23 ديسمبر، 2024 2:56 ص

أخطر الأمراض المتفشية في العراق .. انعدام الوطنية

أخطر الأمراض المتفشية في العراق .. انعدام الوطنية

عندما حدث الحدث الأكبر _ بالنسبة لنا _ و حينما بدأت خطواتنا الأولى انقسمت الجماعات الإنسانية إلى طوائف ومجتمعات تتنازع فيما بينها و كلٌ يرى جماعتَه محقةً غالبة , فيما بدأت معتقدات الإنسان بالتشكل ما بين آراء و مقاييس و استنتاجات و ما إلى ذلك , و من هذه المعتقدات ديانته بين مفاهيم تحدد أسلوب الحياة وبين إله يُعبد وعليه يتم الاستناد , معنى هذا انه عندما نشأت الجماعة البشرية و بدأت بالتزايد حالها كحال بقية الكائنات شعرت بالحاجة إلى الانقسام كي يقل عددها و بالتالي يتمكن المرء من الشعور بالترابط بشكل أسهل و كي يتمكن من إيفاء حاجة ملحة كامنة في داخلة ألا وهي ( الانتماء ) .
لذلك فإن حب الوطن فطرة أساسية في داخل الجميع لأنه جزء من الغايات و الأهداف التي تجعل للحياة معنى , حتى النزاعات بين الناس بسبب اختلاف أوطانهم قد تكون من الأمور التي تحرك الحياة و قد يؤدي ” السلام التام ” إلى الجمود لان الوطنية شعور لا بد من استيفائه لدى الجميع , وكذلك انه لا قيمة للفرد حينما تسود الأنانية و الفردية بلا اهتمام بما يجري حوله فمن الأمور الذي تؤدي إلى فشل ودمار أي مجتمع هو الفردية وعدم التدخل و محاولة الإصلاح , يقول لوثر كنغ : ” أسوأ مكان في الجحيم محجوز لهؤلاء الذين يبقون على حيادهم في الأزمات الأخلاقية العظيمة ” .
إضافة إلى أن أنانية الفرد و عدم مبالاته ببلده و شعبه بل بالإنسانية جميعا و بجميع الكائنات تؤدي إلى دماره ودمار الجميع , فليزرع نبتة واحدة فقط وسيرى , فلينر قلبا واحدا فقط وليعطه سعادة بسيطة فقط وسيرى , فليعمر بنيانا واحدا لأي كائن فقط وسيرى , فليبني وطنا فقط وسيرى , سيرى أن هذه قيمة الحياة .. في الإنجازات .
فلذلك فإن الحيادية تلك وعدم الانتماء ليست أمراً ناجحا إذ أنها تؤدي إلى تدمير البنية الأساسية لأي موطن أو مجتمع إذ يتفرق الجميع وتنهار البلاد , وبانعدامها كذلك يصبح الإنسان تائهاً , يقول نيلسون مانديلا : ” ليس حرا من يهان أمامه إنسان ولا يشعر بالاهانة “.
قد تكون هناك علاقة طفيفة بين الدين و القومية فكلاهما انتماء إلى شيء ما و كلاهما يعطيان المرء شعورا روحانيا من نوع ما وغيابهما قد يصنع من حياة البشر شيئا رماديا فوضويا غير واضح المعالم , لكن قد تكون القومية محدودة نسبيا عند مقارنتها بالديانة , فالديانة مسَلَمات قليلة القابلية للجدال في شأنها من قبل معتنقيها وهي طريقة عيش وهي مبادئ .
الوطن الحر شيء ذو قيمة عالية و بإهمال أفراده قد يضيع من بين أيديهم , مثلا عندما يأخذ أبناءه أفكار و ثقافات من الأمم الأخرى ولا يقومون هم بصناعتها , هذا يجعهم مكبلين بأصفاد تلك الأمة الأخرى , يقول فولتير : ” خبز وطنك أفضل من بسكويت أجنبي ” .
تعاني الكثير من البلدان اليوم انهيارا تدريجيا و من هذه البلدان بلدنا ( العراق ) و كل ذلك يعود إلى نسيان شعبه حضارته وتاريخه و عدم مبالاته ولجوءه لحضارات وثقافات البلدان الأخرى وتقليدها ونسيان أمجاد الماضي , نسيانه التاريخ الذي يعود إلى آلاف السنين , من تشريعات حمورابي , من أولى الآلهة , من الاختراعات القديمة و العجائب , من أول المباني , من أولى القصص و الأساطير . و صحيح ما يقوله هتلر : ” إنّ الإنسان لا يُناضل إلا من أجل ما يُحِبّ، ولا يُحِبّ إلا ما هو حريٌّ بالتقدير والاحترام، فكيف يُطلب من مواطن أن يُحبّ وطنه ويُقدّرُه وهو يجهل تاريخه ” .
إضافة إلى انه يعود إلى تفكير يقول بان ” لا فائدة من النهوض و الإصلاح لان ذلك ليس كاف و لن ينقذنا ” , ولكن هذا اعتقاد كسول وغير صحيح , اقل شيء من الممكن له أن يساعد , تقول الأم تريزا : ” إن لم تستطع إطعام المئات , إذاً اطعم واحدا فقط ” .
جاء في قرآنه قوله تعالى : ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )).
وفي العراق حاليا لا يجد الكثيرون مانعا من ترك الوطن وهجرته بل بعضهم يتمنى ذلك , ولكن من جعله على هذه الحال التي تجعل أهله راغبين بتركه و الاستسلام والتوقف عن محاولة إصلاحه ؟ نحن من فعلنا ذلك بسبب تكاسلنا و تهاوننا وعدم السعي للنهوض و اتكالنا على آخرين , وهذا ما يستمر بتدميرنا تدريجيا .
وبالتأكيد لكل شيء جانبان ايجابي و سلبي فكما إن للوطنية جانب ايجابي و لانعدامها جانب سلبي , كذلك هناك لها جانب سلبي و لانعدامها جانب غير سلبي .. إذ إن التعنت بها و التشدد الكبير والحب الأعمى لبلد واحد بحجة انك فقط ولدت فيه وعشت فيه لا يبدو أمرا شديد المنطقية , كما أنها تفرق بين البشر و تنشر الكراهية فيما بينهم , فليس من الجميل أن يتعادى الناس فقط لاختلاف الوطن والثقافة , و كم من السيئ الاقتتال و الحروب وقتل الإنسان لإخوته البشر و تفرق الأحباء فقط لاختلاف بلاد أو ديانة أو رأي , كالذي يقوله محمود درويش : ” فارسٌ يغمد في صدر أخيه خنجراً باسم الوطن ويصلي لينال المغفرة “.
بالنسبة للعراق لقد أدخلنا انعدام الوطنية في مطبات و انحدارات كثيرة , و ليس لانعدام الوطنية جانب ايجابي , بعد أن كان العراق واحداً من البلدان الغنية أصبح يستجدي مالاً من البلدان الأخرى , وهذا يعود إلى إهمال الشعب وعدم محاسبتهم للمسئولين و عدم مبالاتهم و عدم معرفتهم أنهم هم القوة وأنهم هم الحكومة والقضاء و أن الحكم الديمقراطي يعني أن الحكم بيد الشعب , وكذلك كما يعود على الشعب يعود إلى أنانية الحكومات و فسادها و عدم شعورها بالوطنية بل فقط بالفردية. و بعد أن كان العراق مصدراً للعلم و الثقافة و للاختراعات أصبح مجرد دولة هامشية يستغلها الجميع بسبب غباء شعبها _ إذ إنهم بلا القيادة الحكيمة والوطنية والذكية يمسون مجرد خراف بلا راعي _ , وقد نجحت المؤامرات الهادفة إلى إسكار الشعب و تحويل اهتمامه بالتوافه و الأمور عديمة الأهمية كالاهتمام بديانة هذا وبأصل ذاك , وهذا هو المقصد ” تفرقة الناس و تخديرهم ” . و بعد أن كان للعراق حضارة و ثقافة أمست الأخيرة في خبر كان بعد أن دخلت ثقافات ” بلدان أخرى ” محاولةً محي الحضارة العراقية من الوجود , و حمق الناس قد ساعد على ذلك , فكم عراقيا سوف يظل متذكراً أمجاد ماضية _ والتي تحثه على المضي قدما في المستقبل _ بعد كل ما حل به من تشتيت و ما وضع على عينيه من غشاوة.
وجزء من الإصلاح يكون في انفتاح الناس قليلا و تبصير عقولهم جيدا لمعرفة الخاطئ من الصحيح , يقول كارل بوبر : ” ليس الجهل في غياب المعرفة بل في رفض الكتاب “.
وكما يقال ” كل شيء زاد عن حدِه انقلب ضدَه ” فإن التعنت الشديد و التزمت بالوطنية أمر سيء يؤدي إلى الفرقة والى التعاسة , و انعدامها كحشرة الأرضة التي تأكل وتأكل في البنية الأساسية للبناء فتؤدي إلى انهياره , فالحل هو محاولة إيجاد الحب الوطني و بالتالي الإخلاص إليه .. إلى البلاد التي آوتك و منحتك السعادة , إلى الأرض التي أطعمتك من خيراتها , وفيها عرفت معنى المحبة و السعادة , والحل في الاعتزاز بالقومية بشكل معتدل و محبة بقية الشعوب و البلدان و التعايش معهم لأنهم جميعا إخوتنا رغم الاختلافات التي تميزنا و تجعل للحياة معنى و تجعلها ممتعة ومشوقة , فليس معنى الوطنية ومحبة الوطن كره بقية البلدان أو منازعتها بل احترامها _ لان الوطن غالباً لا يكون مُختارا وكما تحب وطنك يحب الآخرون أوطانهم _ و الذكي هو من يجعل الكون بأكمله وطناً له .
يقول محمد الغزالي : ” إن العمل الصعب هو تغيير الشعوب , أما تغيير الحكومات فإنه يحدث عندما يريد الشعب ذلك ” . فليس الحل بالاعتماد على الحكومات بل على الشعب لان الشعب هو الحكومة , و ليس الحل بالاعتماد على المنافقين ممن يدّعون الوطنية , بل الحل هو أن يبدأ الفرد من نفسه إذ يكفي أن يزرع شجره واحدة فقط في حديقة منزله .
ملاحظة : تم استعراض أكثر من وجهة نظر في هذا المقال بهدف النظر للمسألة من جوانب متعددة .