من أجل أن تنهض أية أمة راكعة أو ساجدة أو حتى في حالة النوم العميق أو الإغماء، لابد أن تحدد ما الذي تحمله على أكتافها من أحمال وهي تنهض، فحملها لاسم ملوث حمل زائد، وحملها لشعار مستهلك حمل زائد، وحملها ما له تاريخ من الأوزار حمل ثقيل يقعد أي حراك، فنهضتها والحال هذه وهم كبير، فتشخيص الحالة، وتحديد الهدف لا يكفي بلا معرفة متطلبات الوصول إليه، ومتطلبات الوصول هي: أن توافق سنن الكون وأسس الخليقة.
إن طريقة التفكير القبلية لم تفارق هذه المنطقة، فعقلية المطاولة وعار التراجع، ورفض الجديد، حتى يستسلم له مع الزمن فيصبح قضية بدلا من القضية التي جعلت الناس يقاومون هذا الجديد المرفوض والذي دفع الدم في مقاومته، وللتوضيح، كان هنالك رفض داخلي لتقسيم البلاد بعد الحرب العالمية الأولى من القوميين لبلاد العرب، ومقاومة الناس لانفكاك الخلافة العثمانية وعزلها ثم سقوطها، فكانت الأيدولوجيا تحاول استعادة الوحدة العربية، وأخرى تنادي باستعادة الوحدة الإسلامية، وتتصارع في جدل عقيم هل البيضة من الدجاجة؟ أم الدجاجة من البيضة؟ ولا يملك كلاهما آلية أو معطيات على الأرض، وتغلب هذه الغوغائية في التفكير السياسي أسقط الأمة في هذا الحضيض، واليوم نراها تدافع عن سايكس بيكو التي رفضتها وكأنها قدر مقدورا، وتقدس أعلاما وألوانا وضعوها لهم، فأصبحت الخريطة كما هي وليس تبديل الخطوط هي القضية، بل تتصارع النظم (المبددة لفكرة القومية) على الحدود، لماذا؟ لأن السلطة تمكنت غريزيا من هؤلاء وأضحت الأيدولوجيات محض إعلانات ومناداة للوصول إلى السلطة طغاة لا بناة؛ فلا يهمهم النموذج وإنما ذاتيتهم التي لا تحتوي على صلب القيمة ولا صدق الاعتقاد.
وهذا تماما هو عين كفاءة منظومة تنمية التخلف، لأن الأوضاع لا تذهب إلى تحسّن، فترى الناس دومًا تقارن اليوم بميزات مفقودة من الأمس وتنسى سلبياته، لأنها ببساطة مستمرة وإن السوء يزداد يوما بعد يوم، وفي المقابل لا رؤية ولا تفكير بالمستقبل إلا من خلال تبديل التسميات وتحوير الأيدولوجيات لنيل السلطة وموضع الظالم، وكأن الشعوب أغنام يتناوب على ملكيتها المغامرون فالسلطة المجردة غالبا فرعونية ناجزة، وان سجل العصر الحديث من فاق فرعون.
الأمم التي تنحدر حضاريا وتتخلف مدنيا لن تجد حلا لها بأساليب مجربة وإنما عليها الاجتهاد في ابتكار الجديد.
هذا التخبط الكبير يرافقه طمع من يعوّم وضعه كالعملة في سوق العملات ألمضطربة لعلّه يثبت حالة دائمة في ظرف استثنائي متاجرة أو مهاترة، ناسين أن الأمر أبعد من استحصال مكاسب من دماء أمة جريحة، وأن الأمور الاستثنائية تؤشر إلى حاجة ملحة نحو الاستقرار، والعاقل من ساس الأمور على وضعها الصحي، فإن صحّت استوت مصالحه في مكانها، وإن لم تصح برزت في وجدانها.
أمور لابد تفهم كحقائق:
تجارب الأقوام ــــالغرب خاصة ـــ وإسقاطات تاريخهم علينا فكريا؛ وانعكاساتها في حياتنا كان لها أبعد الأثر في تدهور الحال، فجاءت الانطباعات القومية والدينية وغيرها من الأفكار غير الناضجة وكلها ترى الحلول بنقاط إخفاق في التاريخ أيدولوجيات لا تطبق لأنها بلا آليات والنتيجة أنها امتطيت من الطامعين بدل أن ترفع.
تسمية نظام الحكم ليست مهمة إن صدقت النوايا، فلابد أن تتوجه إلى تحرير الناس من الظلم والتخلف ثم إلى التنمية وترك خياراتهم لأنفسهم، الحرفية في الفكرة دون تفكير بالمعنى انطباع قاتل وحمل ينبغي إلقاءه خارج العقلية البناءة وإتاحة الفرص للناس للفهم ضمن ضوابط توضع حينها كأي دولة في العالم تحمي مجتمعها مما تظنه أفكارا لا تنفع في مسيرته نحو التنمية والمدنية والرفاهية.
العقلية البناءة:
حينما تريد بناء مجتمع تبنيه على المتفق عليه لا على الخلافات والظنيات التي كلها لها منطق عند حاملها يختلف عن منطق غيره، فلا يمكن جعل الناس صورة واحدة.
لقد ثبت من خلال الحركة التاريخية والتجريبية، أن أي فكر أيديولوجي، يوصل مجموعة من الناس متنفذين في حزب، أو مجموعات عشائرية أو أسرية أو عائلية إلى السلطة والثروة ولكن لا يزيل عن المجتمع مشاكله بغياب برنامج واعد وأنها دوما تسير في التأثير الإيجابي بتناسب عكسي فلا ينتقل عن كونه إعلانا دعائيا وحقيقته انه فكر معطّل عمليا، ففي التضحيات يدفع أقلها المتنفذ، لكن الميزات يأخذها أصحاب النفوذ ولكل قاعدة شواذ.