لقد أنتجت مرحلة أحزاب الزينة وما تلاها من سيطرة الولاءات القبلية والمذهبية، جوا نفسيا اجتماعيا لدى مساحات واسعة من الأهالي خلاصته؛ ازدراء كبير يصل حد الاحتقار لما يتم تداوله من ممارسات تسمى بالديمقراطية، حيث أظهرت وصول مجاميع من النكرات والمنحرفين إلى قبة البرلمان والحكومة، وانتشار الفساد بشكل مروع، وأصبح المواطن العادي يربط بشكل عفوي بين صفة الفساد وعنوان الوظيفة، ويربط كل هذه المعطيات كنتائج لتجربة الديمقراطية في بلاد ليس لديها لحد اليوم مفهوم متفق عليه للمواطنة والولاء خارج الدين والمذهب والعشيرة والمدينة أو القرية، ويعاني أغلبية سكانها من أمية أبجدية وحضارية ومستويات خطيرة من الفقر والبطالة، وتناحر بين مكوناتها منذ تأسيس كياناتها السياسية.
وبملاحظة سريعة لما يحدث اليوم في العراق وبقية ما يسمى بالربيع العربي، وطيلة السنوات الماضية، ما هو إلا نتاج تلك الفترة المظلمة من تاريخ هذه البلدان وتربية أنظمتها لعدة أجيال من الأهالي الذين ينفذون اليوم ما تعلموه خلال عشرات السنين، وشاهدوه وهم أطفال وفتية وشباب، ابتدءاَ من كرنفالات الإعدام التي كانت تنفذها الأنظمة في الشوارع والساحات العامة، وكيل الاتهامات الكاذبة جزافا لكل من يعارضها وانتهاء بتلك المشاهد البائسة والقاتلة من ( صور من المعركة ) التي كانت تبث يوميا ولثماني سنوات متصلة في العراق وليبيا ( في حربها مع تشاد ) وسوريا ( في احتلالها للبنان)، وتظهر آلاف الجثث الممزقة الأشلاء أو عمليات دفنها بالبلدوزرات على أنغام الأناشيد الوطنية، إلى تسطيح عقول ووعي الناس بتصنيع أحزاب وجمعيات مما كانت تسميه بالاتحادات والنقابات المهنية والفرق الفنية، التي لا هم لها ولا غم إلا التغني بالقائد الذي لا مثيل له في الدنيا وربما لو بقوا عدة سنوات أخرى لقالوا انه متعهد الآخرة أيضا.
واليوم تواجه بلدان ما يسمى بالربيع العربي، وأولها العراق الذي سبق ربيعهم بسنوات، نتاجات تراكم هائل من التربية الخطأ، التي تصل في كثير من مفاصلها إلى الخطيئة والسلوك المنحرف في تعليم وإشاعة الكذب والخوف والتدليس والاستكانة والقسوة وتحليل وإباحة المحرمات في المال والأعراف، وإرعاب الناس باعداءٍ مفترضين لا وجود لهم إلا في مخيلة تلك الأنظمة، التي لم تسقط ثقافتها وتربيتها بسقوط هياكلها الإدارية، وبقيت تبعاتها وسلوكيات أفرادها تنعكس بوضوح على أوجه وألوان حرباوية وأشكال هلامية وملساء تصلح للزينة وللقبح معا، وتمارس كل الأدوار الانتهازية والوصولية، من خلال إعادة تأسيس أحزاب من أرحام تكتلات وكيانات حكمت تلك البلدان بعد عاصفة الربيع المغبر، وتعمل على تدوير بقاياها لتعود ثانية من خلال مسرحية الانتخابات والتزويرات والفتاوى وتعليمات شيوخ العشائر والمرجعيات الدينية والمذهبية، وهي تتسابق منذ الآن لإنتاج مسرحيات انتخابية على مستوى الدولة أو العشائر، لتجييش الرعاع والغوغاء ممن أدمنوا العبودية واستكانة القطيع لمرحلة جديدة من اللصوصية والتخلف والضياع.
إن واحدة من اخطر العلل التي تواجه مجتمعاتنا التي عصفت بها عمليات التغيير الفوضوية سواء في العراق أو بقية بلدان ما يسمى بالربيع العربي، هو الوقوع بين مخالب القوى الدينية والمذهبية المتطرفة، وبعبارة أعم وأشمل اللجوء إلى الدين والعشيرة بعد فقدان دولة القانون والمواطنة، وربما كانت العلة الأكثر خطورة تكمن في كيفية اختيار شكل وطبيعة النظام السياسي الذي يتوافق مع النظام الاجتماعي والتراكم الهائل للعادات والتقاليد المتكلسة ويعاني من نمط متخلف من التربية والتعليم ومناهجها الدينية والتاريخية التي تكرس مفاهيم لا تتوافق مع معطيات العصر الحديث وحاجيات الإنسان المعاصر.
إن فشل تبلور مفهوم المواطنة خاصة في الدول ذات التنوع العرقي والقومي والديني، يعود بالأساس إلى الطبيعة القبلية لهذه المجتمعات، وفشل أنظمتها السياسية بفصل الدين عن السياسة بل عن الحكم برمته، وإبعاد فلسفته عن التعليم بكل مراحله، إلا ما يؤكد وجوده كمعتقد للإفراد وجب احترام خصوصيته في حدود الخاصية الشخصية ليس إلا، وما لم تنجح النخب السياسية والتكنوقراط من وضع دستور عصري، يؤكد على تعريف مدني للمواطنة، تسود فيه لغة القانون والانتماء الوطني فوق
النظام القبلي والديني، ويرتقي على كل هذه الانتماءات، ويحظر أي تنظيم سياسي على أساس ديني أو مذهبي أو عنصري، بما يكفل حقوقا متساوية لكل الإفراد بمختلف أعراقهم وقومياتهم وأديانهم، لن ينجح أي حزب أو مجموعة أحزاب في إقامة نظام ديمقراطي تسوده العدالة في كل مناحي الحياة.