قبل أن أصل توقفت في الطريق، وجدت برازا يابسا التقطته بورقة كلينكس ولففته ووضعته بين ثيابي المدنية . لكي حينما تساور الرغبة بعض الجنود في تفحص عالمي الشخصي سترى العيون المتفرسة في حقيبتي أن ذلك فعل رجل مجنون ولا تتمادى في البحث أكثر.

 قدمت إلى النائب الضابط المسؤول أوراق النقل وجلست في الخارج أصغي إلى أصوات القذائف المتساقطة على خطوط العدو. بعدها جاء بعض الجنود واصطحبوني إلى غرفة تشتعل فيها مدفئة وقالوا ابق هنا، لا نعتقد بأنك بوضع يسمح بالقتال في الخطوط الأمامية. بعد عدة ليالي باردة أمضيتها في القاعة التي لم أبارحها إلا لأوقات قصيرة حينما أخرج لقضاء الحاجة في المراحيض فأتطلع الى عظمة الجبال الشاهقة المحيطة بالمكان ثم أعود إلى فراشي لأتغطى بعشر بطانيات. أعادوني إلى خلفيات وحدتي في قرية ديانا. في الأيام التي أعقبت ذلك كنت أترك وحدتي ماشيا إلى السوق الصغير للقرية، هناك أرى الجنود وهم في اجازاتهم يشترون أكياس  الحناء وقطع الثياب لزوجاتهم وأخواتهم عائدين لبيوتهم فينتابني الحنين الجارف  للحياة المدنية.

سروال داخلي أحمر

 تقع قرية ديانا فوق هضبة على مبعدة كيلومترات قليلة من وحدتي، قرب السوق  يمتد صف من البيوت محاطا بأسيجة واطئة من ألواح الخشب أو الحديد المشبك حيث تبين من خلاله أطياف الثياب المعلقة على حبال الغسيل في ساحات البيوت. مشاهد الثياب النسائية الداخلية الملونة تجعلني مثارا جنسيا فتغلي في داخلي طاقاتي الجنسية المكبوتة. ذات ظهيرة بينما الريح تهب، رأيت امرأة تنشر ثيابا على حبل الغسيل في الباحة المحاطة بشبك حديد ذي فتحات مربعة، معالم جسدها المثير واضحة عبر ثيابها المبللة الملتصقة بجلدها، هبّة من الرياح  أطارت سروالا داخليا أحمر من الحبل ودفعته باتّجاهي، انحنيت عليه بضرواة والتقطته ووضعته في جيب بنطالي. حينما رأتني المرأة  أفعل ذلك، نظرت لي باستغراب كما لو أنها فهمت في الحال كل نوايا قلبي وسألتني أن أعيده في زيارتي المقبلة. أثناء عودتي الى وحدتي اختليت بنفسي في مرحاض مستوصف القرية وأخرجت السروال وأخذت أتأمل خطوط نسيجه والزركشة المتعرجة في أطرافه ثم استغرقت في تخيلاتي الحسية لبعض الوقت وغادرت وأنا اشعر بالارتياح  مثل شاحنة نفايات أفرغت عفونتها فانطلقت بخفة، متطلعا إلى الطرق من حولي بنظرات مسترخية قانعة.

كنت مذهولا من سحر الطبيعة التي تعجز اللغة عن وصفه؛ الأشجار المتشابكة الأغضان وعيون المياه الرقراقة وشموخ الجبال وتماوج الهضاب وعذوبة الهواء والسماء بلونها الأزرق الفاتح وغيومها البيضاء الصغيرة. ظللت لبضعة أشهر أخدم في فرقة مغاوير 23، كانوا  حينما يتعاطفون معي أبقى ماكثا في المقرات الخلفية وعندما تتكاتف عليّ مخالب الشر والتشكيك في سلوكي يصعدونني إلى الخطوط الأمامية حيث تدور المعارك الضارية في جبل كردمند  وتتساقط إلى جوار مواضعنا قذائف العدو، فقررت الهروب والعودة إلى البصرة.

مصيرنا يسوقه القدر

شعرت بأنني  أعيش في سجن كبير اسمه مغاوير فرقة 23 فقررت الهروب من العسكرية. أخذت انتظر بفارغ من الصبر وقت حصولي على الاجازة الدورية لكي أغادر وحدتي العسكرية ولا أعود إليها أبدا، إذا ما هربت دون اجازة فسيلقى القبض عليّ وأنا ما زلت في الطريق. ثمة الكثير من المفارز العسكرية التي توقف الحافلات للتفتيش عن الهاربين. كان لدي هدف واضح في رأسي هو أن اذهب إلى مدينة العمارة وأبيع المحل ثم أتوجه للبصرة ومنها الفرار مشيا إلى الكويت. وهذا ما حدث بالفعل؛ أمضيت بضعة أيام لتصفية  شؤوني الشخصية في العمارة، بعت المحل الى الرجل الخمسيني الذي علّمته الحلاقة، بعدها ذهبت لأودع أصدقائيأولهم عبدالله حازمسائلا إياهم أن يغفروا لي إن أخطات في حقهم أو آذيت مشاعرهم، كذلك ذهبت إلى بيت عمتي وودعتها كما شقيقتي لميعة وبعض الجيران والمعارف. شعر الجميع بالحزن على فراقي، لكني قلت في داخلي عليّ أن أمضي قدما في قراري وأغادر، في الخاتمة سينتهي كل شيء الى الفراق الذي لا مفر منه.

 ظلت شوارع وأحياء البصرة موحشة ومحاطة بالخوف والقلق والترقب بعد أن هجرها أهلها بحثا عن مكان آمن في المناطق الغربية البعيدة التي لا يطالها القصف كالنجف وكربلاء والحلة والسماوة. بعض العوائل وبضمنها عائلتنا لم تنتقل. أبي كان يعتقد بأن  مصيرنا يسوقه القدر وليس لنا رأي في ذلك إذ كان يبدو مستسلما لما يختاره الله. في أيام الغياب الاولى بعد انتهاء أيام الاجازة السبعة حينما أخبرت والدي بما عزمت عليه، أيّ الفرار من الجيش، لامني كثيرا.. قال لا أحب أن أراك بهذا الوضع، كن شجاعا واقتنع بقدرك، إنها حرب وطنية ولا يهم مَنْ هو القائد، إذا كان صدام حسين أم غيره، دافع عن وطنك ولا تقم بهذه الأفعال السخيفة. لكني لم أصغ إليه وعقدت العزم على المغامرة حد التخوم القصوى. كنت أحدّث نفسي أن هذا هو جهدي الأخير وأن من الأكيد بأنني سأنال حريتي، لا أريد أن أموت الآن، لا أريد أن أقتل أحدا، إنني ضد الحرب، ضد العنف والتوحش، ضد الموت، ضد الكسل والاستكانة، ضد التدمير، ضد استغلال الآخرين، ضد الظلم والديكتاتوريات، ضد كل ما يمت بشيء للعسكرية والخضوع والمذلة. لابد أن أسافر، لابد أن أتعلم، لابد أن أتحرر وأعانق الحياة.

ثلاثة أيام في الصحراء

 بعد أيام قليلة من هروبي من الجيش اتفقنا أنا وواحد من أبناء إحدى شقيقاتي وصديق ليّ أن نذهب مشيا إلى الكويت. كان الاثنان تحت العشرين بينما أنا في منتصفها. اشترينا خيارا وطماطم وملأنا قناني ماء وأخذنا معنا خبزا  واستقلينا سيارة اجرة ليلة الخميس على الجمعة إلى مزارع منطقةأم قصرلنبدأ رحلتنا عند اختلاط الظلام. كان علينا أن نقطع حوالي 100 كلم على الأقدام في الصحراء. تجاوزنا الحدود العراقية الكويتية ثم واصلنا سيرنا، أمضينا ليلة كاملة في المشي ثم قبيل الفجر حفرنا حفرة كبيرة في الرمل ومكثنا فيها حتى اختلاط ظلام مساء اليوم التالي. خلال النهار مددنا رؤوسنا أكثر من مرة وتطلعنا إلى رمال الصحراء الشاسعة التي تحيط بنا. عَبَرَ السماء صقر أو أكثر وأخذ يحوّم فوقنا ثم اختفى، لم يكن ثمّة شيء حوالينا سوى خيم بعيدة لبعض الرعاة. كان اسم صديقي علي ونلقبهبالكرجيلكثافة شعره الأسود السرح واسم ابن أختي فؤاد وكنيتهوجدي“. كنا نتمدد في الحفرة وعيوننا مفتوحة ونتكلم بصوت خفيض، وخُيّل إلينا في بعض الأوقات أننا نسمع اطارات سيارات تقترب أو وقع خطوات وأصوات أشخاص يتكلمون مع بعضهم يتقدمون نحونا لإلقاء القبض علينا، فراودنا القلق وعشنا لحظات فظيعة من الرعب لكن لم يحدث شيء .

 واصلنا مشينا حينما حل الليل،، ونحن نغذ السير فوق الكثبان كان بوسعنا رؤية انعكاس اضواء بعض السيارات وهي تنهب الشارع الرئيسي الذي يريط البلدين عن مبعدة. في صباح اليوم الثالث وصلنا حدود مدينة الجهراء الكويتية بعد أن أنهكنا التعب الشديد حيث بيت شقيقتي سلوى على مبعدة كيلومترات قليلة. أومأنا بأيدينا لإحدى السيارات المارة لكي توصلنا إلى المنطقة إلا أن سائقها أخذنا إلى مخفر للشرطة، تبين فيما بعد أنه ضابط في شرطة الحدود وقد عاد من دوامه، لقد شك في ارتباكنا ومظهرنا المغبر وحملنا لقناني الماء معنا. سجنونا بضعة أيام في مخفرالمطلاعثم نقلونا إلى أحد السجون قرب العاصمة. ناشدناهم أن يطلقوا سراحنا لأننا ربما سنلاقي الموت في العراق إلا أنّهم لم يكترثوا لمناشدتنا. رحلونا في حافلة إلى منطقة صفوان العراقية الحدودية  ليتسلمنا رجال الأمن الذين سلمونا بدورهم إلى الاستخبارات العراقية. هناك افترقت عن صديقي على الكرجي وابن أختي وجدي، رحلوهما الى التسفيرات لكونهما مدنيين لكني بقيت في شعبة الاستخبارات لكوني عسكريا

 بقيت بضعة أسابيع في سجن استخبارات البصرة حيث التعذيب بالضرب بالعصي واللكمات ثم رحلوني إلى سجن رقم واحد الرهيب في بغداد ومنه إلى سجن أربيل ومنه إلى سجن وحدتي العسكرية في منطقةديانا“. ظللت سجينا هناك لأقل من سنة. حينما كنت في سجن فرقة مغاوير 23  أخذت أراجع مستوصف ديانا العسكري بصحبة أحد الحراس ثم أخذوا يحيلونني إلى مستشفى أربيل العسكري ومنه إلى مستشفى الرشيد العسكري، بعدها قدموني إلى محكمة عسكرية واكتفى الحاكم بفترة التوقيف وحررني من السجن بعد أن اطلع على التقارير النفسية.

مستشفى أربيل العسكري

في مستشفى أربيل العسكري كان ثمّة اختصاصي برتبة عقيد، في كل مرة أذهب إليه بعيادة أقول له إنني مطارد، هناك من يلاحقني حينما أذهب في إجازة إلى عائلتي، فكان يتحدث معي بلطف وتفهم ثم يعطيني اجازة. وفي مرة أخرى قلت له: أخذ الأشخاص يلاحقونني وأنا أتنقل بين المحافظات حينما أريد أن التحق بوحدتي العسكرية، سألني كيف يلاحقونك؟ قلت: إنهم ينتظرونني في الكراجات وحين أصعد السيارة يصعدون ويجلسون ورائي ليتجسسوا على أفكاري ونوايا قلبي، قال: إذن ابني اصعد في القطار في المرات المقبلة وهو يمنحني اجازة. عدت إليه في مرة تالية وقلت له: إنهم أيضا جاءوا ورائي إلى محطة القطار ودخلوا العربة نفسها التي كنت أجلس فيها، انتابت العقيد نوبة من الغضب، دفع كرسيه المتحرك للوراء وأخذ يحرّك يده بعصبية، صارخا بي:” ماذا تظن نفسك، هل أنت جيفارا؟مَنْ انشتاين؟ هتلر؟ حتى تترك الناس مشاغلها وتلاحقك، ألا تعرف بأنك جندي بائس، جندي لا غير، وهل الناس ليس لديها أعمال غير مراقبتك لمعرفة أفكارك ونوايا قلبك؟وهو يعطيني اجازة. ولما عدت له مرة أخرى أدخلني الردهة النفسية  ليزرقوني بحقن المودكيت المؤلمة (التي تجعلني أترنح لثلاثة أيام) ومكثت هناك أسبوعا أعطاني بعدها اجازة لمدة شهر، مدوّنا في ذيلهايراجع بعدها“.

في أحد الأيام ذهبت إلىقلموحدتي العسكرية وطلبت منهم أن يسجلوا لي عيادة لأذهب إلى المستشفى، لكنهم رفضوا طلبي، خطوت للحمام وحلقت شعر رأسي وشاربي وحاجبيّ  وذهبت إلى ساحة التفتيش بينما السيجارة بين شفتي، كان الآمر يفتش الجنود المصطفين أمامه، حينما رآني نظر إلى الضباط من حوله بامتعاض، واشار الى أحدهم أن يسجّل لي عيادة ويرسل معي جنديا الى المستشفى. من الأكيد كنت أبدو ضد كل ما له علاقة بالنظام والعسكرية وإطاعة الأوامر، ظهرت له أقرب إلى المسخ من إلى الإنسان . كان أنفي ينسد دائما بسبب الآرتين الذي أتعاطاه ويصبح تنفسي صعبا، فأمد إصبعي لأنظف منخري أمام الجالسين فيديرون وجوههم مشمئزين من القذارة. حينما وصلنا  المستشفى هناك كانت مجموعة من الفتيات يجلسن مع ذويهن، وما أن رأينني حتى أعرضن عني بوجوههن رعبا أو قرفا فأحالوني إلى مستشفى الرشيد في  بغداد.

مستشفى الرشيد العسكري

 في معظم المراجعات إلى مستشفى الرشيد في بغداد كانت شقيقتي لميعة ترافقني أو أحد الأقرباء المقيمين هناك. الذين يدّعون الأمراض النفسية عادة لا يأتون للمراجعة وحدهم بل بصحبة أحد من ذويهم لكي يبينوا للأطباء بأنهم غير قادرين على ادارة حياتهم أو انهم لم يختاروا مراجعة الأطباء وطلب العلاج.

 اعتدت على أن أضع كيسا بلاستيكيا صغيرا في سروالي الداخلي فيه حبوب آرتين. قبل المراجعة ورؤية الاختصاصي بنصف ساعة أتناول حبة 5 ملغم أو 2 ملغم، بعد دقائق من ذلك تشرع الأشياء بالتداعي والتغير من حولي، مثلا يتراءى لي عقب السيجارة الأصفر كأنه مصنوع من ذهب أو أن آرائك الجلوس تأخذ بالتحرك إلى الأمام أو إلى الخلف، أيضا ما أن أتناول العقار حتى يأخذ فمي وأنفي بالجفاف وتضطرب اللغة وتصبح مفككة ويصعب وضعها في تركيب منطقي

كان في مستشفى الرشيد العسكري ثلاث ردهات نفسية كل واحدة منها مسماة باسم فيلسوف عربي: ردهةابن رشدللجنود تتكون من طابقين، على مسافة قليلة منها ردهةابن طفيلللضباط حيث الغرف مرتبة ونظيفة ومفروشة بالسجاد مع الممرات. وفي الجهة المقابلة ردهةابن زهر”  أو ردهة السجن كما كانت تسمى، إنها مخصصة للمرضى الخطرين أو السجناء أصلا حيث الحماية في البوابة والأسلاك الشائكة على الجدران والأبواب المخلعة والحمامات الوسخة والمراحيض القذرة  والشجار المتواصل بين المرضى. بالنسبة للذين يدعون الجنون فإن دخول المريض في ردهةابن زهريعتبر انجازا أصيلا في تاريخ مراجعاته.

عند الدخول  يبدّل المرضى ثيابهم العسكرية بدشاديش زرقاء مقلمة وأنعلةٍ بلاستيكية ثم يُتركون في وسط الردهة حيث قاعة كبيرة خالية من الأثاث عدا منضدة وضع عليها جهاز تلفاز فيما على جهة اليسار تتوزع الغرف والحمامات المطلة على الحديقة الكبيرة.

 كنا نجلس على الدرجات الإسمنتية لمدخل ردهة ابن رشد الواسعة أو في الحديقة المجاورة  دون ألبسة داخلية، ندخن أو نتبادل الأحاديث، أو نتمدد على الأرض بأعضاء داخلية مكشوفة. في الردهة كنتُ أرى شتى حالات الجنون لدرجة من الصعب على الواحد أن يعرف من هو المريض الحقيقي ومن هو المدّعي، منهم من يعاني من جنون العظمة مدعيا بأنه  ضابط برتبة عالية، ومنهم من يشعر بأن الآخرين يراقبونه أو يتجسسون عليه أو يحاولون وضع السم في طعامه من أجل قتله.

منحني الآرتين  هلاوس ورؤى غريبة، وأحيانا أحلاما ليلية أكثر غرابة. حينما كنت أتناول الآرتين تتسارع  دقات قلبي ويجف أنفي وفمي، فأتسكع بين الردهات والحديقة، أو أتمدد على السرير لبعض الدقائق ومن ثم آخذ بطانية وأذهب إلى قاعة التفزيون الكبيرة حيث يمضي المرضى معظم وقتهم؛ مثلا كنت أنام مدة يوميين متتاليين دون أن أعي الوقت الذي أذهب فيه للتغوط أو التبول. أو أدخل ممرا  في إحدى الردهات لأشرب ماء فتنقطع سلسلة التذكر فأجد نفسي نائما في الحديقة دون أن أعرف ما الذي حدث قبل ذلك. حينما كنت أتحدث مع امرأة؛ فتارة تظهر لي كأنها أنثى وأخرى بملامح شاب وجسد امرأة، أو أرى أن النافذة قد خرجت من الجدار طائرة باتجاهي ثم تعود إلى مكانها، أو أرى طائر الغراب لحظة يحط على غصن شجرة ثم يتحول إلى عصفور دوري.

 في إحدى المرات سألني الممرض أن أذهب معه، قال إن الدكتور يريد أن يراك، ذهبت إلى قاعة الانتظار حيث بضع آرائك من الخشب تجلس إليها ثلاث أو أربع نساء  بعباءات سوداء بجوار مجموعة من المرضى. حين دخلت سألني الطبيب الذي كان يرتدي صدرية بيضاء طويلة، هل تعرف ما هو عملي، وفي أي مكان نحن الآن؟  فأجبته : أنت جزار ونحن نجلس في سوق الشورجة فغرق في الضحك وأعطاني اجازة، كان اختلاطا حقيقيا للزمان والمكان.

ذات شتاء  كنا ننام أنا ومجموعة من المرضى في الطابق الثاني من ردهة ابن رشد، الجو بارد جدا، أحد المرضى اسمه جمال مصاب بهوس الاكتئاب، قصير القامة وبجسم يميل للسمنة  وشارب أسود كث، كان يذرع الممر بين الأسرّة المتقابلة جيئة وذهابا وهو يتحدث مع نفسه بصوت عال وعندما يتعب يتمدد على سرير موضوع قبالة سريري، كل بضع ساعات كنت أدخل  الحمامات لأتناول حبة آرتين 2 ملغم لأحافظ على اضطراب تخيلاتي ثم أعود لأستلقي على السرير وأنا اتطلع تجاه  باب الردهة.. ذات مرة حدثت لي هلوسة؛ رأيت أبي يقف عند باب الردهة بشعره القصير ودشداشته الرمادية وسترته السوداء، يقف هناك ويسأل أحد المرضى عني قائلا:” أريد أن أرى ابني، صرخت أبي أنني هنا، ذهبت لأجيء به إلى السرير، إلا أنني وجدت مكانه خاليا. بعد ذلك كل ليلة جمال يخبرني أن أباك قد جاء لك بسجائر وامرأة  لتنكحها في الردهة ممازحا إياي.  

مهدي المجنون  

عندما كنت طفلا عاش في منطقتنا مجنون اسمه مهدي، إنه دائما يمشي بسرعة كأنه يركض، كان بجسد ضخم  ولحية طويلة يتناثر فيها الشيب. في معظم الأحيان يرتدي دشداشة قاتمة اللون وسترة تتلامع ببقع الزيت، لم يكن ينام في منطقتنا بل كان لديه كوخ مبني من القصب والطين قرب تل للرماية يقع خلف سدة ترابية تبعد حوالي كيلومترين عن بيوتنا. فكنا نذهب لذلك التل لالتقاط بعض الرصاص المتخلف عن الرمي. في الواقع أنني لم أرَ شخصيا جنودا يتدربون على الرمي هناك. بين الفَيْنة والفَيْنة يرانا مهدي قرب التل فيركض خلفنا، كنا نركض أمامه بسرعة مرتعبين من أن يمسك بنا.

 عند صبيحة يوم شتائي كانت مجموعة منا تصيح خلفه مهدي المجنون، مهدي المجنون، مهدي أبو اللحية الطويلة، مهدي أبو الجذع الضخم. كان إلى الجوار بيت قيد البناء فتناول حجرا وأصاب رأسي به فسال الدم على ثيابي، منذ ذلك الوقت أخذنا نهرب ونتوارى عنه في بيوتنا بمجرد رؤيتنا له مقبلا. كان غالبا ما يعود إلى كوخه عند الغروب أو في بداية الليل، إلا أنه قبل أن  يذهب يقف بعض دقائق تحت عمود كهرباء شارعنا ويرفع ثوبه ويمسك بقضيبه الضخم  ويبقى  بعض الوقت يخاطبه: قواد.. قواد.. اخبرني ما أنت؟ هل أنت مهدي؟ هل أنت جذع شجرة؟ هل أنت جسر بين بيوت النساء، حدثني مَنْ أنت؟ تكلم هل أنت حجر؟ ثم يبصق في يده ويضرب على خلالة قضيبه؟ كنا ننظر إليه من فتحات الأبواب والنوافذ بينما هو يقوم بذلك. فتيات الشارع كن أيضا ينظرن لهذا  المشهد الذي يتكرر على مدار الأسبوع..

 اثناء إحدى العطل الرسمية في يوم شتائي بارد حيث تنقطع الحركة في المستشفى جاءت ذكرى مهدي إلى ذاكرتي، في نهاية ردهتنا امتدت بجلاء بوابة خشبية يتوسطها لوح زجاجي شبه معتم بمقدور المرء أن يرى من خلاله غرفة الممرضات بنافذتها المطلة على الحديقة التي بدت خالية في ذلك الوقت إلا من مريض شاب بجسد طويل وأنف رفيع ورأس حليق على الدوام. كان يتمدد هناك بدشداشته المنزاحة عن ساقيه والمظهرة قضيبه دون أدنى انتباه أو مبالاة من جانبه. كان الشاب مصابا بمرضالذهان الاكتئابيوعلى الدوام يبدو حزينا جدا جدا، أحيانا أسأله ما نوع المرض الذي تعاني منه ؟ فيقول إنني مصاببالدهانحاذفا النقطة من الذال فأكاد أنفجر بالضحك عندما أسمعه لكني أسيطر على نفسي بصعوبة. على أيّة حال ذهبت قرب نافذة الممرضات ورفعت ثوبي ومسكت بقضيبي الذي انتصب بسرعة ورحت أخاطبه: قواد.. ما أنت اخبرني؟ هل أنت جذع شجرة؟ هل أنت مهدي؟ هل أنت جسر بين أجساد الممرضات؟ بعد أن استغرقت بذلك المشهد لبضع دقائق قدمت ممرضة إلى الحديقة وسألتني: هل ترغب بسيجارة أو زجاجة حليب؟، تعال معي للغرفة لأعطيك بعض السجائر. حينما ذهبت هناك وجدت ممرضة أخرى تجلس على سرير جواره ثلاجة صغيرة ومنضدة للزينة. قالت الممرضة التي اصطحبتني إلى الغرفة هل بوسعك أن تفعل هنا ما كنت تفعله في الحديقة؟ فرفعت ثوبي وأمسكت بقضيبي وأخذت أخاطبه بالتذاذ عميق مكررا المانولوج.. هل أنت مهدي،؟ هل أنت جذع شجرة، هل أنت صلب كالحجر.. إلى أخره؟ فضحكتا، طلبت مني الممرضة التي اصطحبتني إلى الغرفة أن أنام معها فوق السرير إلا أن شعورا ببارانويا الخوف تملكني، ظانا بأنهما تقومان بعمل مكيدة لي فرفضت. انزعجت الممرضتان وقالت التي اصطحبتني طيب انقلع من هنا في الحال واعطتني زجاجة حليب وبضع سجائر، فتركتهما وذهبت إلى الحديقة. وحينما رأى ذو الأنف الرفيع والرأس الحليق الزجاجة والسجائر في يديّ، سألني من أين لك الحليب والسجائر فاخبرته بما حدث مع الممرضتين فذهب إلى غرفتهما، وتبعته لكني وقفت عند البوابة الخشبية وأخذت أرقب الممر من خلال اللوح الزجاجي. دخل هو وبعد وقت قصير انسلت إحدى الممرضتين وأغلقت الباب من خلفها متشاغلة بكنس شيء ما على البلاط، بعدها خرجت التي كانت في الداخل لتدع الأخرى تدخل وتنشغل بتنظيف البلاط نفسه. بعد ثلث أو نصف ساعة خرج المريض ذو الأنف الرفيع والرأس الحليق وعلامات الانتشاء والرضا مرسومة على وجهه وبإحدى يديه زجاجة حليب وفي الأخرى علبة سجائر ماركةبغداد“. وحينما اقترب مني سألته ما الذي حدث في الداخل قال: نكحت جنيتين في تلك الغرفة وأعطتاني خمرة وسكاير مالبورو وهو يشير إلى زجاجة الحليب وعلبة السجائربغداد“!.

 شعرت بندم عميق لأنني لم أقم بالفعل واجتاحتني اللذة نفسها التي شعرت بها حينما كنت في غرفتهما فذهبت إلى الحمامات وتعريت تماماً واستمنيت. في اليوم التالي في الوقت نفسه تقريبا ذهبت إلى المكان ذاته في الحديقة ورفعت ثوبي وكررت كلام مهدي المجنونهذه المرة أحد الممرضين فتح النافذة وصاح بي: إذا لم تنزل دشداشتك سآخذك لردهة السجن.

الممرض مصدّق

من بين المرضى كان هناك شخص يميل للطول وبشعر أسود سرح يفرقه على جانب وشارب طويل، يرتدي في الردهة صدرية بيضاء نظيفة اسمهمصدّق“. حينما رأيته أوّل مرة في قاعة التلفزيون اخبرني بأنه  ممرض فصدقته. فيما بعد رأيته في قاعة الطعام يقف مع المرضى، رافضا تناول الطعام محذرا إياي من أنه فاسد أو موضوع فيه سم، عندما يرى المرضى يتناولون طعامهم بشهية، يمسك بصحن وبالكاد يمسّه ليعيده ثانية إلى المائدة. ادركت أنمصدقكان يعاني من  انفصام الشخصية فيتلبس دور الممرض أحيانا والمريض في أحيان أُخر.

أوقات المتع

إن أمتع وقت أثناء الرقود في المستشفى هو فترة المساء، وخاصة يوم الجمعة. كانت الزيارات تبدأ في الخامسة عصرا، فيأتي الناس لعيادة مرضاهم، يجلسون في الحدائق المجاورة للردهات ويتناولون الأطعمة اللذيذة  كالأرز المكبوس باللحم أو الدجاج المشوي مع الخبز المحمص والخضروات أو أشياش الكباب والتكة، بعكس ما كانوا يقدمون في المستشفى، أعني وجبات الحساء والصمون اليابس والمرق الذي يصعب على الشخص أن يميّز نوعه. كان المستشفى كبيرا ربما تشغل مساحته كيلومترا مربعا، ردهات للكسور والعمليات الجراحية وللجملة العصبية والامراض الأخرى. تتخلل المساحات غير المشيدة أشجار اليوكالبتوس والبرتقال والنارنج والأحراش المتسلقة على الجدران، فحينما كنا نمر بين الردهات بدشاديشنا القصيرة المثقبة بالسجائر وشعورنا الشعثاء ونحن نتكلم مع أنفسنا كان الزوار يتعاطفون معنا فيقدمون لنا بعض الطعام والسجائر.

بين وقت وآخر أذهب إلى ردهات الكسور والباطنية التي تقع على مبعدة بضعة مئات من الأمتار. أجلس في ظل شجرة محاولا ارخاء قناع الجنون الكريه عن وجهي. لأكثر من مرة شعرت بالخوف من أنني سأفقد عقلي واصبح مجنونا بشكل حقيقي، أحسست كأنني أمر عبر بوابة معتمة إلى مكان مجهول حيث ليس بوسع أهلي وأصدقائي إعادتي إلى الصواب.

 مرةً زارتني  شقيقتي سالمة في مستشفى الرشيد العسكري آتية من البصرة، دخلت الغرفة ومعها علب سجائر وفاكهة وكبابا وخبزا، حين رأتني أقبع على السرير بدشداشتي القصيرة المثقبة وشعري الطويل ولحيتي النابتة، أجهشتْ في البكاء، قلت لها دعينا نخرج إلى الحديقة، اشعر بأنني  مراقب هنا، الممرضون يقدمون تقارير عن سلوكنا داخل المستشفى. جلسنا في الحديقة بعد أن جففت دموعها، قلت لها أرجوك  ياعزيزتي لا تفعلي ذلك، إنني أمثّل لا أكثر غير أنها لم تصدقني  وهكذا عدت إلى الردهة وأنا أقول يبدو أنني حقا جننت.

حينما كنتُ أتناول الآرتين تضطرب رؤيتي ويتغير منظوري للأشياء، وبينما أجلس على درجات مدخل الردهة  أرى  أشخاصاً كأنهم كائنات من ضوء يمرون بسرعة، أو يخطفون خطفا داخل الغرفة، أقول لهم ابتعدوا فيبتعدون. أحيانا أبقى  مدةَ يوم أو يومين دون نوم. بعد أن ينتهي البث التلفزيوني كل شيء يبدو حزينا، وليس ثمة اثارة فافضل البقاء في السرير أو أذهب إلى قاعة تناول الطعام الرئيسة وأتمدد فوق بطانية على البلاط. أحيانا أشعر بالحماس وتتدفق الأفكار في ذهني وأنا أتحدث بشكل سريع، أو أعتقد بأني من القوة لدرجة يمكنني خلع واجهة الردهة الزجاجية أو فعل أشياء لم أستطع فعلها من قبل حيث الأفكار تمر في الذهن بسرعة كسباق. وفي أحيان أخرى أرى أشخاصا يطعنوني برمح، أو يرمونه باتجاهي عن بعد، يركضون ورائي وهم يرتدون جبّات تتطاير في الهواء ويقربون الرمح مني لكن دون أن يضربوا به. في بعض الأوقات يمسكون به مثل بندقية  بيدين اثنتين، يغيّرون الجبّات بشراشف بيض كأنها أكفان تهفهف ورائهم، يمرون بسرعة، إذا أردت أن ألمسهم لا أستطيع، إنهم فقط في الذهن.

فلاح وأقراص الخبز الوهمية

عند منتصف ظهيرة الخميس ذهبت إلى شاطئ النهر الواقع خلف الردهات حيث يمكن التسلل إليه عبر فتحة في الشبك الموضوع في نهاية المستشفى وجئت بحجر في يدي، اقتربت من أحد الممرضين حينما رأيته يقف قرب أحد النوافذ الزجاجية الضخمة قلت له إني بحاجة لتدخين سيجارة وإذا لم تعطني سأكسر الزجاج. ابتعد وهو يعدني بأنه سيجلب لي واحدة من غرفته، كما لاحظت أنه دخل غرفة الأطباء وجاء ومعه ممرض واصطحباني إلى ردهة السجن، تصنعت مقاومتهما رغم رغبتي في الذهاب لردهة ابن زهر أو ردهة السجن كما تسمى. الدخول هناك يجعلني أكثر جنونا في نظر الأطباء.

 أوّل شخص وقع نظري عليه هناك هو فلاح بشاربه الكث الأسود  ودشداشته البيضاء القصيرة المتسخة وهو يجلس مع بعض المرضى على الأرض بجانب الجدار. نظر إليّ مبتسما ودعاني إلى الجلوس لتناول طعام الغداء معهم. ومن ثم راح  يقبّل المرضى بحرارة من أكتافهم ووجوهم، قائلا بأنه لا يحب أن يراهم جائعين، عارضا عليهم  بأنه سيخبز خبزا رائعا لهم. نهض وخطا إلى الحمام وعاد بطاسة بلاستيكية حمراء. طلب من أحد المرضى مترجيا إياه أن يفتح الكيس. أي كيس؟ سأله المريض. كيس الطحين قال فلاح. ففهم الآخر على ما يبدو دون تساؤل آخر، مزيحا الخيط عن فتحة كيس طحين وهمي. فيما بعد أخذ فلاح بعض الطحين المتخيل ووضعه في الطاس ساكبا بعض الماء المتخيل أيضا وبدأ يعجن عجينا وهميا ليلصقه على الحائط كما لو على جدار تنور، ويمسح يديه بدشداشته ومن ثم يأخذ الخبز من الحائط ويقدمه لنا، قائلا كم أحب خدمتكم يا أحبابي، مضيفا أنني أكره أن أراكم تتضورون من الجوع.

 بعد سنوات من انتهاء الحرب ركضت نحو فلاح حينما رأيته يقف في كراج النهضة ببغداد وهو يرتدي ثيابا أنيقة، سلمت عليه لكنه لم يتعرف عليّ حتى ذكرته ببراعته الفائقة في عمل أقراص الخبز الوهمية في ردهة ابن زهر فضحك قائلا: إن تمثيل الجنون هو الطريقة العقلانية المثلى للتخلص من جنون الحرب.

الآن بينما أكتب هذه السطور ينتابني حنين غريب لتلك الأيام وأشعر بأن ثمة جمالية كانت تتخلل تلك الفترة على الرغم من المغامرة وخطورة الجنون التي يكتنفها. بدت الحياة في ذلك الوقت كأنها تنطوي على امكانيات هائلة والمستقبل يمتد بلا حدود، لكن حينما يتقدم العمر بالشخص وتبدأ أحداث الحياة بالتكشف شيئا فشيئا يتوارى ذلك السحر والاندهاش كما لو أنهما ينتميان إلى أوهام وتخيلات مرحلة بداية الشباب فحسب حيث طاقة الجسد ومغناطسيته العالية تسبغ على الواقع تلك اللمسة من السحر.

اللقاء بباسم ثانية

ذات ظهيرة بينما كنت أجلس على الدرجات الاسمنتية أمام ردهة ابن رشد متطلعا إلى أشجار البرتقال المتناثرة في الحديقة وشاعرا في الوقت نفسه باختلاط بعض الرؤى في ذهني بسبب تناولي  بعضاً من حبات الآرتين..، رأيت شابا يجلس في الحديقة بدشداشة نظيفة ذات لون بيج وبشعر أسود متلامع مقصوص مدرجات. كان تعبير الجرأة هو السمة المميزة على ملامح الوجه، لوحّتُ إليه، ورآني لكنه لم يرد على تلويحتي، مشيت باتجاهه لأراه عن قرب، بدا الوجه مألوفا لي بعض الشيء، ألقيت عليه التحية فنهض وتصافحنا، التمعت عيناه الخضراوان فجأة وتوهجت الحلقة الذهبية التي كان يلبسها في يده اليسرى في ضوء الشمس، كان صديقي باسم الذي لم أره منذ أن قتلت أمه قبل عشر سنوات تقريبا. يا لغرابة الزمن؟ أخبرني بأنه  وعائلته عادوا إلى بغداد وأنه أكمل دراسته في أحد المعاهد وتزوج وأصبح أبا لولدين ومنذ حادث قتل أمه تأثرت صحته النفسية وأخذ يزور الأطباء النفسانيين المدنيين في بغداد، وبعد أن أنهى  دراسته التحق بوحدة عسكرية في الموصل وشرع بالتردد على الأطباء العسكريين هناك حيث أحالوه إلى مستشفى الرشيد العسكري.

 جلسنا على الدرجات الاسمنتية، وأخذتُ أنشج في البكاء وأنا استرجع الذكريات المؤلمة، موجة حنين جارفة تملكتني، قلت له: باسم اني آسف وأرجو أن تسامحني وتصفح لي، أخذ هو يبكي، قائلا لم يكن ذنبك، إنك لم تكن تدري بأننصرةهي أمي، لا زلت أشعر بالإثم لأنني أبلغت أخوالي وعائلتي عن وضع أمي، لو كنت أعرف بأنهم سيقتلونها لكنت التزمت الصمت.

كانت رؤية باسم ثانية مثار فرح وأسى في نفسي.. أخذت أتطلع إلى وجهه الجميل بنظراته الجسورة. قال إنها دائما تظهر لي في منامي. رأيت أمي في أحلامي الليلية  كثيرا، على الدوام تتراءى لي وهي ترتدي ثوبا أبيض ملطخا بالدم وبشعر محلول وتنظر إليّ بنظرات تتسم باللوم والأسى.. أحيانا أراها تتمشى في حديقة بيت جدي بثوب فضفاض قصير  قرب أحد الأشجار وتنادي عليّ أن أقترب منها لكن ما أن اتقدم نحوها حتى تنعطف لتختفي وراء الفناء. أخذت أبكي مثله، قال لا داعي للبكاء لقد فقدنا الكثير من الأصدقاء في الحرب والحياة ليست عادلة.

اندفعت ذكرى  الأيام الماضية التي كنت أتردد فيها على المبغى إلى ذهني واعترتني القشعريرة وأنا استحضر صورة أم باسم وهي تتمدد على ظهرها فوق فرشة الاسفنج البائسة وأنا أضاجعها بنهم وحينما أنهض وأوشك على المغادرة تقوم لتطوقني بذراعيها بشوق مفعم بالحنان. الآن بينما أكتب هذه السطور أشعر بالرعب والندم بسبب ما قمت به وإن كان عن غير قصد.. أكان ما حدث مصادفة؟ أم أنه القدر الذي جعلني أخبرباسمعن تجاربي الجنسية واصطحبه إلى المبغى لكي يرى أمه هناك، لو لم أكن قد اصطحبته في ذلك اليوم فهل ستقتل أمه؟! فايّ غرابة هي التي جمعتني بباسم في البدء وها هي ذي تجمعني ثانية به؟

 ظللنا نلتقي بشكل خاطف أحيانا أثناء تناول العلاج أو في فترات توزيع الطعام أو أراه جالسا لوحده في الحديقة أمام الردهة بدشداشته وهو غارق في أفكاره. غادر باسم المستشفى قبلي ببضعة أيام دون أن يعلمني بعنوانه ولم أره بعد ذلك أبدا. بعد أسبوعين من الرقاد في الردهة منحوني اجازة لمدة شهر كُتب في ذيلها يحال بعدها إلى لجنة طبية.

 دخلت ذات صباح على اللجنة الطبية في مستشفى الرشيد العسكري وكنت برفقة شقيقتي لميعة حيث جلس أربعة اختصاصيين أو خمسة وإلى أمامهم ملفي الطبي، وبعد الاطلاع على التقارير واجراء المناقشات، كان التشخيص النهائي هواضطراب الشخصيةاجازة لمدة شهرين، يحال بعدها للخدمة العسكرية غير المسلحة.

الاعفاء من السلاح

حوالي ذلك الوقت من أواخر سنة 1988 أحالتني اللجنة الطبية الى الخدمة العسكرية غير المسلحة، مغيرين صنفي من فرقة المغاوير 23 الى وحدة مشاة، ونقلت إلى المقرات الخلفية في مدرسة لضباط الصف المشاة في محافظة أربيل. أخبرتهم بأنني حلاق  فخصصوا  لي غرفة منعزلة عن بقية قاعات الجنود وسألوني أن احضر التفتيش الصباحي والتعداد المسائي فقط دون القيام بأيّ واجبات أو تدريبات، وأنهم لا يريدون أن يضغطوا عليّ لكوني غير مسلح لأسباب نفسية، وبمقدوري أن احلق للجنود المعاقبين فحسب أو لغيرهم إذا ما رغبت في ذلك.

 كان التعداد يحدث في ساحة مكشوفة خارج البناية، بعد أن أفرغ من التعداد الصباحي أعود إلى غرفتي لأعمل شايا وأتناول الفطور ثم اشرع بتدخين بضع سجائر بشكل متعاقب وأنا أجلس على سرير الجيش. بين التاسعة والعاشرة من الصباح  أخرج من مدرسة ضباط الصف وأنا اضع في جيب جاكتي العسكرية رواية  “الشياطينلدوستويفسكي وبعض ثمار من الفاكهة وسجائر وأبدأ التمشي في العراء ثم أجلس في بقعة بعيدة عن أعين الجنود. كانت الأرض الحمراء مكسوة بالعشب والنباتات الصغيرة والسماء رائعة الزرقة في أغلب الأوقات. أجلس على العشب واقرأ وأدخن وأفكر في الزمن، متخيلاً أن تنتهي الحرب وأتسرح من الجيش وأستعيد حريتي. سائلاً نفسي لماذا تحدث الحروب؟ لكن يبدو ليس ثمة جواب، ثم أعود الى غرفتي قبيل المساء.

 أحيانا تتغطى ساحة التفتيش بالثلج  فيتعذر على الجنود الخروج في العراء والاصطفاف هناك فكانوا يصطفون تحت سقف الطارمات في مقدمة القاعات. ذات مرة  كنت أقف قرب سيارة الأرزاق منتظراً حصتي من البرتقال والصمون، أقترب مني أحد نواب الضباط وهو يقول: ” إنك لعبت لعبة ذكية لكي تتجنب الذهاب إلى جبهة القتالأخبرته بأنني  هنا الآنلعبة أم لا–  وحتى أنت لم تذهب للجبهة، ثم ابتعدت، لكنه استمر في التحرش بي، قائلاً إن المثقفين جبناء وغير جديرين بالقتال وإن الوطن ليس بحاجة إلى رجال مخنثين. شعرت بالغضب، محاولا تمالك نفسي والسيطرة على النار التي كانت تستعر في أعماقي، لكنه استمر في اهانتي، أخذت بندقية كان أحد الجنود ركنها جوار الحائط. سحبت الأقسام وفتحت النار في الهواء، فهرب الآخرون بضمنهم النائب ضابط، ثم صعدت السيارة وأخذت برتقالا وصمونا ونزلت وتركت البندقية على الحائط وعدت لغرفتي. بعد ساعة جاء ثلاثة جنود وأخذوني إلى السجن  بأمر الآمر. هناك بقيت حوالي عشرة ايام ثم أُطلق سراحي. بعد ذلك الحادث أخذ النائب ضابط يتجنب لقائي أو الحديث معي حينما نصادف بعضنا.

سمير القبيح/ الجميل

في وحدتنا ثمة جندي اسمهسميرأراه أحيانا في الصباحات يقف قرب سيارة الأرزاق ليتسلم حصته من الطعام دون أن يكلم أحدا، إنه رجل متقدم بالعمر بأنف كبير فيه رؤوس دهنية سوداء وجبهة بتجاعيد عميقة وخدين تتناثر فيهما آثار بثور حب شباب. ذات ظهيرة شتاء ذهبت إلى الهضاب فرأيت سمير يجلس في البقعة التي عادة ما أجلس فيها منعزلا عن الجنود  ويدخن سيجارة. حيّاني حينما رآني مضيفا أنه على الدوام يعجب بشخصيتي (العميقة) وأنه يريد أن يكلمني بشأن ما على مبعدة من الآخرين، ولهذا السبب  جاء إلى هذا المكان لكونه يعرف بأنني أمضي ساعات من كل يوم فيه. قال إنه سمعني أتحدث عن بعض الكتّاب الأجانب في أحد الأيام، وأدرك  أن  لدي سرا واتخذ الجنون قناعا، اخبرني بأنه أيضا من مدينة البصرة وأنه قد قرأ لبعض كتابها وأعجب بهم ويشعر بالتعاطف معي. أحسست بأنه  صادق ومخلص ففتحت قلبي له وأعلمته بأني أكره نظام الحكم وأكره الحرب والعسكرية كرها شديدا وأمثّل دور المجنون، ثم علّق على رد فعلي على النائب الضابط  قائلا: عليك ألا تأخذ ذلك بجد لأنك قد بذلت جهودا كبيرة من أجل تطوير نفسك بينما هو بذهنية متخلفة، إن بينك وبينه سنوات ضوئية. وحينما أخذ سمير يتحدث عن الأدب والثقافة لاحت ملامحه أصغر سنّاً أمام عينيّ، وغدا وجهه المليء بالبثور والرؤوس الدهنية جميلا. سألني قبل أن يغادر لماذا لا أعمل عريضة إلى دائرة المراتبالجهة المسؤولة عن نقل العسكريينلنقلي إلى مكان قريب من أهلي. علّقت لا أعتقد بأن أوراقي ستصل هناك، وحتى لو وصلت فإنهم لا يوافقون على نقلي بسبب الحرب. لكنه أصر، قائلا: إن المحاولة لا تكلّف شيئا، وحتى أشد القلوب تتصف بالرحمة بعض الأوقات. قلت بشك وتشاؤم:” بعض الأوقات“. قال سمير عليك أن تركّز على بعض الأوقات، وحينما تفعل هذا ربما ستفاجؤك. آمنت بكلام سمير وكتبت عريضة لنقلي إلى موقع مدينة العمارة الخلفي، أرفقت معها تاريخي الطبي ونسخا من تقارير الأطباء، ومع أن ذلك  بدا مستحيلا على التصديق بينما أُتون الحرب الطاحنة ما زالت تقذف بحممها  جاءت أوراق الموافقة على نقلي لوحدتي العسكرية بسرعة.

التسريح من الخدمة

 كان الجندي المسؤول عن إكمال أوراق النقل خريج معهد الفنون الجميلة، وأحيانا عندما يأتي لأحلق شعره في غرفتي كنا نتبادل بعض الأحاديث عن الادب والفن فنمتْ صداقة بيننا. في أحد الأيام جاء وهنأني على موافقة النقل ثم قال سأعطيك أوراقا فارغة ومختومة وتستطيع أن تعبئها كما ترغب، ملمحا إليّ بأن أقدم له مقابل ذلك بعض الأشياء. كان دائما يشكو بشأن ظروفه المالية، ففهمت رسالته. ذات مرة قدمت شقيقتي سلوى من الكويت وجلبت معها ثيابا نسائية وعلبة مكياج وكاميراكانونلفتاة رغبت بخطوبتها في ذلك الحين إلا  أنّه لسبب ما لم تتم الخطوبة فتركت سلوى الأشياء في البيت، قالت تصرف بها كما يحلو لك، أهديته الكاميرا والأشياء الأخرى فأعطاني أوراقا فارغة ومختومة

قلت في نفسي إذا ما أرسلوا أوراق نقلي بالبريد فإنني لا أتمكن من تغيير أي شيء لذا أخذت أذهب إلى غرفة النائب الضابط المسؤول عن النقل واعترض على إرسال الأوراق بالبريد معلّقا: ليس بمقدوري أن أتابع ذلك، ربما لا تصل الأوراق ويتطلب مني أن أعود ثانية إلى هنا وهذا وما يجعلني أمرض أكثر، ولكي يتخلصوا مني أعطوني المغلف بيدي فشعرت بالفرح يتملكني وأن الأمور أخذت تسير كما أريد. غادرت وحدتي العسكرية بعد الظهيرة وأنا أتطلع إلى القاعات الكئيبة غير مصدق نفسي أنني تخلصت من ساعات السفر الطويلة أثناء الالتحاق والعودة والركض في الكراجات للحصول على مقعد فارغ أو النوم في ممر الحافلة لعدم توفر الأمكنة بينما الآخرون يمرون وهم يدوسون على قدمي أو يدي أثناء نزولهم أو شربهم الماء من قرب السائق.

حينما وصلت مدينة العمارة عرجت على بيت صديقي عيسى والتقيت هناك عبدالله حازم وأصدقاء آخرين  وأنبأتهم بالموافقة على نقلي إلى وحدة عسكرية داخلموقعمدينة العمارة وجئت بأوراق نقلي وتاريخي العسكري بيدي فضلاً عن نسخة من تلك الأوراق فارغة وعلينا أن ننشئ تاريخا عسكريا جديدا لا مكان فيه لفترات الهروب والغيابات وأوقات الدخول للمستشفيات والعقوبات إلا لأيام قليلة فقط لأقدمه للوحدة الجديدة بدلا من الأوراق الأصلية. في إحدى الجلسات كتبنا قصة الالتحاق بالجيش وأيام الغيابات وعقوبات بالسجن لفترات قصيرة ثم بدأنا التدرب على تواقيع الضباط  قبل أن نوقع في أسفل الأوراق الرسمية.

 اقترح عليّ صديق  يعرف النائب ضابط المسؤول علىقلمالوحدة الجديدة قائلا قبل كل شيء يتعين عليك أن تشتري له هدايا، سألت صاحبي ما نوع الهدايا التي تستهويه؟ فرد: الويسكي، الموز والعطور الأجنبية. ابتعت ثلاث زجاجات من الكونياك وكارتون موز وعطر كازانوفا وذهبنا لزيارته. حين وصلنا البيت رحب بنا كثيرا وهو يتطلع للأكياس. أبلغته بموضوع نقلي ثم أخذنا نتبادل الحديث عن أمور عديدة. عندئذ قال: تعال في الغد إلىالموقعواجلب الأوراق معك واعتبر نفسك جنديا في وحدتنا. وبالفعل ذهبت في اليوم التالي وبعد أن قام ببعض الأسئلة الروتينية أمام الجنود الذين يجلسون معه في الغرفة لكي يبعد الشك من أنني التقيته في بيته، اصطحبني إلى قاعة مبنية من البلوك تحتوي على كرسي ممزق الجلد ومرآة محكوكة ومصطبتين من الحديد. قال هذا محل الحلاقة الذي ستخدم فيه، تسرّح الحلاق السابق منذ أيام قليلة. وهكذا أمضيت الشهور الأخيرة المتبقية من سنوات الجندية في تلك القاعة الكئيبة. أذهب في السادسة صباحا وأغادر المعسكر في الثانية ظهرا إلى الفندق الذي أقيم فيه. استحم وأتناول الغداء وبعد الظهيرة أتمشى إلى السوق المسقوف لأعمل في أحد محلات الحلاقة. تسرحت من الخدمة العسكرية قبل يوم واحد فقط من بدء حرب الخليج الأولى، أيّ في الحادي والثلاثين من شهر تموز 1990.

كاتب عراقي مقيم في أمريكا

[email protected]

أحدث المقالات