18 ديسمبر، 2024 7:38 م

منذ تعرّفنا على الشكل البدائي لما نسميه جزافاً (الدولة)، ونحن نقضي شطراً كبيراً من أعمارنا ندور بمعاملات رسميّة يبقى بعضُها على عتبة الإنجاز من دون أن تتخطاها.. معاملات يجد الموظفون الحكوميون لذّة كبيرة في إيجاد ما ينقصها من وثائق مهما بالغنا في الحرص على إكمالها.. فإن لم يجدوا، شكّكوا بوثيقة ما وطلبوا التحقّق من صحّة صدورها!!
     لإنجاز معاملة رسميّة، يقضي كثيرون نهاراً كاملاً في دوائر حكوميّة لا تهتمُّ بتأمين أبسطِ شرط من شروط الراحة لمراجعين يقضون جلّ الوقت وقوفاً في العراء. ومع أنّ جميع الدوائر الحكومية على هذه الشاكلة، إلاّ أنّها في مدينة الصدر قاسية بدرجة كبيرة جداً، ليس بالإمكان مقارنتها بمثيلاتها لاكتظاظ هذه المدينة وللإهمال الشديد لها.
    مديرية أحوال مدينة الصدر، مثلاً، تقبعُ في بناية صغيرة من ثلاثة طوابق، لا يبدو من طراز بنائها أنها صُمّمت لتلائم مسمّاها، فهي لا تستوعب عدد مراجعيها الكبير لضيق مساحتها وقلّة موظفيها. ولكي تفوزَ بهوية الأحوال المدنية ينبغي أن تنتقل من طابور طويل إلى آخر قد يكون أكثر طولاً من سابقه.. طوابير تشبه المتاهة في بعض تفاصيلها.. يمكن أن تهتدي إلى الفتحة الضيّقة للشبّاك التي يفضي إليها طابورٌ ما، لكنك ستضلُّ الطريق إلى نهايته كي تبدأ مشوار وقوفك الطويل!!
    ليس في البناية سوى سُلّم وحيد ضيّق بدرجاتٍ مهشمّة، عليك لكي ترتقيه الوقوف في طابور بطيء آخر.. سلّم على المراجعين أن يقطعوه صعوداً ونزولاً بأجساد يلتصق بعضها ببعض بسبب الزحام الشديد.
    إذا أكملتَ مشوارك ودفعتَ بمعاملتك المنجزة إلى الموظف المسؤول، تجد نفسك في واحدة من قاعتين متقابلتين تتشابهان في أدقّ تفاصيلهما.. قاعتان لن تعرف في أيّهما ينبغي أن تنتظر الموظف الذي يحمل الهويات المنجزة إلاّ من حركة تنشط فجأة في الحشود.. قاعاتان بائستان لا يؤثثهما سوى بضعة كراسي حديدية أصابها الصدأ وعمّتها فوضى القِدم، ومروحة سقفيّة تدور بشقّ الأنفس، وشمعة فلورسنت يتيمة ونوافذ بلا زجاج.
     البناية، عموماً، انموذج للامتهان والإهمال الشديدين اللذين يتعرّض لهما أي مواطن يُحجم عن اللجوء للواسطة أو الرشوة بغية إنجاز معاملة. ضخامة حشود المراجعين وتكدّسهم في أمكنة ضيّقة تغيبُ عنها أبسط الشروط الصحية، فهي ـ البناية ـ تصلحُ أن تكون أحد معتقلات النظام المقبور. دورات المياه غائبة تماماً، برغم أنّ كثيراً من معاملات المراجعين تخصّ أطفالاً وشيوخاً مرضى عليهم أن يصموا آذانهم عن نداء الطبيعة. وفضلاً عن عدم وجود الماء، فإنّ البناية تعتمد على الكهرباء الوطنيّة التي تنقطع لساعات طويلة بما يؤخّر (كبس) الهويات، ويجعل تلمس الطريق صعباً، ويحوّلُ البنايةَ إلى فرنٍ ساخن يشحّ فيه الهواء.
   ولي هنا أن أتساءل بلوعةٍ، كيف يمكن لدولة تنشدَ وجود استمرارها في ضمير مواطنيها إن هي أصرّت على إهمالهم بهذه الطريقة الفاضحة؟ سؤال لا أرجو له إجابة.. مكتفيّاً بحسرة أن أزفره فقط! .
[email protected]