لقد أصبح تفضيل الأمن والاستقرار على الديموقراطية سمةً مميزةً للسياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط. فقد صدرت تصريحات كثيرة في شأن دعم حقوق الإنسان والإصلاح في ظل إدارة أوباما، ولكن لم يكن هناك الكثير من السياسات لتنفيذها. أما في ظل ولاية ترامب، فعلى الرغم من أنها في بداية أيامها، لكن يبدو أن حتى التصريحات قد تم إهمالها. وبطريقةٍ ما، قد ينتهي الأمر بأن تصبح تحركات إدارة ترامب أسهل في التنبؤ بها مقارنةً بإدارة أوباما، حيث إن ترامب لا يلمّح ولو حتى تلميحاً غير مباشر الى أن اهتمامه بالشرق الأوسط متعلّق بأي شأن غير الأمن. ولكن سوف ينتهي هذا الأمر بإحداث المزيد من الضرر على المدى الطويل.
تقبع سورية في قلب هذه المسألة، وتمثل حكاية ذات مغزى وعبرة. لأن أولوية الرئيس ترامب هي مكافحة التطرّف، فإن سورية هي من الموقعَين الرئيسيّين (الموقع الآخر هو العراق) حيث ستشهد هذه المعركة ذروتها. وقد ركز التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة المناهض لتنظيم «داعش» حتى الآن على النشاط العسكري كوسيلة للقضاء على تنظيم «داعش» وغيره من الجماعات المصنّفة على أنها جماعات متطرفة.
بينما تسفر الحملة العسكرية ضد «داعش» عن فقدان أراضي التنظيم، إلا أنه يجب على الولايات المتحدة وحلفائها عدم تكرار الأخطاء التي ارتُكبت منذ عقد تقريباً في العراق، عندما هُزم تنظيم «القاعدة» في العراق عسكرياً من جانب صحوات العشائر السُّنيّة العراقية المدعومة أميركياً. لقد تم ارتكاب خطأ رئيسي آنذاك وهو عدم الالتفات إلى البُعد السياسي للمشكلة، إذ إن حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي والتي كانت حليفة للولايات المتحدة ويُسيطر عليها الشيعة مارست التمييز ضد العراقيين السُّنّة، ما أدّى إلى تظلماتٍ طائفية مستمرة انتهت بتمهيد الطريق لظهور تنظيم «داعش»، والذي استغل قضية التظلم السُّنّي لحشد الدعم لنفسه.
اليوم، أصبحت الولايات المتحدة أكثر وعياً بأهمية معالجة الانقسامات الطائفية في العراق، ولكن عندما يتعلق الأمر بسورية، تظلّ الحرب ضد تنظيم «داعش» خالية من السياسة في شكل صارمٍ. لكن المحرك الرئيسي وراء ظهور تنظيم «داعش» والجماعات الجهادية الأخرى في سورية هو محركٌ سياسي. حيث التَحَقَ العديد من السوريين بالجماعات الجهادية الأخرى غير تنظيم «داعش» لأنهم رأوا أنها أكثر فاعلية من الجيش السوري الحر، ذي الدعم الخارجي الضعيف، في محاربة نظام الأسد.
أما بالنسبة لتنظيم «داعش»، فعلى الرغم من أن هناك العديد ممّن صدّقوا روايته عن كونه بديلاً عن الدولة السورية، لم تكن حربه الرئيسية ضد النظام السوري ولكن كانت ضد الجيش السوري الحر. لقد تسبب قطع تمويل الولايات المتحدة عن الجيش السوري الحر والذي كان أصلاً غير مدعوم في شكلٍ كافٍ في جعل هذا الأخير أكثر ضعفاً في مواجهة كل من تنظيم «داعش» والجيش السوري. وهذا الأمر جعل الجماعات الجهادية مثل جبهة فتح الشام (والتي تمت إعادة تسميتها الآن مرة أخرى بتشكيلها «هيئة تحرير الشام») أكثر جاذبية لهؤلاء المتعهدين بإزالة الأسد من السلطة بأي ثمن.
وما عزز هذا المسار هو غياب حلٍ سياسي للنزاع السوري. لم تقدّم الولايات المتحدة أية قيادة أو أي التزام حقيقي من شأنه إنهاء هذا الصراع. وبالرغم من استمرار محادثات جنيف على نحوٍ متقطع، إلا أن الانتقال السياسي لم يعد القضية الأساسية ضمن خططها المستقبلية. ومن دون استراتيجية واضحة وشاملة تبين وجود احتمالات حقيقية من أجل التغيير السياسي في سورية، فسوف يستمر المقاتلون المحليون في محاولة إزالة نظام الأسد بأي وسيلة ممكنة.
لقد تضاءلت الخيارات أمام مثل هؤلاء المقاتلين في شكل كبير، بخاصة بعد انقطاع تمويل الجيش السوري الحر مؤخراً من جانب الولايات المتحدة. ولذلك، فإن النهج ذاته الذي كانت تتبعه الولايات المتحدة في مكافحة التطرّف في سورية سينتهي به المطاف إلى تفاقم المشكلة.
ما تحتاجه سورية بشدة هو حلٌ سياسيٌ مدعومٌ دولياً يكون أيضاً مقبولاً لدى الأصوات المحليّة داخل سورية، ويجب أن تلعب هذه الأصوات دوراً في التوصل لهذا الحل. ولكن حملة روسيا في سورية تُضعف كلاً من تلك الأصوات والمعارضة السورية في الخارج بانتظام من طريق تشويه مصداقيتها.
في أحد تصريحاته، وصف الرئيس ترامب النظام السوري («سورية» على حد تعبيره) ككيان محارب لتنظيم «داعش». ولكن على الرغم من أنه كان هناك الكثير من المعارك بين الجيش السوري وتنظيم «داعش»، كان آخرها إعادة الاستيلاء الثاني للجيش السوري (مع دعم روسي) على مدينة تَدْمُر من قبضة «داعش»، فإن النظام السوري كان قد سهّل عملية توسّع تنظيم «داعش» كلما رأى أن «داعش» يمكن أن يكون أداة مفيدة لإضعاف الجيش السوري الحر (كما حدث عندما سقطت تَدْمُر للمرة الأولى في قبضة «داعش»).
يرجع تصريح ترامب إلى نهج الأمن أولاً الذي أصبح السمة المميزة للسياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط منذ عقود. ولكن كما أوضحت الثورات العربية، فإنّ الاستقرار التي قد يأتي بصحبة الأنظمة الاستبدادية يعتبر وهمياً، وسوف يأتي بنتائج عكسية على المدى الطويل. والمشكلة الرئيسية لأي صانع سياسة خارجي هي تصميم استراتيجية تمتد الى ما بعد فترة حكمهم. ولكن من دون التفكير على المدى الطويل، ومعالجة الأسباب الجذرية، فسوف ينتهي المطاف بمناطق مثل الشرق الأوسط بوقوعها في حلقة مفرغة من الاضطرابات.
يقوم تقرير جديد نشره معهد «تشاتام هاوس» بعنوان «السياسة الغربية تجاه سورية: تطبيق الدروس المستفادة» بتحديد معايير الانخراط الغربي في الأزمة السورية والتي ترتكز على التحليل النقدي لتصرفات الغرب (وتراخيه) خلال السنوات الست الماضية. يركز التقرير في شكل خاص على سورية ويوجّه معظم اهتمامه الى الولايات المتحدة، ولكن المعايير المذكورة في هذا الأمر تنطبق على ما هو أبعد من أزمة سورية، وينبغي أن تكون أيضاً مبادئ توجيهية لجميع الدول الغربية عند تعاملها مع الشرق الأوسط عموماً: يجب أن يكون التصريح السياسي الخارجي مصحوباً بالعمل، وإلا فإنه يخاطر بخلق أعداء مستريحين وحلفاء غاضبين. كما أن تدابير الإجراءات العسكرية والأمنية وحدها لن تقضي على التطرف. لن يكون هناك استقرار على المدى الطويل من دون التوصّل إلى حل البعد السياسي لمشكلة الأمن. وسوف يعمل الإبقاء على الأنظمة الاستبدادية على تفاقم التظلمات، مما يؤدي إلى عدم الاستقرار في المستقبل.
من المشكوك فيه ما إذا كانت إدارة دونالد ترامب ستعتنق تلك المبادئ. لا يبدو أن الشرق الأوسط على رأس قائمة أولويات الإدارة الأميركية. بطريقةٍ ما، فإنّ إدارة ترامب تُعدّ تتويجاً لمسار الانعزالية الذي اتخذته الولايات المتحدة في عهد أوباما في شكل متزايد. لكن تجاهل مشاكل الشرق الأوسط واعتبارها قضايا غير مؤثرة في المصالح القوميّة للولايات المتحدة خطأ فادح. ومع استمرار الصراعات في التشكّل، سوف تجد تلك الصراعات طريقها إلى الأراضي الأميركية في النهاية، سواء كان ذلك حرفياً أو في شكل مجازيّ. وقد تعرّض حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا بالفعل لآثار النزاع السوري في شكل مباشر وغير مباشر، ليس فقط على شكل هجمات إرهابية متعددة ولكن أيضاً من خلال أزمة المهاجرين.
لقد حان الوقت لكي يكون الغرب في شكل عام والولايات المتحدة في شكل خاص قد تعلموا من دروس الماضي القريب. فبعد مرور عقد ونصف تقريباً، لا يزال العالم يعاني من آثار غزو العراق عام 2003. وكما تبدو الأمور في سورية اليوم، فمن المحتمل أن يتحوّل الصراع ولكن من دون أن يُحسم لفترة زمنية طويلة. وهذا في حد ذاته هو انعكاس لعدم وجود قيادة ورؤية للولايات المتحدة. إذا ما استمرت السياسة الخارجية للولايات المتحدة على هذا المسار، فسوف تكون التوقعات بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط قاتمة.
نقلا عن الحياة