23 ديسمبر، 2024 8:43 ص

أخونة مصر خطر لا يهدد المركز المدني لمصر وحدها بل يهدد مصير المدنيات الناشئة في منطقة الشرق الأوسط برمتها، فهذه المنطقة التي عانت وتعاني من الشموليات والأبوات والثيوقراطيات والدكتاتوريات هي اليوم مهددة –بعد ربيع ثوراتها- بشموليات اسلاموية مذهبية ستجر المنطقة برمتها لصراعات دينية مذهبية جيوسياسية لا يمكن التكهن بنتائجها المدمرة.

الإبتلاع الناعم
   باسم الشرعية الإنتخابية تشهد مصر انقلاباً ناعماً يهدد بابتلاع الدولة المصرية من قبل جماعة الإخوان الإسلاموية، تجلى ذلك أخيراً بالقرارات التي أصدرها الرئيس محمد مرسي في 22/11/2012م والتي تمثلت باعلان دستوري جديد مكنته من إزاحة النائب العام وتحصين قراراته بعدم الطعن بها أو إلغائها،.. ومصر الآن تعيش غلياناً على وقع هذه القرارات التي أثارت موجة اعتراضات وصدامات مفتوحة ستحدد نتائجها مصير الدولة المصرية الجديدة والمنطقة برمتها.
   في مصر قوى مدنية ناضجة ومؤهلة ومؤسسية يصعب عليها ابتلاع الطعم تحت مسميات تحقيق أهداف الثورة، لهذا اندفعت القوى المدنية لمواجهة استحقاق هذه اللحظة التاريخية الحاسمة من تاريخ مصر، وكان الإعلان الدستوري الأخير الذي أصدره الرئيس مرسي الخطوة الأخطر والتي قرأت فيها القوى المدنية تهديداً لديمقراطية الدولة وتحررها من دوامة الشمولية والإستبداد، كما رأت في الإعلان الدستوري تجاوزاً صريحاً على مبدأ الفصل بين السلطات واستقلالية اختصاصاتها مما يتيح للرئيس التحكم القسري بالدولة على أساس شمولي إخواني هذه المرة.

قطف الثمار
   الثورة المصرية لم تكن من نتاج جماعة الإخوان الإسلاموية، بل هي نتاج 70 ألفاً من مختلف الحركات والفئات الشبابية المدنية الطامحة لدولة ديمقراطية مدنية، فقد استطاع شباب وشابات مصر بإصرارهم وتضحياتهم أن يشكلوا نواة لمد جماهيري ثوري أسقط نظام حسني مبارك في فترة قياسية عجزت عنه لعقود جماعة الإخوان وغيرها من الحركات السياسية التقليدية.. إلا الإخوان قطفوا الثمار، فإضافة الى القدرة التنظيمية الإخوانية هناك أيضاً القدرة التمويهية الهائلة للخطاب الإسلاموي الإخواني الذي يلقى صدى لدى الفئات غير المؤهلة فكرياً وثقافياً،.. وبمجرد وصولهم الى السلطة بدأت عملية ابتلاع الدولة إخوانياً، وبيدهم هذه المرة الشرعية الإنتخابية التي يبررون من خلالها إعادة إنتاج الدولة وفق رؤيتهم وسياساتهم.

التبرير بالشرعية الإنتخابية
   يبرر الإخوان خطوات الرئيس منذ انتخابه والى الآن بأنه رئيس منتخب ويمتلك شرعية التغيير، وهي كلمة حق يراد بها باطلا، فأولاً: أنَّ الشرعية الإنتخابية لم تكن كاسحة، وبالتالي لا تعطي مرسي –وحزبه السياسي- الحق بإعادة إنتاج الدولة المصرية وفقاً لرؤيته وبرنامج حزبه السياسي، فقد فاز د محمد مرسي بنسبة ربع الأصوات من مجموع الناخبين، فقد حصل على نصف أصوات الذين شاركو بالتصويت، والمصوتون كانو نصف عدد المشمولين بحق الإنتخاب، فتكون النتيجة أنه حظي بنسبة الربع من مجموع المؤهلين انتخابياً، والأرقام تقول هذا، فقد أعلنت اللجنة العليا لإنتخابات الرئاسة المصرية فوز المرشح محمد مرسي رئيساً لمصر بنسبة 51.73%، مقابل 48.3% لمنافسه الفريق أحمد شفيق، وقال المستشار فاروق سلطان في المؤتمر الصحفي لإعلان النتائج، حصول محمد مرسي على 13 مليون و230.131 صوتاً أي بنسبة 51.73 %، فيما حصل منافسه د.أحمد شفيق على 12 مليون و347.380 صوتاً أي بنسبة 48.3%. وأشار إلى أن نسبة التصويت بلغت 51.5 حيث حضر 26 مليون 420.763 ناخباً، من 50 مليون و958.794 ناخبا،.. فهل أنَّ هذه النسبة تؤهل الفائز بإعادة بناء الدولة على وفق رؤيته الآيديولوجية والسياسية؟. ثانياً: الشرعية الإنتخابية لا تؤهل الفائز بابتلاع الدولة، فهي شرعية ممارسة السلطة لا شرعية ابتلاع الدولة حزبياً، ومصر الآن تعيش مرحلة انتقالية تحولية لم تحسم بعد طبيعة الدولة المراد إنتاجها بعد الثورة، ولا يمكن لرئيس فاز بنسبة ربع الأصوات حسم مشروع الدولة بمعزل عن باقي الأمة وقواها السياسية،.. إنَّ حسم مشروع الدولة يحتاج أول ما يحتاج الى عقد تأسيسي تشترك فيه جميع قوى الأمة المصرية بمختلف طوائفها وقواها كي يحظى بالشرعية اللازمة التي هي شرعية أمة لا شرعية حزب دون آخر،.. وما زال مصير الجمعية التأسيسية المعنية بإعداد الدستور كعقد تأسيسي للأمة المصرية مجهولاً، فهذه الجمعية تعيش قلقاً قانونياً وسياسياً بسبب انسحاب معظم القوى غير الإخوانية والسلفية منه، وجاء اعلان مرسي الدستوري مكملاً لحالة الهيمنة عليه واختطافه من خلال تحصينه من الحل،.. وبهذا الصدد أكد الدكتور وحيد عبد المجيد، عضو الجمعية التأسيسية المنسحب، لـموقع “إيلاف” أن الإعلان المكمل وما جاء به من بنود معيبة “قد قضى على جميع الوساطات التي قام بها الأزهر وغيره للضغط على المنسحبين للعودة عن قرارهم، إذ لا يمكن العودة إلى الجمعية في ظل رئيس دولة يفرض هيمنته بالقوة على الشعب، وبدلاً من التوافق حول الدستور وبحث نقاط الخلافات نجده بالجبروت يحصن التأسيسية من أي حكم يصدر من المحكمة الدستورية، بل ويعطي لنفسه الحق في مد فترة عمل التأسيسية، وهو ما يؤكد أن الإخوان يريدون دستوراً مفصلاً على قياسهم، يحقق أغراضهم فقط”.
   إنَّ شرعية الإنتخاب لا تعطي الحق باختطاف الدولة حزبياً،.. للإخوان وواجهاتهم السياسية الحق في الحكم وممارسة السلطة وهو من استحقاقات العملية الديمقراطية، هذا مما لا شك فيه، ولكن ممارسة الحكم شىء وابتلاع الدولة شىء آخر،.. تاريخياً وصل الحزب النازي الألماني الى سدة الحكم من خلال الإنتخابات، إلاّ أنه ابتلع الدولة واختطفها وقادها الى الإنتحار والنحر،.. فليست الإنتخابات سوى آلية يجب ضبطها بمنظومات ديمقراطية مدنية متكاملة تضمن عدم اختطافها من قبل الشموليات والدكتاتوريات والحزبويات.
   يجب ممارسة السلطة ومزولة الحكم على قاعدة الدولة الديمقراطية المدنية التي لا يهددها الإبتلاع الشمولي أو الآيديولوجي أو الثيوقراطي أو الحزبي أياً كان،.. وإلاّ فلا تغيير حدث مع إعادة حالات الهيمنة والإبتلاع والشمولية التي ابتليت به الدولة الشرق أوسطية منذ تأسيسها الحديث.
جبهة الخلافة
   يبدو أنَّ مهمة ابتلاع مصر هي جزء من مخطط لإبتلاع المنطقة بأسرها لتحقيق مشروع (جبهة الخلافة) تكون مصر الإخوانية مركزه ومركزيته من المغرب الى الخليج،.. وهنا يجب أن نستحضر المخطط الإخواني لإبتلاع الخليج لأهميته كمصدر مالي ستراتيجي، وهو ما حذرت منه دولة الإمارات العربية المتحدة على لسان وزير خارجيتها وقائد شرطتها عندما فضحت المخطط الإنقلابي الإخواني في الإمارات. وليس ببعيد تحركات التحالف الإخواني السلفي في الكويت،.. والحقيقة فإن المنطقة برمتها مهددة بالأخونة من المغرب الى الأردن الى الخليج، وهذا يعني فيما يعني إعادة إنتاج المنطقة على أساس من مركزيات دينية ومذهبية متصارعة جيوسياسياً وبالذات المركزيتان السنية الشيعية.

لمصر مركزيتها
   لمصر مركزيتها المدنية في المنطقة تاريخياً، وأخونة مصر أو تأسلفها يعني سقوط أهم ثقل مدني في منطقة الشرق الأوسط، ومصر حالياً على وشك السقوط في أتون الثيوقراطية والجبهات الطائفية التي تأمن من وطأتها المنطقة والتي لم تنتج سوى التعصب والكراهية والصدامات بين شعوب وأديان ومذاهب منطقة الشرق الأوسط.
   تمتلك مصر النخب والقوى والمؤسسات المدنية اللازمة للحفاظ على مدنية الدولة أكثر من أي دولة شرق أوسطية، فليس هناك في المنطقة من ثقل مدني نخبوي ومؤسسي قادر على مواجهة الإسلاموية السياسية –على مستوى النموذج- كما في مصر، لا في العراق ولا في الخليج ولا في شمال أفريقيا،.. من هنا فالأمل معقود على مدنيي مصر في الحفاظ على مركز ومركزية مصر المدنية حفاظاً على مصر والمنطقة بأسرها.

مركزيات مدنية
   إلى هذه اللحظة أفرز الربيع العربي مراكز اسلاموية سلطوية في هذه الدولة أو تلك تحاول بدورها تشكيل مركزيات اسلاموية وبالذات في مصر، وهو مسعى إن استوطن وتمكن فإنه سيدخل المنطقة برمتها في صراعات كبرى على أساس ديني مذهبي متضاد.
   بعد فشل المركزيات القومية واليسارية في منطقتنا، هناك اتجاهاً لتوطين المركزيات الثيوقراطية على أساس مذهبي، وهو اتجاه سيعيد تشكيل أمم ودول المنطقة لا محالة على وفق الهويات الفرعية لشعوبها ومجتمعياتها.
   لا يمكن ضمان إستقرار المنطقة وتحقيق ازدهارها على أساس من السلم والتنمية والتكامل إلاّ بتأسيس مراكز ومركزيات مدنية بعيداً عن الإستبداد والأدلجة والتمذهب والشموليات.
   تحتاج شعوب المنطقة الى ربيع مدني ينتج دولة مدنية قادرة على احتواء تناقضات الذاكرة التاريخية وتصداعات الواقع المجتمعي، وقادرة على احتواء كوارث الإنهدام بفعل الشموليات والتعصب الناجم عن الحواضن التقليدية، وقادرة على التأسيس الحقيقي للديمقراطية وللحقوق المدنية بما يضع حداً لمناهج الإستبداد والأبوات واليتوبيات المصطنعة،.. ووفق المعطيات الحالية فليس سوى مصر بقواها المدنية بقادرة على إدامة الزخم التغييري لإنبعاث ربيع مدني حقيقي،.. فالمنطقة تتطلع الى ربيع مدني منطلقه القاهرة ومركزه ميدان التحرير. 

[email protected]