18 ديسمبر، 2024 6:52 م

أخلاق الساسة الشعبويين و… فسادهم!

أخلاق الساسة الشعبويين و… فسادهم!

يعتمد خطاب الاتجاهات القومية الشعبوية الصاعدة في أوروبا والولايات المتحدة على مزيج عشوائي من المكونات الاجتماعية- الثقافية في مرجعيات محافظة و “نيوليبرالية” تحتل مسألة الأخلاق الفاضلة مكانة مميزة فيها. تتفاوت أهمية هذه المكانة من اتجاه إلى آخر، وتبدو محورية في بعض الاتجاهات التي ترى السياسة تعبيراً عن منظومة اجتماعية – أخلاقية تقوم على الأبوية والتراتبية، لا التفاعل والمساواة، وتربط الحكمة بمرور الزمن وليس بتراكم المعرفة، وتجعل الأكبر سناً أكثر حكمة، والرجل أوفر عقلاً!
غير أن هذه المنظومة الاجتماعية – الأخلاقية، التي تُنتج خطاباً يفيض بأحاديث الفضيلة والنزاهة والشرف والصدق والأمانة، هي ذاتها التي تفرز قادة سياسيين يخالفونها في ممارساتهم من دون أن يرفّ لهم جفن، أو يشعروا بتناقض بين ما يقولونه وما يفعلونه. وربما يرجع ذلك إلى تعودهم أن يمنحوا أنفسهم الحق في تقييم الناس وفق مدى قربهم من تلك المنظومة أو بعدهم عنها، ولا يتصورون أن يكونوا موضع محاسبة. وقد يعود تناقضهم هذا أيضاً إلى إحساس يُلازم من ينصبون أنفسهم حراساً للأخلاق والفضائل، وهو أن الباطل لا يأتيهم من بين أيديهم ولا من خلفهم، وأن الحق والصواب دوماً ملك يمينهم. وهذه سمة نجدها أيضاً في أولئك الذين يعتبرون أنفسهم حراساً للأديان، أو للدول والأوطان، ويتشدقون طول الوقت إما بنصوص دينية أو بشعارات وطنية، ويستسهل بعضهم أو كثير منهم تكفير المختلفين وتخوينهم.
ومثلما يتاجر حُراس الأديان بما يُفترض أن يسمو به من يحب دينه، ويدغدغ حُراس الأوطان مشاعر الخائفين على بلادهم بنزعة وطنية لا يجوز احتكارها، يستغل حُراس الأخلاق أزمات تواجه مجتمعاتهم للزعم بأنهم يملكون حلها حين يعتلون السلطة، أو لصرف الانتباه عن فشلهم حين يكونون في الحكم بدعوى أن المشكلة في أخلاق المجتمع، وليست في سياساتهم.
وكثيرة هي الممارسات الدالة على ذلك خلال القرنين الأخيرين اللذين دخل العالم فيهما عصر التفاعلات الحديثة. لكنّ قادة شعبويين يضيفون إليها في المرحلة الراهنة جديداً في مجال الفساد واستغلال المال العام وانتهاك حرمته التي تحميها القواعد الديموقراطية والثقافة الليبرالية. والحديث، هنا، عن شعبويين في دول ديموقراطية تقوم نظمها السياسية على القانون والمحاسبة والشفافية، وليس عن نظرائهم في بلدان يُعدّ الفساد أحد المكوّنات اللصيقة بسلطات حكمها.
تتجلى ظاهرة الفساد الشعبوي في الانتخابات الفرنسية التي تجرى جولتها الأولى اليوم، بعدما ظهرت في الانتخابات الأميركية التي حملت إلى البيت الأبيض رئيساً شعبوياً مطعوناً بذمته المالية. وبين المتنافسين في فرنسا مرشحة شعبوية أصيلة، ومرشح امتطى جواد الشعبوية لعله يأخذه إلى الإليزيه، والاثنان متهمان بقضايا مالية.
ولا يخفى أن الصورة الأخلاقية التي طالما رُسمت للمرشح فرانسوا فيون، بوصفه رجلاً مستقيماً وصادقاً ورب عائلة مستقرة، كانت أحد عوامل فوزه في الانتخابات التمهيدية لحزب الجمهوريين. ويمكن لمثل هذه الصورة أن تُحدث أثراً بالغاً في لحظة أزمة تهز أركان المجتمع. غير أن هذه لم تكن أكثر من صورة مصنوعة لم تلبث أن توارت حين كُشفت فضيحة الوظائف الوهمية لزوجته واثنين من أبنائه، وفضائح مالية أخرى.
وكذلك الحال بالنسبة إلى المرشحة مارين لوبن التي رُسمت لها صورة الزعيمة الصالحة القادمة من خارج مؤسسة تقليدية أصابها الفساد. فهي متهمة بدورها باختلاس مال عام، لأنها منحت حارسها الشخصي وظيفة وهمية في البرلمان الأوروبي. كما خصصت مبالغ كبيرة من أموال الاتحاد الأوروبي لمساعدتها من دون وجه حق بين 2010 و2016.
وتدخل هذه الاتهامات أخلاقياً، كما قانونياً، في باب الفساد سواء تم تكييفها بوصفها اختلاساً أو إساءة استغلال للنفوذ أو انتهاكاً لمعايير الشفافية أو حتى إخلالاً بالواجبات العامة.
وفضلاً عن الفساد، يتشارك فيون ولوبن في انتهاك إحدى أهم القواعد الديموقراطية والمبادئ الأخلاقية في آن، عبر محاولة إخفاء الحقيقة، واحتقار القضاء والهجوم عليه. فقد هاجم فيون النظام القضائي، وشكَّك في منظومة للعدالة يحلم كثير من شعوب العالم بمثلها. وظهر تهافته الأخلاقي عندما أقدم وزير الداخلية برونو لورو على الاستقالة حين كُشف النقاب عن تورطه في فضيحة وظائف وهمية مماثلة. كما استخفت لوبن بالمعلومات الدالة على فساد في ممارساتها، ورفضت المثول أمام القضاء إلا بعد انتهاء الحملة الانتخابية، سعياً إلى تجنب ثبوت ما ينبغي أن يعرفه الناخبون أو يتحققوا منه قبل الإدلاء بأصواتهم.
ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى الرئيس ترامب الذي يثير سلوكه المشتبه في مخالفته قواعد النزاهة المالية قلقاً في بعض الأوساط. وشهد يوم انتهاء المهلة المحددة للأميركيين لدفع ضرائبهم (15 نيسان – أبريل الجاري) بضع تظاهرات رمزية للمطالبة بإعلان سجلاته الضريبية. والحال أنه ربما يكون في إمكان ترامب أن يتكيف بدرجة أو بأخرى مع المؤسسة السياسية الأميركية. وقد يبتعد عن شعبويين أوروبيين معدومي الحس الإنساني عندما تحرك ضميره في جريمة قصف بالكيماوي على رغم لا مبالاته بجرائم يومية لا تختلف إلا في نوع السلاح المستخدم في ارتكابها. ولكنه لا يستطيع أن يخرج من جلده المكسو بمزيج من الفساد والكذب واحتقار المختلفين، فضلاً عن الاستهانة بقيم إنسانية راسخة في الثقافة الليبرالية.
وفضلاً عن شبهات في شأن بعض تعاقدات مؤسسته الاقتصادية المتشعبة مع شركاء معروفين بفسادهم، فُتح تحقيق منتصف العام الماضي حول فساد مالي في مؤسسته الخيرية التي أُنشئت في 1987 من دون أن تُسجل في المكتب الخاص بهذا النوع من المؤسسات، ما جعل جمعها التبرعات نوعاً من الاحتيال، وفق وصف استخدمه بعض القانونيين.
ولا تقتصر شبهة تضارب المصالح على ترامب، بل تمتد إلى ابنته إيفانكا وزوجها اللذين يديران استثمارات كبيرة، على رغم أنهما يعملان معه رسمياً في البيت الأبيض.
وليست هذه إلا مجرد أمثلة على تهافت المنظومة الاجتماعية- الأخلاقية التي يحترف ساسة شعبويون استخدامها لاستغلال أزمات حادة في مجتمعاتهم تدفع بعض الفئات الاجتماعية إلى البحث عن بديل يتوسمون أنه صالح أو نزيه أو شريف لمجرد أنه قادم من خارج المؤسسة السياسية التي فقدوا الثقة بسلامتها، أو قادر على التنصل من تاريخه فيها والانقلاب عليها.
نقلا عن الحياة