11 ديسمبر، 2024 11:58 م

أحزاب تولد لتعيش وأخرى لتموت

أحزاب تولد لتعيش وأخرى لتموت

محمد مهدي صالح وزير التجارة في النظام الذي أسقطه الغزو الأمريكي البريطاني الإيراني شخصيةٌ وطنية فوق الشبهات والظنون، ومثالٌ شامخ للنزاهة والشرف. ولأنه كذلك فلا يَشك أحدٌ في إخلاصه للنظام ولرئيسه الراحل صدام حسين.

وحين يتطوع ويكشف المستور مما حدث قبل الغزو بأيام لن يكون مغرضا يقصد الإساءة للحزب أو النظام أو الرئيس، بل كاتباً يملي على التاريخ ما عرفه، بأمانة.

في مذكراته المنشورة، وفي حديثه لقناة العربية قال إنه التقى، قبل الغزو بأيام، بالقيادة العليا، (صدام وقصي وعدي) فأمرَ الرئيس وزارتنا ووزارات أخرى  بتخزين المواد الغذائية والوقود وتوزيع الأسلحة على مختلف الوزارات والمراكز الحزبية، استعدادا لمنازلة الغزو الأمريكي المحتمل والتي كنا نتوقع أن تطول ستة أشهرٍ أو يزيد.  

وينقل عن صدام قوله، “إن العاصمة العراقية مُسورّة بثلاثة خطوط دفاع، ولذلك لن يستطيع الغزاة دخولها”.

ورداً منه على سؤال حول المعنويات قال، “إنها كانت في أعلى مستوياتها في الحزب والجيش والحرس الجمهوري والشعب، وكنا جاهزين، تماما، للقتال”.

ولكن الذي حدث أن الفريق الركن سلطان هاشم، وزير الدفاع، قال، بعفوية ودون قصد، ردَّا على سؤال لأحد الصحفيين الأجانب، إنه “يتوقع دخول القوات الأميركية بغداد في غضون أسبوع”. وكان هذا التصريح القصير كافيا لإحداث نزوح شعبي واسع، واختفاء مقاتلين كثيرين، حتى صرنا ندور على المواقع الحساسة فلا نجد سوى أسلحة وأعتدة متروكة، وقد هرب أصحابها.

إن الوزير يريد أن يقول إن القيادة كانت مؤمنة بأن ملايين المنتمين إلى الحزب والحرس الجمهوري والحرس الخاص وفدائيي صدام وملايين المواطنين مخلصون للنظام، ومستعدون للموت دفاعا عنه، ثم حدث على أرض الواقع أن الذين صمدوا من كل تلك الملايين نزر يسير مخيب للآمال.

والحقيقة أن هذا هو نفس الوهم الذي وقعت فيه أحزاب عراقية كبرى سابقة وجدت نفسها فجاة في سدة الحكم، مالكةً، وحدها، السلطة والمال والسلاح، فشرَّعت أبوابها لأفواج الداخلين إليها، طوعا أو كرها، فانتفخت، بسرعة، بالصادقين والكاذبين، وبالصالحين والطالحين. ثم عندما حقَّ عليها القول، وحان وقت شدتها كان الذين انتموا إليها بقصد الأخذ لا العطاء أول اللائذين بالفرار.

والمؤكد والظاهر والملوس أن هذه الحقيقة تغيب اليوم عن أحزاب  البيت الشيعي الحاكمة بالسلاح الإيراني، وخاصة قادة الحشد الشعبي الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد والنذالة والظلم والفجور، وأصبحوا هم الحكومة والجيش والقضاء، يخطفون ويقتلون ويسرقون، ويعتدون على أهل طوائف الوطن الأخرى، وعلى أبناء طائفتهم ذاتها، معتقدين بأن سلاحهم عاصمُهم من المصير القادم المحتوم، وبأنهم أصبحوا القوة القاهرة التي لن يستطيع أقوى أقوياء الداخل، وأعتى جبابرة الخارج، أن يهزَّ شعرة من رأس أمير من أمرائهم، حتى لو كان هو الإسكندر ذا القرنين أو طرزان.

ومن عاش أحداث 1959، مثلي، لابد أن يتذكر المقاومة الشعبية التي أنشأها الحزب الشيوعي العراقي، وكيف أصبحت صاحبة الأمر والنهي، وفوق الحكومة والجيش والشعب، إلى الحد الذي وجدنا معه مدينة تكريت الصغيرة المسالمة المعروفة بعمق انتمائها القومي والديني، وقد أصبحت ساحةً مغلقة للحزب الشيوعي التكريتي، يخرج فيها الناس، خوفا من بطشها، زرافاتٍ ووحدانا هاتفين، (عاش زعيمي، حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي).

ثم، وفجأة، وبخطاب واحدٍ ألقاه الزعيم الغاضب عبد الكريم قاسم، رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، في كنيسة مار يوسف ببغداد، حمَّل فيه الشيوعيين والقوميين الكرد مسؤولية المجازر الدامية التي حدثت في الموصل كركوك، في أعقاب حركة عبد الوهاب الشواف 1959، تبخرت وأصبحت كعصفٍ مأكول. وفي خلال أيام سلم آلافٌ من فرسانها أنفسهم للقضاء، وآلافٌ أخرى منهم أعلنوا البراءة منها ومن جرائمها، واعترفوا بأنهم كانوا مغفلين.

وفي العام 1963 شكل حزب البعث العربي الاشتراكي ما عُرف يومها بـ (الحرس القومي) الذي تحوَّل، في أيام، إلى حكومة داخل حكومة، حتى صار أصغر حارس قومي يستطيع أن يُهين أكبر راس في الحكومة والجيش والقضاء، دون حساب ولا كتاب، ثم صار الخلاص من هذا الكابوس ومن سلاحه المنفلت حلما بعيد المنال.

لكن، بطائرة هليوكبتر واحدة طيَّرها الراحل حردان التكريتي، وببضع قطعات عسكرية حركها الراحلون أحمد حسن البكر وعبد السلام محمد عارف وطاهر يحيى ورشيد مصلح، فيما سمي بـ (ردّة تشرين)، أصبح الحرس القومي طريد الشعب والحكومة والشرطة والجيش، ورأينا المئات من مسلحيه يسارعون إلى تسليم أسلحتهم لأقرب مركز شرطة، ويعلنون البراءة منه، وهم نادمون.

ثم عاد حزب البعث إلى السلطة في 1968، فأقام دولة صدام حسين، بعنفوانها وملايين أعوانها وفدائييها وقواتها العسكرية والأمنية والمخابراتية، ثم أصبح احتمال سقوطها، هو الآخر، وهماً من الأوهام. ثم أسقطته أمريكا في أيام وليس في شهور.

ولم يخطيء الرئيس صدام حسين حين شتم القاضي عبد الرحمن رؤوف في المحكمة، وقال له، (والله لو ما الأمريكان ما تقدر لا أنت ولا أبوك يجيبني لمكان مثل هذا).

فقد تناثر الحزب، وتبخر الحرس الجمهوري، وصفق مواطنون وشيوخ عشائر وأئمة مساجد وحسينيات لدبابات العلوج، وسقط ذلك النظام الجبار، في أيام قليلة، ليس بقوة الجيوش الغازية فقط، بل بسبب هروب ثلاثة أرباع الرفاق، واختفاء الملايين التي كانت، إلى ما قبل يومين، تتراقص وتصفق وتزغرد وتهتف (بالروح بالدم نفديك يا صدام).

إنه حكم الزمن. فكل حزب ينتفخ بسرعة، وتصيبه جرثومة غرور القوة، فيتكبر، ويتجبر، ويسفك الدماء لابد أن يموت.

والذي حدث لحزب البعث، وقبله للحرس القومي، وقبله للمقاومة الشعبية، سيحدث، لا محالة، لجماعة الحشد الشعبي، ودولة القانون، ومليشيا بدر، وعصابة أهل الحق، والتيار الصدري، وحزب طالباني، وحزب برزاني، يوما من الأيام، بإذن الله.