23 ديسمبر، 2024 5:39 ص

أدب الحرب فى السرد القصصي واجهة للثقافة العراقية

أدب الحرب فى السرد القصصي واجهة للثقافة العراقية

قراءة نقدية فى كتاب حكايات نساء بغداد والبصرة بين الندم والحسرة للأديبة العراقية الدكتورة نجاة صادق الجشعمى

للكاتبة /سحر النحاس

الحرب همجية منظمة مهما حاولت التنكر “نابليون بونابرت”

وفى الحرب تصمت القوانين “شيشرون”

لم يكن أدب الحرب بكل توصيفاته النقدية أدبا طارئا على الشعوب، فهذا أدب عالمي قديم لا يمكن تجاوز إنجازاته الفنية، وبيننا -حتى اليوم- أسماء كبيرة استخلصت رؤاها من الحرب ودمويتها وقسوتها وأخرجت شخصياتها القصصية والروائية من ذلك الجحيم الفظيع، وأمثلتنا كثيرة من الآداب الألمانية واليابانية والأميركية والعربية أيضا.

اليوم يعود أدب الحرب بقوة إلى واجهة الثقافة العراقية لكن من الباب السردي الروائي على وجه الخصوص والتميز، فوجود العشرات والمئات من الروايات التي صدرت منذ 2003 وحتى اليوم تشترك جميعها في هذا التصنيف الذي كان مرفوضًا لأسباب أيديولوجية في ثمانينات القرن الماضي، كما لو أن الحرب اختلفت بين هذه وتلك، وأن وطنا ثانيا تم إنشاؤه بعد 2003 ليزداد عدد شهدائه ويتفوق على تلك الحقبة المضنية بلا شك.

“فى حكايات نساء بغداد والبصرة بين الندم والحسرة “تستهل الكاتبة أولى عتبات النص بعنوان كاشف للمتن بواقعية النصوص المسرودة والتى خلفتها الحروب الطاحنة ليس فقط بالغزو الغاشم للقوات الامريكية للعراق ولكن بما خلقته الفوضي وغياب السلطة، من تشيع وحزبية وفرقة فى النسيج الواحد لابناء الوطن الواحد، وصراع السلطة لتختتم استهلالها بأنها ؛

اوجاع القلب والروح والذاكرة ..

نوارة تلك الام والمعلمة التى تعانى من فشل زيجتها وتعانى من صعوبة الحصول على علبة لبن لاطفالها، وسط جموع من البشر، مصطفون فى طوابير غفيرة، اختارت كرامتها وداست على حاجتها ومضت .

الغواية فن والسحر شر

وأنا ما بين الغواية والسحر

زهرة مبتلية بمكائد البشر

“زينو” ساحرة الغواية التى تعترض طريقها مرة بشكل شاب وسيم يقدم لها المساعدة، ومره بشيخ مسن بسيارته الفارهة، يدعوها لتوصيلها لبيتها ؛ وهكذا تتقلب وجوهه الغواية لنفس رافضة للانحراف طارحة سؤال ختامي ..هل سأضطر للوقوف أمام التيار أم أصطدم بالتيار ويصطدم بي ويتحطم دون أن أنحرف؟

“جِنان” قصة العائلة التى كانت تعيش فى سلام، واغتيلت سعادتهم، وكانت ضحية لاستهتار قوات الغزو الامريكية التى قتلت الأم وابنتها الرضيعة، وحرقت زوجها بدم بارد لمجرد عدم توقف سيارتهم أمام سرب المدرعات الأمريكية .

“بهية” تلك المراة التى تتكسب قوتها من صناعة التماثيل وبيعها لعلاج ابنها بعد وفاة زوجها فى أحد السجون وسفح دمه نتيجة صراعات عنصرية سنية، شيعية، داعشية، لا أحد يعلم وتظل ملامح القاتل مشوشة فى ذاكرتها ؛ حتى يصدمها بسيارته وتصدمها الحقيقة ؛ القاتل هونفسه الطبيب الذى يسكن جوارهم ويعالج الفقراء بالمجان . تطالبه بثمن التماثيل المحطمة، فيلقيها لها علي الأرض بعدما أفزعه تعرفها عليه.. تهرع لمنزلها لتفاجأ بانتحار ابنها بعد يأسه من العلاج .

تزداد حدة الأحداث فى قصة” حميدة”الخيانة والمكيدة وتعدد الجنسيات والزيجات بين الإيرانية والعراقية وتظهر الصراع العرقي جليا فى أحداث دامية.

اللغة كانت فصحى سليمة وسلسة وبدون تقعر مع وجود بعض الهنات اللغوية واستخدمت تقنية الراوى العليم فى معظم القصص وضمير المتكلم فى أحيان أخرى واحتوت علي بعض الديلوجات االقصيرة وبعض الكلمات باللهجة العراقية لدواعي الواقعية السردية .

استهلت الكاتبة معظم قصصها بأبيات نثرية خدمت النصوص فى مواضع كثيرة ولم يكن لها توظيف أو ضرورة فى البعض الآخر ، كما غلب على لغتها السردية الشعرية بوصفها شاعرة ولها إصدرات شعرية .

الحبكات الدرامية تنوعت ما بين المحكم والأقل إحكاما كقصة “قبيلة” مثلا التى لم أر فيها حبكة درامية تقريبا, والتي كانت عبارة عن ديالوج بين امرأة ورجل قابلته على قارعة الطريق تسأله عن الحب ويرد عليها بأن الحب البريء فى النور أفضل من الحب فى السر,وتنتهى بأن تمضي إلى طريقها ، وهى تتمنى أن تعود مراهقة لم أرى فيها سمات القصة القصيرة ولا مقوماتها أو انتمائها إلى متون النصوص.

تلتها قصة سوزان تلك الفتاة ذات السبعة عشر ربيعا التى شاهدت الغزو الأمريكى فى قلب بغداد بينما المذياع يعلن أكاذيب عن انتصارات الجيش العراقي ضد المعتدى ليترك الفتاه فى حاله من الحيرة والخزى والإحباط لم تصبها فقط ولكن أصابتنا جميعا كشعوب عربية عندما كما نتابع تلك الفاجعة على قنوات التلفاز.

ننتقل لقصة بسمة التى تحكي عن أسرة عراقية تم الإبلاغ عنها بأنها تختزن أسلحة وقنابل لتأتي الدوريات الأمريكية وتنتهك حرمة البيت ومن فيه ولا تجد سوى بعض المقتنيات الخاصة بالعائلة وصورة لابنتهم الشهيدة, وهنا تظهر بشاعة المعتدي وهدره لكرامة أهل البلد سواء رجال أو نسوة أو اطفال على حد سواء.

“ليلى” قصة تحوى رمزية الحرية المتمثلة فى العصفور المحبوس فى القفص الذى يرنو ببصره خارج القفص طلبا فى الانطلاق بجناحيه فى الفضاء وتحدث المفارقة المفزعة حين سقطت صاحبتة قتيلة إثر غارة أمريكية على سماء بغداد وحطمت القفص فانطلق حرا طليقا شارعا جناجيه فى الجو, فأصابته رصاصة أردته قتيلا هو الآخر.. فى إشارة ضمنية لبشاعة القتل العشوائي التى تأتي على الحياة بكل أشكالها

قصة “بلا اسم” تحكى عن أول يوم هجرة لمواطنة عراقية عن وطئها لبلد لم تألفه استقبلتها أرض مصر قدوما من غربتها إلى غربتها

وتتوالى القصص دينا وماجده ونورهان إلى آخر المجموعة..

ست وستون قصة عنون أغلبها بأسماء أبطالها النسوية، ظهر فى العديد من القصص المآسى التى خلفتها الحرب الأهلية من تشيع وحزبية وقبلية، وأثرذلك الصراع على الحياة المدنية والأفراد بشكل خاص وعام ، وأيضا لبعض المهجرين إلى دول عربية أو أجنبية وأرض لم يعتادوا العيش بها، وما تلى ذلك من تغير جذري فى حياة كل منهم.

وفى النهاية نحن مع النماذج الأدبية الإنسانية الراقية التي توفّر الكثير من الفن والخيال وتأخذ من رصيد الواقع الكثير، وتعيد إنتاجه بطريقة سردية فيها من الفن الصارم أكثر مما فيها من ألم الواقع، ومتشابهاته الحربية، التي لا تنتهي ليبقى أدب الحرب -بهذه التسمية- أنموذجا رافق ويرافق أجيالا غير قليلة في الحياة الثقافية العراقية.

نشكر الكاتبة الدكتور نجاة صادق الجشعمى على هذة المجموعة التى تحمل هماَ إنسانيا، والتي خرجت من القلب لتصيب القلوب بالحسرة والندم، على مأساة الإنسان فى كل زمان ومكان، نتيجة الحروب والتعصبات العرقية التى تخدم من يملكون السلطة والنفوذ، ويدفع فاتورة ثمنها الباهظ، هؤلاء البشر الآمنين فى شتى بقاع الأرض من حياتهم واستقرارهم ومستقبلهم .