العفو.. هذه الكلمة التي لم تألُ الكتب السماوية والأنبياء المرسلون والأئمة الصالحون من الحث على تطبيقها مع العدو والصديق، مع المسيء والمحسن، مع العاقل والجاهل، وما أغنى كتب التاريخ بوقائع وقصص وحكايات، مثـَّل العفو فيها أسمى سمات الرجولة والشهامة، وأرقى المعاني الإنسانية النبيلة، ونحن المسلمين لنا في رسول الله أسوة حسنة، فيما اتخذه من تصرف حيال سادات قريش عند فتح مكة بيد المسلمين، حين قال قولته التي تمثل العفو عند المقدرة: “من دخل دار ابي سفيان فهو آمن”. ذلك الموقف الذي يجسد القيمة العليا المنشودة من العفو، تلك القيمة التي تزيد من شأن العافي عن المسيء، وفي ذات الوقت لاتقلل من شأن المسيء. بل تفتح أمامه أبواب العدول عن عمله او فعلته أو رأيه، والرجوع عن غيِّه ليصطف مع معيته في مسيرة الحياة، والكلام حتى اللحظة عن أخطاء تغتفر وزلات بالإمكان التغاضي عنها، وهفوات يكون الصفح فيها أنفع من العقاب.
ماذكرني بالعفو هنا، هو ما يدور بين الحين والآخر من حديث عن قانون العفو العام الذي ندر مايخلو بيت عراقي من متابعة أخباره، وما وصلت اليه الحكومة والبرلمان من البت في إصدار قانونه وتفاصيل بنوده ومواده وفقراته. وما ذاك إلا لكون الكثير من ذوي الأسر العراقية نزلاء في السجون كمحكومين او غير محكومين، وكلهم بانتظار الفرج والإفراج، لاسيما ان هناك بريئين منهم يقبعون منذ سنين خلف القضبان من دون ذنب. ومنهم من أذنب فعلا ولسان حاله يجسد ما أنشد الشاعر الذي يتوسل العفو من الخليفة بعد ذنب أقرّ به:
أتيتُ جرما شنيعا وانت للعفو أهل
فان قتلتَ فعدل وان عفوتَ فمنّ
العفو إذن فوق العدل، وكيف لا! وقد وعد الله الـ (عافين عن الناس) خيرا، ومن أسمائه الحسنى (العفو) وقد اقترن العفو بالعدل في مواضع عدة من كتاب الله، وكما هو رب المحسن؛ كذلك هو رب المسيء. وفي شأننا العراقي اكتظت سجوننا بالمذنب والبريء على حد سواء، ومطلوب من حكومة العراق ورئيسها ومن البرلمان ورئيسه ومن الدولة ورئيسها، ان ينصفوا الأبرياء، بعد التحقق من براءتهم والتأكد منها، كذلك إعطاء فرصة امام من أذنب وأقر بذنبه، بعد التأكد من صدق نيته بتحسين سيرته وسلوكه، ليكون عنصرا كفوءًا في المجتمع يسهم في بنائه بالشكل السوي القويم.
ولكن، يجب توخي الحذر من قبل مشرعي هذا القانون، وعليهم غربلة المذنبين والمتهمين والمدانين، وكذلك غربلة الجرائم والجنح التي ارتكبوها، والتفقه بمآلات إصدار العفو عمن أساء بشكل مبالغ فيه للشعب العراقي، لاسيما الذين يدخل الإجرام بطباعهم وسلوكهم الذي تثبته الجهات الإجتماعية والطبية المسؤولة عن ذلك، فهم سيعيدون الكرّة تلو الكرّة في سوح المجتمع، وبذا سينطبق عليهم بيت الشاعر سعد بن سعيد الذي يصور فيه كيف جوزي عفو الرسول في فتح مكة بما حدث لسبطه في كربلاء، ومع أن القصة والأبيات والواقعة معروفة للجميع، إلا أن تكرارها في أكثر من مقام ومقال قد يسهم في إبعاد قانون العفو العام عن شبح إقراره بصيغته الحالية، فتكون إذاك الطامة الكبرى بشمول من لايستحق العفو والصفح والغفران به، يقول سعد:
ملكنا فكان العفو منا سجية
ولمـا ملكتم سال بالدم أبطح
وحسبكم هذا التفـاوت بيننـا
وكـل إنـاء بالذي فيـه ينضح