رحلة قصيرة تبدأ من الجنون وحب الفلسفة وحب العائلة وحب النقاش والجدال وكراهية الوظيفة وكذلك كراهية الطغاة والحروب والتمرد والصعلكة وشراهة التدخين والشرب وتنتهي بالقبر ..!!!
مات خضير ميري !!!
مات الجنون
ومات العقل أيضاً!!
خيط من عظام رخوة ونظارات طبية سميكة وشعر طويل منسدل على الأكتاف ووجه حزين مستطيل الشكل وسيكارة مشتعلة يحتضنها اصبعين ناعمين مصنوعين من عاج عظمي ، هذه هي خريطة الأبعاد الفيزيائية لهذا المخلوق الذي تعرض للأنقاض لندرته!!!.
خضير ميري ، شاب يحب الشعر ومن يحب الشعر يحب الكون ومن يحب الكون يحب الفلسفة ومن يحب الفلسفة يحب التمرد على الواقع ومن يحب التمرد على الواقع يلجأ للسيكارة وكأس الشراب !!!.
أحبٌ خضير التمثيل بل عشقه ، حاول ان يمثل ، وبدأ بكبير كهنة المسرح ، بدأ بتمثيل دور هاملت، لكن الدور الذي أجاده ابا سقراط اعني خضير ميري ، هو دور المجنون ، متى؟ في زمن مجنون بكل التعاريف ، حرب مجنونة وساسة مجانين وشياطين .
أجاد ميري دور المجنون ، ربما أصيب بالجنون فعلاً ولم لا
كيف لا يصاب بالجنون مخلوق مثل خضيري يحمل فلب طفل صغير وروح ملآئكية غير ملوثة على الأطلاق بأدران مجتمع منافق وعدائي ولا يحب الخير.
نجح ميري في امتحان الجنون . في عام 1991م تسلم ميري شهادة نجاحه في التمثيل ـ يهرب من مشفاه العقلي ، ولكن يعود لأهله مجنوناً من نوع آخر ، مجنون عاقل او مجنون عاقل ، الفلسفة سبب جنونه وعقله ، الشعر وحب القراءة والكتابة هوايات عديدة يعشقها كائن جنوبي يحمل جينات حضارة اعتقد انها سبب كل النزاعات والحروب وسوء الحظ الذي لازم هذا الوطن الذي ابتلى بكل صور القبح والرزالة وابتلى أيضاُ بساسة لم يعرفوا أن لديهم وطناً يستحق منا ان نحبه كما يحبه ميري حتى وان كان يمثل دور المجنون.
لم يتوقف ميري عن الكتابة ، حتى آخر لحظاته قبل أن يرحل عنا جسداً، يكتب سواء كان متواجداً في بغداد او في القاهرة، يكتب ويكتب ، كل اصدقاؤه يقرأون بنهم ما يكتب ، أضحكني مرةً ما أقصح عنه صديقنا المشترك ، انا ووصديقي خضيري، وأعني به الفنان المبدع والرائد قخري العقيدي ، قال لي ، انني احب ان أقرا كل ما يكتبه هذا العاقل ، خضير ، القيلسوف الذي يدعي الجنون ، لا انام الا ان أقرأ كل كتاب يهديه لي بالكامل ، ويستطرد قائلاً ، اية عوالم هذه التي يتحدث عنها خضير ،انها عوالم متخمة بالميتاافيزيقيا والواقع والحداثة والجنون أيضاً!!.
في امسية الأستذكار التي اقامها اصحابه المقربون هذا اليوم في الأتحاد العام للأدباء العراقيين، ألتقيت بعائلته التي أعرفها بشكل جيد وكذلك تعرفت على شقيقه الأكبر الأخ علي ميري بملابسه العربية ، بعقاله وعباءته وهندامه الجميل ، قال لي هامساً خارج
القاعة ، لم يفد النصح به ، كان يدخن بشراهة ويشرب بنهم ولا ياكل الا القليل وهكذا تعرضت صحته للتدهور ، وقال لي ايضاً ان خضير لم يكن يريد ان يتعافى من مرضه قبل أن يتعافى وطنه من المرض الخطير الذي تعرض له.
أخاف أن يموت الوطن بعد أن مات اعقل مخلوق عرفته في حياتي
مات العاقل خضير ميري ، بقينا نحن ثلة من مجانين لا نعرف كيف نثبت لولاة الأمر من أننا عقلاء بل أعقل منهم.