18 ديسمبر، 2024 7:52 م

كان يمكن أن يحقق الدكتور برهم صالح أمنيته في تحقيق ما يمكن تحقيقه من نزاهة في الانتخابات النيابية المبكرة القادمة المقررة في 10 تشرين الأول المقبل لو كان هو رئيس الوزراء بدل مصطفى الكاظمي، بما يملكه من مواهب عجيبة في صنع الأصدقاء والحبايب، وبما لديه من صبر وطول بالٍ وباعٍ في السياسة والعلاقات العامة الدافئة مع الفئات والأشخاص والأحزاب والقوى الفاعلة على الساحة العراقية، صغيرها وكبيرها، وبما له من رصيد ضخم من الوشائج المتينة مع القوى الإقليمية والدولية المتداخلة مع القضية العراقية، شرقية وغربية، وهو فارق عظيم جداً بينه وبين زميله الكاظمي.

ورغم أن الإحتلالين، الأمريكي والإيراني، قد أفرغا منصب رئيس الجمهورية من كثير من وهجه وقوته وفاعليته وهيبته، إلا أن كياسة برهم صالح المرفوقة بشجاعة، مع عمق ثقافة، حررت كرسي الرئاسة من قيوده، وأخرجته من سكونه وسكوته إلى حدٍ بعيد.

وأخوّل نفسي، هنا، بالحديث عن وطنية الرئيس برهم العراقية، وذلك بحكم معرفتي القديمة الطويلة به، وجلسات وأحاديث متنوعة عديدة، وهو خارج السلطة وداخلها، وقبل أن تولد فكرة ترشحه لرئاسة الجمهورية بسنوات.

كنا متفقين في أهم القضايا الوطنية والإنسانية والسياسية، ورغم ذلك كتبت كثيرا من المقالات الساخنة ضده، أحيانا، وفي المسألة الكردية أحيانا أخرى، فلم يُرضِه بعضُها، ولكنه لم يسمح لخلافنا في الرأي بأن يقطع حبل المودة الثابتة التي لم يُدمها سوى عدم دخول المصلحة الشخصية إلى عالمها النظيف. فلم أطلب منه شيئا، ولم يُعطِني هو شيئا، منذ أن عرفته وعرفني، ولن يحدث  غير ذلك بتاتا.

إن كاكا برهم وطني عراقي صادق ومخلص، ولكن مع اعتزاز وإيمان عميقين بانتمائه القومي الكردي، وهو أمر لا يشكل عقبة تمنع الجمع بين الوطنية والقومية إذا كانتا في قلب سليم وعقل منير معافى من العنصرية والتطرف والعصبية. نعم هو يتمنى أن تكون لشعبه الكردي العراقي التركي الإيراني السوري دولةٌ واحدة مستقلة كباقي شعوب الدنيا المحظوظة الكثيرة. وهو ما يؤاخذه عليه بعض المُنكرين العراقيين المزايدين.

فكم من سياسي متشدد في عقيدته القومية العربية ثم كان عراقياً شديد الوفاء لهويته الوطنية العراقية، وصادقا فيها بقدر صدقه في ولائه لقوميته العربية، فأحسَنَ الأداء، وحفظ الأمانة، ولم يُعِقْه حماسُه لتحقيق حلم الأمة العربية الواحدة الموحدة من المحيط إلى الخليج عن بذل غاليه ورخيصه من أجل شعبه العراقي الواحد، ولم يفضل عراقيا على أخر بسبب الطائفة أو القومية أو الجنس أو الدين.

وعدلا وإنصافا لابد من الإقرار بأنه استطاع منع الكثير من الانتكاسات، والتجاوزات، وخفّف الكثير، أيضا، من الاحتقانات والأزمات بصمت ودون ضجيج.

وكاكا برهم الذي يجلس اليوم في غير مكانه المناسب لم يدّخر وقتا ولا جهدا من أجل تفعيل ما يملكه من علاقات دافئة وعاقلة ومتوازنة مع إيران التي تملك ثلاثة أرباع القرار العراقي اليوم، ومع خصومها العرب والأمريكان والأوربيين من أجل هدفين واقعييْن لا يتعارضان مع السيادة الوطنية، بل يزيدانها قوة ومتانة وهيبة.

الأول إقناعُ دول الجوار، وأولُها إيران، بأن العراق محكوم بجيرته الحسنة معها، كلِّها، ومتمسك بضمان مصالح جيرانه المتبادلة مع مصالحه الوطنية باحترام وحسن نوايا وتعاون على تحقيق الأمن المشترك وإرساء سلام عادل ودائم بين شعوبها.

والثاني، وهو المتولد من الأول، تأهيلُ الساحة العراقية الوطنية لتعود إلى أصلها ميداناً للتسامح والتآلف والتعايش السلمي بين مكونات الشعب الواحد، واستعادة سلطة القانون، وجعل الدولة العراقية الموحدة القوية الآمنة المزدهرة حزامَ أمنٍ راسخٍ لشعبها ولشعوب أشقائها وأصدقائها، دون تمييز ولا تفريق.

وحين يعلن الدكتور برهم صالح أن (نزاهة) الانتخابات القادمة  هي الفرصة الأخيرة للنظام السياسي القائم في العراق فإنه يدق ناقوس خطرٍ حقيقيٍ يتهدد العراق والمنطقة.

 فالظروف المحلية والإقليمية والدولية لن تصبر أكثر مما صبرت على الواقع العراقي المأزوم، وهي في أغلب الحالات لن تتحمل استمرار العراق عائماً في الفوضى والفساد والخراب والضباب زمنا طويلا آخر. فأمنُه أمنٌ للمنطقة والإقليم، واستقراره استقرارٌ لها، وإعادة إعماره إعمارٌ لها. كما أن عدم استقراره كان، في الأمس، وسيكون في الغد، مصدرَ قلق ومصنعَ قتلة وإرهابيين ومهربي سلاح ومخدرات إلى دول جواره دون شك.

وإذا لم يتمكن الناخب العراقي من اختيار الأصلح في الانتخابات القادمة فلا يمكن التكهن بما سيحدث بعد ذلك. فمقاطعة الانتخابات السابقة من قبل العراقيين، برأي كاكه برهم، كانت “لأنها لم تمثل إرادتهم الحقيقية، ولذلك انطلق الحراك الشعبي”. وهذه نقطة نظام من الرئيس برهم تشير إلى انتفاضة شعبية قادمة، لا محالة، قد لا تكون بردا وسلاما، هذه المرة، على الجميع.

يقول إن” المنظومةُ الحالية آن لها أن تتغير”.

هذا هو ملخص الحلم الذي يداعب خيال الرئيس كاكه برهم. فهل تسمح له إيران بتحقيقه، ثم توافق أمريكا والسعودية والإمارات والكويت وقطر والأردن وبريطانيا وفرنسا؟، اللهم آمين.