تمنح الألوان لكتل الاشياء الثابتة والعائمة والمتكلتة والسائلة والعاقلة والجامدة تمنحها خصوصية التكوين والانتماء والمزاج . واللون هو تسمية لصبغة ما نراه لنشعر أن الشيء يرينا ويُعرفنا بهويته من خلال لونه ، لهذا نشاهد ان الاشياء قاطبة تقترن بلون وكذلك المشاعر والاحساس ، فأذا كان ماء البحر شيء ومادة محسوسة ولونه أزرق ، فأن الخجل مشاعر ولونه أحمر ، وإذا كان لون ورق الصفصاف اخضر فأن الغيرة لونها صفراء ، غير أن لون الشيء ثابت ومنظور ومحدد ـ، ولكن لون هاجس تخيلي وافتراضي .
كثيرون كتبوا في اللون وخصوصا ما كان يهم الفن التشكيلي وتأثيره في اللوحة ، غير اني أيام الجيش أدمنت على قراءة كتاب جمالي لغاستون باشلار عنوانه ( جماليات المكان ) وهو لم يكن مخصصا لدراسة الالوان إلا أن قراءة عميقة لتلك الامكنة الواقعية والمتخيلة والهامشية التي تحدث عنها باشلار ترينا تأثير وقوة اللون في تشكيل وتكوين الامكنة .
يومها أدركت أن اللون ليس سوى عبارة عن تشكل نفسي لرغباتنا وثقافتنا وتصرفاتنا ، وقد عرفت هذا من خلال احد رفاق الربيئة التي عشنا فيها بتعداد ستة جنود فوق جبل في منطقة بنجوين اسمه ( تاريار ) .
وقد كان هذا الجندي الذي تم سوقه للجندية بعد ان تخرج من قسم علم النفس في كلية آداب بغداد ، كان متعكر المزاج وحزين ومرتبك دوما ، لهذا فأنه حين يهجع الى ملجئة في ساعات الراحة والنوم ينزع قميص العسكرية ( الخاكي ) ويرتدي بدلا عنه قميصا اسودا ، ثم يتمدد على ( يطغه ) بهدوء وينام .
لهذا كان الجنود يتندورون عليه فيما بينهم ويسمونه أحمد ( ظلمة ) . ومرة سمع ذلك اللقب ، ولم يقدم على اي رد فعل بل قال : لن ارتدي قميصا ابيضا ، حتى لو خرج اجدادكم من القبور.
بين قميص ( أحمد ظلمة ) والمكان الشمالي كنت اقارن ، فأشعر أن قميص الجندي الاسود ليس سوى نقطة صغيرة في البحر الاخضر الذي يحتويه المكان ، السفوح الخضراء وغابات الجوز والبلوط الاخضر ، ومزارع بعيدة لحقول قمح بدأت ترتفع قاماتها على الارض مع اول زخات لمطر الشتاء.
في بيئة الاهوار يكاد الاخضر والاسود يتمازجان عبر منظورين (المادي والحسي ) . فالمادي لونه اخضر وابدي ولم يتغير حيث لون القصب الذي يمتد على جسد المكان من اطراف بيوت القصب وحتى مدى لا منظور له سوى زرقة افق تختلط مع الخضرة الواسعة لتخلق لنا لغزا ساحراً لطبيعة تشعر أن اسرارها في ذلك العمق الذي لم تصل اليه حتى سفن السندباد .
أما الحسي فهو الاسود المتشظي في اغلبه الى لونين أما الأحمر أو الاخضر ، والاسود في حياة المعدان يسكنهم وبكل مستوياتهم الأجتماعية عندما تظلم وجوههم لموت احدهم ، وأكثر السواد عتمة في حياتهم هو حين يغرق احد الاطفال في مياه الاهوار الضحلة فلا يستطيعون انقاذه ، ولكنهم لايرتدون لهذا الموت الثياب السوداء ، غير انهم في ايام محرم يرتدونها بشكل جماعي .
الذكور والاناث ، فتكون ايام عاشوراء عبارة عن قطعة سوداء قد تتشطى في تلوينها ببعض متغيرات اللون حين يعلق الكثير منهم على ( شبة ) مضائف القصب او البيوت رايات خضراء ، تتوسطها كف محناة ، هي الكف المقطوعة لابي فضل العباس ع والذي افتدى اخيه الحسين ع في معركة طف كربلاء.
مرات وأنا أنظر لهاجس وطبيعة اللون في الاهوار يتداخل معي تأثير الموروث في اقتناء اللون وارتداءه كثوب او تعليقه كراية ، ولكن الذي انتبهت اليه ان اللون ايضا يساهم في تركيبة القسم الذي يَقسمُ فيه المعيدي ليثبت لمحدثه ان جاموسته غير مريضة عندما يريد بيعها او ان سمكه ليس غابا أي تم صيده منذ يوم ، أو ان بضاعته من الخريط ليست رطبة عندما يأتي رجل من مدينة الجبايش ليشتريه ويسوقه الى المدن الحضرية .
ومرات يتداولون القسم فيما بينهم لاقناع احدهم الآخر بقضية أو خلاف ما ، فأشعر أن هناك لونين يرتبطان بالقسم الذي يؤدون لصنع القناعة بين المتكلم والمستمع ، فالأحمر يقترن بالقسم الذي يكون فيه اسم الامام الحسين حاضرا ، فيقسم لك ويقول : ودم الحِسِينْ . ويتبدل اللون في قسم آخر حين يقسمون بالعباس لنفس الغرض ويقولون :وراية العباس .
الدم أحمر . والراية خضراء . تناوب وتداول في حسية المشاعر وما يسكنهم من انتماء الى قضية ومذهب فيكون اللون هو المشترك للتعبير عن تلك المشاعر بحسيتها وقصديتها ومضمونها.
صورة الأخضر والاحمر هي صورة البيئة في وجودها وتكوينها بالرغم من الفطرة والامية التي تسكن ارواح وعقول معظم سكان قرى القصب ، لكن الباطن فيهم يقودهم بهاجس غريب ومتقن السلوك والمؤثر صوب دقة وانتماء وثقافة اختيار اللون للواقعة التاريخية والفكرية الذي ينتمي اليه.
تشكل اللون مع الفطرة والهاجس الخفي في ارواح المعدان يقودهم وبذات الفطرة ان يجعلوا انتماء قسمهم في مجادلاتهم اليومية الى اللونين الاحمر والاخضر ، أنما هو انتماء الى المعتقد الذي توارثوه بذات الفطرة والمشاعر والحزن الذي يأتيهم بموسم محسوب هو موسم عاشوراء.