من المؤكد أن أغلبنا لمس جدوى الزيارة مع صديق أو قريب او حتى عدو، وتحسس مدى تأثيرها في قلب النفور الى تجاذب، وتحويل الأحقاد الى مودة، إذ طالما سمعنا عن أعداء لدودين، أضحوا أولياء حميمين، بُعيد زيارة قام بها أحدهم الى نده، وقد جاء في الذكر: “فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”. فالزيارة تطوي -فيما تطويه- ضغائن وأحقادا ومواقف وخلافات في وجهات نظر، قد تكون متراكمة من أزمان ماضية بين المتزاورين.
وزيارة العدو في أغلب الأحيان تسبقها مخاوف، وترافقها حزازيات غير مرغوب بها، لاسيما أن بعضنا (خشمه يابس) إذ تدخل اعتبارات وحسابات تلجمنا وتحد من جرأتنا في المبادرة بالخطوة الأولى، تجاه طي صفحة الماضي مع عدونا، والبدء مجددا (من راس السطر). وهذا يتطلب حتما الوقوف بنقطة عند نهاية السطر السابق. ولكن لو امتثلنا لقول الإمام علي في بيت من قصيدته الزينبية، لوجدنا أننا موهومون في ظننا وتصورنا، إذ يقول عليه السلام:
والق عدوك بالتحية لاتكن
منه زمانك خائفا تترقب
وفي هذا بعد نظر وكياسة ورؤية تحليلية عميقة لما بين النفوس المتباعدة والمتخاصمة، إذ أن الذهاب الى العدو والبدء بتحيته يعقب كثيرا من الإيجابيات، ويقلب الموازين الى حيث الصالح والفالح في العلاقات بين الناس. ولم يفت إمامنا -حاشاه وهو سيد البلغاء- أن يحذرنا من بعض الأعداء، إذ قد يفاجئوننا بما لم يكن بالحسبان فقال:
واحذره يوما إن أتى لك باسما
فالليث يبدو نابه إذ يغضب
وإن كانت نياتنا سليمة في رسم خطى جديدة مع عدونا تتجه صوب السلم والسلام والوئام، فقد يكون المقابل لايحمل النيات ذاتها، ويكن في صدره غيظا دفينا لم تمحه السنون، ولم تبدله صروف الدهر وتقلباته، فيكون إذاك قنبلة موقوتة تدمرنا يوما ما، إذا ماتعايشنا معه في آن واحد وآنية واحدة، وقد حذرنا إمامنا من أشخاص كهؤلاء فقال:
إن الحقود وإن تقادم عهده
فالحقد باقٍ في الصدور مغيب
وبين الرجاء في تبدل العدو الى ولي حميم.. والتخوف من مكائده في مستقبل الأيام، تكمن الحنكة والفراسة في تعاملنا معه، واستدراجه -لاخداعه- الى محلات اشتغال المحبة والوئام فيما يربطنا به على وجه المعمورة، والابتعاد عن كل مايذكي ويضرم نار الحقد المغيبة في صدره من جديد.
مادعاني الى استذكار التزاور وفضائله.. والعدو والأمل في التعايش معه من دون ضرر يصيبنا او شرر يلوحنا منه، هو عديد الزيارات التي قام ويقوم بها شخوص على مستويات متعددة من الحكومة المركزية، يقابلها آخرون نظراؤهم من إقليم كردستان العراق، وبهذا يسجل الإثنان النية المسبقة في صهر الجليد بين الطرفين، والركون الى دكة الحوار والنقاش، والأخيران طبعا يتطلبان سياسة دبلوماسية خاصة، إذ الطرفان -المركز والإقليم- ماعادا أبناء بلد واحد، وهذه حقيقة صادمة، إلا أنها واقعية شئنا أم أبينا! فقد امتلأت قلوب سياسيي الحكومتين غلا تجاه بعضهم، ولعل هذا ناشئ من غلو الجانب الكردي طيلة العقد ونصف العقد الذي أعقب سقوط نظام صدام بسياسته الانتهازية، وتماديه بعرقلة سير العملية السياسية، والتي أطلق عليها في بدايتها: (الفتية) ومن سوء حظ العراقيين أنها مازالت فتية، ولا بوادر لبلوغها سن الرشد مع أنها أشرفت على حينه، واقتربت من أوانه، ولهذا أسباب ومسببات ومسببون، وحكومة الإقليم من المسببين. إذ لطالما كانت الكتل والأحزاب الكردستانية المنضوية تحت قبة البرلمان العراقي، تبحر عكس تيار باقي النواب، وهذا ليس تبرئة الأخيرين من نية العرقلة، فمن المسلم به، أنهم جميعا كما يقول مثلنا الدارج: (واحد تافل بحلگ الآخر) أو لعل مثلا ثانيا هو الأنسب وصفا لهم وأكثر تطابقا، ذاك الذي يقول: (….) أخو (….)!.
فنية المخالفة كانت مبيتة على الدوام لدى النواب الأكراد، قبل التصويت على القوانين أو مشاريع القوانين، بل قبل أن تطأ أقدامهم بناية البرلمان، إذ تأتيهم الأوامر من أعالي الجبال، وماهم إلا العبد المأمور، وغالبا ما كان أهون الأوامر هو الإخلال بالنصاب، والأخير هذا كفيل بخلق عدو تصعب مجاراته بالكلمة الطيبة. وبذا فإن للأكراد يدا، بل يد طولى في تأخر نهوض البلد، وقد تساوت في هذا أيديهم وأيدي نظرائهم من العرب في سدة الحكم، سواء أكان الأخيرون سنة أم شيعة! وقد قيل سابقا: “الحقيقة مرة”.