في مدينة القاسم، حيث يُصافح الفجر ضوء النخل، ويكتب نهرها حنينه على سطور السواقي، وُلد أحمد جاسم الخيّال في صيف عام 1968، ليكون أحد أولئك الذين خُلقوا من وهج الحروف، وتربّوا في حضن اللغة، وارتضعوا من مجازاتها كما يرتضع الطفل من أثداء الأساطير.
كان الطفل الذي خطا نحو مدرسة “موسى بن نصير” لا يحمل في حقيبته سوى قلم، لكنه كان يحمل في قلبه حبرًا يتوق أن يصير ديوانًا. ومنذ تلك اللحظة، كانت القصيدة تعدّ له مقعدًا بين أبنائها، حتى نشرت أولى قصائده عام 1986، وكان بعدُ طالبًا في الرابع الإعدادي. ومنذئذٍ لم تغب عنه الكلمة، لا في يقظته، ولا في حُلُمه.
نال الشاعر شهادة البكالوريوس في اللغة العربية من كلية الآداب، جامعة بغداد عام 1992، ثم نهل من نبع الدراسات العليا حتى نال الماجستير من جامعة القادسية عام 2008، والدكتوراه من جامعة بابل عام 2013. غير أن شهاداته لم تكن أوراقًا معلّقة على جدران الإدارات، بل كانت مفاتيح فتحت له أبواب التأمل، وأقلامًا زادت من توهّج مداده.
يكتب الخيّال الشعر والقصة، لكنه حين يكتب كأنما يعجن الحروف بتراب الوطن، ويقطّرها من وجد روحيّ عميق، فنصوصه تحمل حسًّا صوفيًا ونبضًا إنسانيًا مشوبًا بعشق للحق والجمال. وقد نالت قصائده جوائز مرموقة، مثل “مسابقة الجود العالمية” عن قصيدته “سجدة على أرض الجود”، وجائزة “سيد الأوصياء”، وجائزة “شاعر الحسين” في البحرين لعامين متتاليين، وجائزة كركوك للقصة القصيرة، وجائزة “بهم انتصرنا” التي حيّت بطولات الحشد الشعبي.
ويعدّه النقاد واحدًا من أبرز الشعراء الذين جمعوا بين الموهبة والصنعة، بين الحسّ الديني الرقيق واللغة الفخمة. يقول عنه أحد النقاد: “أحمد الخيّال لا يكتب قصيدة المناسبات، بل يمنح المناسبة حياتها الشعرية الخاصة، فلا تعود مجرد ذكرى، بل طقسًا من طقوس الشعر، ونبضًا من أعماق التجربة الإنسانية.”
ولم يكتفِ الخيال بكتابة الشعر، بل كان مثقفًا موسوعيًا، وأكاديميًا جادًا، فقد نشر أكثر من خمسة عشر بحثًا علميًا محكمًا، وشارك في مؤتمرات علمية وثقافية لا تُحصى. كما تبوّأ مناصب ثقافية مهمة، منها رئاسة المنتدى الأدبي في القاسم، ورئاسة الهيئة الاستشارية للبيت الثقافي في المدينة، وكان رئيس تحرير لمجلة “المحقق” العلمية المحكمة.
أما مؤلفاته، فهي منارات تتوزع بين البلاغة، والتفسير، وسِيَر الأئمة، والشعر. نذكر منها: أضرحة الماء (ديوان شعري خاص بأهل البيت)، يقظة النعناع، ونهارات شطبتها التقاويم، ومرايا الأنهار تبتكر الوقت، كتابه البلاغي المهم الأشكال البديعية في القرآن الكريم، وكتابه المثال الإلهي علي بن أبي طالب (ع) الذي استخلص فيه شخصية الإمام من ضوء النصوص وجلال المعاني.
وقد أحيا الخيال بقلمه شعر المديح لا بوصفه تكرارًا تقليديًا، بل كموقف روحي ومعرفي، فقصائده الحسينية مثقلة بدموع التاريخ، وموشّاة بماء الوجد. وهو في هذا يُشبه شعراء الطف القدامى الذين مزجوا بين الرثاء والتحليل، بين العاطفة والرمز.
ولئن كانت القصيدة لدى البعض وردةً للزينة، فهي لدى أحمد الخيّال صلاةٌ، ورايةٌ، وسلاح. ولهذا لا يمكن أن يُذكر اسمه إلا مقرونًا بالصدق، فكل بيتٍ كتبه يشهد أنه عاشه قبل أن يخطّه.
ولعلّ أجمل ما يقال في وصف أحمد الخيّال أنه من الشعراء الذين لا يكتبون لأنهم يحسنون الكتابة، بل لأنهم لا يستطيعون أن يتنفسوا دونها… وكأن القصيدة هي هواء الروح، وهي الطريق، وهي الوطن حين تضيق الأوطان.
من شعره قصيدته “مطرٌ مكرّر” وهي تستند إلى رؤية تأملية سوداوية، تعكس حالة من الخيبة الجمعية المتكررة، وتوظّف رموزًا دينية وتاريخية (كيوسف والبئر، والمطر، والليل) للدلالة على الانتظار العقيم والانبعاث المؤجَّل، وموضوعها تأمل في واقع مأزوم، محمّل بالتكرار، والخذلان، وتعب الذاكرة الجمعية. واسلوبها نثري مشحون بالشعرية، يعتمد على الصورة الرمزية والتناصّ، دون التزام بوزن تقليدي. أما لغتها فهي كثيفة، إيحائية، فيها تلاعب دلالي ولغوي، وتوظيف لصور مفارقة ومركّبة. وثيمتها المركزية: المطر كرمز للخلاص المتكرر بلا جدوى، يقابله التكرار التاريخي للألم والانتظار. والقصيدة تُجسّد وعيًا مأزومًا بالحاضر، وهي دعوة خفية للتأمل لا للثورة، تعبّر عن الإعياء أكثر من الأمل. ورغم طابعها الفلسفي، لكنها مشحونة بجمال شعري كبير. الشاعر هنا لا يصرخ، بل يتأمّل بألمٍ داخلي، يزن المفاهيم، ويحوّلها إلى رموز. لا شيء مباشر، كلّ شيء متخفٍ خلف صورة أو إشارة.